يشكل اتخاذ القرارات جوهر حياتنا بشقّيها الشخصي والمهني، إذ إننا نتخذ قرارات كل يوم، وبعض هذه القرارات ثانوي وأسري وحميد، والبعض الآخر أكثر أهمية ويؤثر على حياة الأشخاص وسبل عيشهم ورفاههم. ومن المحتّم أننا نرتكب أخطاء طوال مسيرة حياتنا، والحقيقة الصعبة هي أن القرارات المهمة للغاية التي يتخذها الأشخاص الأذكياء والمسؤولون الذين يتمتعون بأفضل المعلومات والمقاصد تكون أحياناً مليئة بالهفوات.
لننظر إلى يورغن شريمب، الرئيس التنفيذي لشركة "دايملر بنز" (Daimler-Benz)، الذي قاد الاندماج بين شركتي "كرايسلر" (Chrysler)، و"دايملر" (Daimler) في مواجهة المعارضة الداخلية لهذا الاندماج . إذ إنه بعد تسع سنوات، أُُجبرت شركة "دايملر" في واقع الأمر على التخلي عن شركة "كرايسلر" في صفقة أسهم خاصة. كما أطلق ستيف راسل، الرئيس التنفيذي لشركة "بوتس" (Boots)، وهي سلسلة صيدليات تعمل في المملكة المتحدة، استراتيجية للرعاية الصحية تهدف إلى تمييز صيدليات الشركة عن المنافسين، وتحقيق النمو عبر تقديم خدمات الرعاية الصحية الجديدة مثل طب الأسنان.
بيد أنه تبيّن أن مدراء شركة "بوتس" كانوا يفتقرون للمهارات اللازمة للنجاح في تقديم خدمات الرعاية الصحية، وأن الكثير من هذه الأسواق لم تقدم سوى القليل من إمكانيات تحقيق الأرباح. وكانت هذه الاستراتيجية من العوامل التي عجّلت برحيل راسل عن منصبه الرفيع.
اللواء ماثيو بروديريك، مدير مركز عمليات الأمن الداخلي، الذي كان مسؤولاً عن تنبيه الرئيس جورج بوش وغيره من كبار المسؤولين الحكوميين في حالة اختراق إعصار كاترينا للسدود في مدينة نيو أورليانز، عاد إلى منزله يوم الاثنين 29 أغسطس/آب 2005، بعد أن أفادت التقارير أنّ هذه السدود على ما يبدو ستصمد أمام الإعصار، على الرغم من إفادة عدد من التقارير باختراق الإعصار لبعض السدود.
الحقيقة الصعبة هي أن القرارات المهمة للغاية التي يتخذها الأشخاص الأذكياء والمسؤولون الذين يتمتعون بأفضل المعلومات والمقاصد تكون أحياناً مليئة بالهفوات.
هؤلاء المدراء التنفيذيون كلهم كانوا مؤهلين تأهيلاً عالياً لوظائفهم، بيد أنهم اتخذوا قرارات سرعان ما بدا بشكل واضح أنها خاطئة. والسؤال هنا هو: لماذا وقعوا في هذه الأخطاء؟ والأمر الأهم من ذلك هو كيف يمكننا تجنب ارتكاب أخطاء مماثلة؟ وهذا هو الموضوع الذي كنا نستكشفه خلال السنوات الأربع الماضية، وقد دفعتنا الرحلة بعيداً إلى مجال يسمى علم الأعصاب الكامن وراء اتخاذ القرارات. إذ بدأنا بتجميع قاعدة بيانات من 83 قراراً شعرنا أنها انطوت على أخطاء في وقت اتخاذها. وقد خلُصنا من تحليلنا لهذه الحالات إلى أن القرارات التي تنطوي على أخطاء تبدأ بسوء تقدير من قِبل أفراد مؤثرين. وبالتالي، كنا بحاجة إلى فهم كيفية حدوث سوء التقدير هذا.
وسنبيّن فيما يلي الشروط التي تعزز سوء التقدير، ونستكشف السبل التي يمكن للمؤسسات أن تُدرج بها وسائل الحماية في عملية اتخاذ القرارات لتقليل مخاطر الأخطاء. وسنختتم بتوضيح كيف طبقت شركتان رائدتان هذا النهج الذي سوف نشرحه. بيد أننا نحتاج أولاً، لوضع هذه الأمور كلها في إطارها الصحيح، إلى فهم كيفية تشكيل الدماغ البشري للتقديرات التي يقوم بها.
كيف يُخطئ الدماغ؟
نحن نعتمد بشكل أساسي على عمليتين فطريتين في اتخاذ القرارات، إذ تقيم أدمغتنا ما يجري باستخدام عملية التعرف على الأنماط، ونرد على تلك المعلومات - أو نتجاهلها - بسبب العلامات العاطفية المخزنة في ذاكرتنا. وعادة ما يمكن التعويل على هاتين العمليتين، فهما جزء من ميزتنا التطورية، بيد أنه في ظروف معينة، يمكن للعمليتين أن تخذلانا.
والتعرف على الأنماط هو عملية معقدة تدمج المعلومات مما لا يقل عن 30 جزءاً مختلفاً من الدماغ. حيث نضع افتراضات، في مواجهة موقف جديد، بناءً على التجارب والأحكام السابقة. ولذا، يمكن للاعب الشطرنج المحترف تقييم مباراة في الشطرنج واختيار حركة متقنَة في أقل من ست ثوان بالاستناد إلى الأنماط التي رآها من قبل. بيد أن التعرف على الأنماط يمكن أيضاًًَ أن يكون مضللاً. فعندما نتعامل مع مواقف تبدو مألوفة، يمكن لأدمغتنا أن تجعلنا نعتقد أننا نفهم هذه المواقف في حين أننا في الواقع لا نفهمها.
وما حدث لماثيو بروديريك خلال إعصار كاترينا هو مثال يُحتذى، إذ شارك بروديريك في مراكز العمليات في فيتنام وفي عمليات عسكرية أخرى، وكان قد قاد مركز عمليات الأمن الداخلي خلال الأعاصير السابقة. وقد استخلص من هذه التجارب أن التقارير المبكرة المحيطة بحدث كبير غالباً ما تكون خاطئة، إذ من الأفضل انتظار "الحقيقة على أرض الواقع" من مصدر موثوق قبل التصرف. ولسوء الحظ، لم يكن لديه تجارب سابقة في التعامل مع إعصار ضرب مدينة بُنيت تحت مستوى سطح البحر.
وفي وقت متأخر من يوم 29 أغسطس/آب، بعد حوالي 12 ساعة من ضرب إعصار كاترينا لمدينة نيو أورليانز، تلقى بروديريك 17 تقريراً عن حدوث فيضانات ضخمة واختراق الإعصار لبعض السدود. بيد أنه تلقى أيضاً معلومات متضاربة، إذ أفاد سلاح المهندسين بالجيش أنه لا يوجد لديه دليل على اختراق الإعصار للسدود، وأظهر تقرير قناة "سي إن إن" (CNN) في وقت متأخر من بعد ظهر اليوم من شارع بوربون في الحي الفرنسي سكان المدينة وهم يحتفلون قائلين إنهم نجوا من الآثار المدمرة للإعصار. واستشفّ بروديريك من عملية التعرف على الأنماط التي قام بها أن هذه التقارير التي تنفي اختراق الإعصار للسدود كانت هي الحقيقة على أرض الواقع التي كان يبحث عنها. لذا أصدر، قبل أن يعود إلى منزله في تلك الليلة، تقريراً بشأن الموقف ذكر فيه أن السدود لم تتعرض للاختراق، على الرغم من أنه أضاف أنّ ثمة حاجة إلى إجراء المزيد من التقييم في اليوم التالي.
ويُعد التمييز العاطفي هو العملية التي ترتبط بها المعلومات العاطفية بالأفكار والتجارب المخزنة في ذاكرتنا. إذ تخبرنا هذه المعلومات العاطفية ما إذا كان يجب إيلاء الاهتمام لشيء ما أم لا، كما تخبرنا بشأن نوع الفعل الذي ينبغي أن نفكر به (هل هو فعل فوري أو مؤجل؟ وهل هو كر أم فر؟). وعندما يصيب عطب الأجزاء التي تتحكم بالعواطف في أدمغتنا، يمكننا أن نرى مدى أهمية التمييز العاطفي، إذ تُظهر الأبحاث العصبية أننا نصبح بطيئين وعاجزين في عملية اتخاذ القرارات، على الرغم من أننا نستطيع الاحتفاظ بالقدرة على التحليل الموضوعي.
ويساعدنا التمييز العاطفي، مثلما يفعل التعرف على الأنماط، في التوصل إلى قرارات عقلانية في معظم الأوقات. بيد أنّ من شأنه أيضاً أن يضللنا. ولنأخذ حالة شركة "وانغ لابوراتوريز" (Wang Laboratories)، الشركة الرائدة في مجال تجهيز النصوص في أوائل الثمانينيات. إذ قام مؤسس الشركة، آن وانج، إدراكاً منه للتهديد الذي يمثله ظهور الكمبيوتر الشخصي على مستقبل شركته، بصنع جهاز للمنافسة في هذا القطاع. ولسوء الحظ، اختار إنشاء نظام تشغيل خاص على الرغم من حقيقة أن الكمبيوتر الشخصي الذي تنتجه شركة "آي بي إم" (IBM) أصبح بوضوح هو المقياس المهيمن في هذا المجال. وقد تأثر هذا الخطأ الفادح، الذي ساهم في انهيار شركة وانج بعد عدة سنوات، بشدة بكراهية آن وانج لشركة "آي بي إم". إذ كان يعتقد أنه كان ضحية خداع تعرض له من قِبلها بشأن تقنية جديدة اخترعها في وقت مبكر من حياته المهنية. وقد جعلته هذه المشاعر يرفض نظام تشغيل يرتبط بأحد منتجات شركة "آي بي إم" على الرغم أن نظام التشغيل هذا يقدّمه طرف ثالث هو شركة "مايكروسوفت".
والسؤال هنا هو: لماذا لا يلاحظ الدماغ هذه الأخطاء ويصححها؟ السبب الأبرز هو أن الكثير من العمل العقلي الذي نقوم به هو عمل لا شعوري. وهذا يجعل من الصعب التحقق من البيانات، وحتى من المنطق الذي نستخدمه عندما نتخذ قراراً. إذ إنه عادةً ما نكتشف الأخطاء في نظامنا الشخصي فقط عندما نرى نتائج سوء تقديرنا. فلم يكتشف ماثيو بروديريك أن قاعدته المستقاة من واقع الخبرة والمتمثلة في رؤية الحقيقة على أرض الواقع كانت تمثل استجابة غير مناسبة لإعصار كاترينا إلا بعد فوات الأوان. كما لم يكتشف آن وانج أن تفضيله نظام تشغيل خاص كان معيباً إلا بعد فشل الكمبيوتر الشخصي الذي صنعه، في السوق.
ومما يضاعف مشكلة المستويات العالية من التفكير غير الشعوري عدم وجود الضوابط والتوازنات في اتخاذنا القرارات، إذ إن أدمغتنا لا تتبع، بطبيعة الحال، النموذج التقليدي للكتب المدرسية الذي يستند إلى عملية وضع الخيارات وتحديد الأهداف وتقييم كل خيار مقابل كل هدف. فإننا، بالأحرى، نحلل الموقف باستخدام التعرف على الأنماط والتوصل إلى قرار بالتصرف أم لا باستخدام العلامات العاطفية. وتحدث هاتان العمليتان بشكل فوري تقريباً. وفي الواقع، كما يُظهر البحث الذي أجراه عالم النفس غاري كلاين، فإن أدمغتنا تقفز إلى الاستنتاجات وتتردد في النظر إلى البدائل. وعلاوة على ذلك، نحن لا نجيد، بشكل خاص، إعادة النظر في تقييمنا الأوّلي للموقف، وهو الإطار الأوّلي الذي نشكّله.
تقفز أدمغتنا إلى الاستنتاجات وتتردد في النظر إلى البدائل، فنحن لا نجيد، بشكل خاص، إعادة النظر في تقييمنا الأوّلي للموقف.
ويوضح التدريب الذي نُجريه باستمرار في كلية "أشريدج لإدارة الأعمال" (Ashridge Business School) مدى صعوبة التشكيك في الإطار الأولي، إذ نُعطي الطلاب حالةً تُقدِّم تقنية جديدة بوصفها فرصة سانحة للشركة. وغالباً ما يعمل الفريق عدة ساعات قبل أن يشكك في هذا الإطار ويبدأ، بشكل صحيح، في رؤية التقنية الجديدة كتهديد رئيس لموقع الشركة المهيمن في السوق. وعلى الرغم من أن النموذج المالي يحتسب باستمرار العائدات السلبية من إطلاق التقنية الجديدة، إلا أن بعض الفِرق لا تشكك أبداً في إطارها الأصلي وينتهي بها الأمر إلى اقتراح استثمارات مكثفة.
دق ناقوس الخطر
عند تحليل كيف للقادة البارعين اتخاذ قرارات خاطئة، وجدنا أنهم تأثروا في الحالات كلها بثلاثة عوامل، إما أنها أدت إلى تشويه تمييزهم العاطفي أو تشجيعهم على رؤية نمط خاطئ. ونُطلق على هذه العوامل "حالات ناقوس الخطر".
الحالة الأولى، والأكثر شيوعاً من حالات ناقوس الخطر، هي وجود مصلحة ذاتية غير ملائمة، تؤثر عادةً على الأهمية العاطفية التي نوليها للمعلومات، ما يجعلنا بدورنا أكثر استعداداً لتصور الأنماط التي نريد رؤيتها. وقد أظهرت الأبحاث أنه حتى الأشخاص المهنيين ذوي النوايا الحسنة، مثل الأطباء والمراجعين، يعجزون عن منع المصلحة الذاتية من التأثير على تقديراتهم بشأن الأدوية التي يصفونها، أو الآراء التي يبدونها أثناء المراجعة.
والحالة الثانية هي وجود ارتباطات من شأنها تشويه تقديراتنا، وهي حالة أقل شيوعاً إلى حد ما. إذ يمكن أن نرتبط بأشخاص وأماكن وأشياء، ويمكن أن تؤثر هذه الروابط على التقديرات التي نشكلها حول كل من الموقف الذي نواجه، والتدابير المناسبة التي يجب اتخاذها. ويعكس الإحجام، الذي غالباً ما يشعر به المدراء التنفيذيون، عن بيع وحدة عملوا بها قوة الارتباطات غير المناسبة بشكل واضح.
والحالة الأخيرة من حالات ناقوس الخطر هي وجود ذكريات مضلِّلة. وهي الذكريات التي تبدو مناسبة وقابلة للمقارنة مع الموقف الحالي، بيد أنها تدفع تفكيرنا في الطريق الخطأ، إذ يمكن أن تجعلنا نغفل عن بعض العوامل التفاضلية المهمة أو نقلل من شأنها، كما فعل ماثيو بروديريك عندما لم يفكر في الآثار المترتبة على إعصار يضرب مدينة تحت مستوى سطح البحر. وتتضاعف فرصة أن نكون ضحية للذكريات المضلِّلة عبر أي علامات عاطفية نربطها بالتجربة السابقة. ففي حالة كانت قراراتنا في التجربة السابقة المشابهة ناجحة، من المرجح للغاية أن نتغاضى عن الاختلافات الرئيسة بين التجربتين.
وهذا ما حدث لويليام سميثبرغ، الرئيس السابق لشركة "كويكر أوتس" (Quaker Oats). إذ استحوذ على شركة "سنابل" (Snapple) بسبب ذكرياته الحية عن استحواذه على شركة "غاتوريد" (Gatorade)، التي كانت تمثل أنجح صفقة لشركة "كويكر". وبدا حينها أن شركة "سنابل"، شأنها شأن شركة "غاتوريد"، هي شركة مشروبات جديدة يمكن تطويرها عبر مهارات شركة "كويكر" في التسويق والإدارة. لكن لسوء الحظ، تبيّن أن أوجه التشابه بين شركتي "سنابل" و"غاتوريد" كانت سطحية، ما يعني أن شركة "كويكر" انتهى بها الأمر إلى تقويض القيمة بدلاً من خلقها. وفي الواقع، كان الاستحواذ على شركة "سنابل" أسوأ صفقة أجراها سميثبرغ.
وبالطبع، جزء مما نقوله هو أمر معلوم للجميع، إذ إن لدى الأشخاص تحيّزات، ومن المهم إدارة القرارات حتى تتوازن هذه التحيزات. ويقوم العديد من القادة ذوي الخبرة بذلك بالفعل. بيد أننا نرى في هذا المقام أنه، بالنظر إلى الطريقة التي يعمل بها الدماغ، لا يمكننا الاعتماد على القادة لاكتشاف سوء تقديرهم وتجنبه. إذ نحتاج، بالنسبة إلى القرارات المهمة، إلى طريقة مدروسة ومنظمة لتحديد المصادر المحتملة للتحيز – وهي حالات ناقوس الخطر – ويلزمنا تعزيز عملية اتخاذ القرارات على المستوى الجماعي.
بالنظر إلى الطريقة التي يعمل بها الدماغ، لا يمكننا الاعتماد على القادة لاكتشاف سوء تقديرهم وتجنبه.
ولننظر في الموقف الذي تواجهه ريتا شاكرا، مديرة قسم مستحضرات التجميل في شركة "شودري هولدنغ" (Choudry Holdings)، (خضعت أسماء الشركات والأشخاص الواردة في هذا المثال والأمثلة التالية للتغيير). إذ حصلت ريتا على ترقية لتصبح مديرة لقسم المنتجات الاستهلاكية، وكان يلزمها أن تقرر ما إذا كانت ستعمل على ترقية نائبها إلى منصب مدير قسم مستحضرات التجميل أو توظيف شخص من الخارج. هل يمكننا توقع أي نواقيس خطر محتملة في هذا القرار؟ الإجابة هي: نعم، إذ يمكن أن يكون تمييزها العاطفي غير موثوق بسبب ارتباطها المشوِّه بزميلها، أو بسبب مصلحة ذاتية غير ملائمة يمكن أن تكتسبها بإبقاء عبء العمل الملقى على عاتقها في مستوى منخفض مع تغييرها لوظيفتها. ونحن لا نعرف على وجه اليقين، بالطبع، ما إذا كانت ريتا تشعر بهذا الارتباط أو أنها تُضمِر هذه المصلحة الذاتية. وبما أن الجزء الأكبر من عملية اتخاذ القرارات هو لا شعوري، فلن تعرف ريتا ذلك أيضاً. وما نعرفه هو أن الأمر ينطوي على خطر. إذاً، كيف ينبغي لريتا حماية نفسها، أو كيف ينبغي أن يساعدها مديرها على حماية نفسها؟
وتكمن الإجابة البسيطة عن هذا السؤال في إشراك شخص آخر، شخص ليس لديه ارتباطات أو مصلحة شخصية غير ملائمة. ويمكن أن يكون هذا الشخص هو مدير ريتا أو مدير الموارد البشرية أو مدير التوظيف أو أيّ زميل موثوق. إذ يمكن لهذا الشخص أن يشكك في تفكيرها ويُرغمها على مراجعة منطقها ويشجعها على النظر في الخيارات المتاحة، وربما حتى أن تدافع عن حل تجده غير مريح. ولحسن الحظ، كانت ريتا، في هذه الحالة، على دراية بالفعل ببعض حالات ناقوس الخطر، ولذا أشركت معها مدير التوظيف لمساعدتها في تقييم زميلها والمرشحين الآخرين من خارج الشركة. وفي نهاية المطاف، عيّنت ريتا زميلها ولكن فقط بعد التحقق لمعرفة ما إذا كان قرارها متحيزاً.
لقد وجدنا العديد من القادة الذين يفهمون بشكل حدسي أنّ من شأن تفكيرهم أو تفكير زملائهم أن ينطوي على تشويه. بيد أن القليل من القادة فقط يفعلون ذلك بطريقة منظمة، ولذا يفشل الكثيرون منهم في توفير ضمانات كافية تحول دون اتخاذ قرارات خاطئة. ولنلقِي نظرة على بعض الشركات التي تعاملت مع مشكلة التحيز في القرارات بشكل منهجي عبر معرفة المخاطر الناجمة عن حالات ناقوس الخطر وتقليلها.
الاحتراز من تحيّزك
كان أداء أحد أقسام شركة أوروبية متعددة الجنسيات – سنطلق عليها اسم شركة "غلوبال كيميكالز" – دون المستوى المطلوب، وكان فريق الإدارة المسؤول عن القسم قد وعد مرتين بتحول في أداء القسم، وفشل في الوفاء بوعده في المرتين. وكان الرئيس التنفيذي للشركة، مارك ثيسين، يدرس الخيارات المتاحة أمامه.
وكان هذا القسم جزءاً من استراتيجية نمو الشركة التي وضعها ثيسين. وقد تم تجميعه على مدى السنوات الخمس الماضية من خلال عمليتي استحواذ كبيرتين وأربع عمليات استحواذ صغيرة. وقاد ثيسين عمليتي الاستحواذ الأكبر حجماً، وعيّن المدراء الذين كان أداؤهم متعثراً. وقرر رئيس المجلس الإشرافي، أولاف جرونوالد، أن يدرس ما إذا كان من الممكن أن يكون قرار ثيسين بشأن القسم ذي الأداء الضعيف متحيزاً، وكيف يمكنه المساعدة إنْ كان الأمر كذلك. ولم يكن جرونوالد يشكك في تفكير ثيسين، بل كان يقظاً فحسب لإمكانية أن تنطوي آراء الرئيس التنفيذي على تشويه.
بدأ جرونوالد بالبحث عن حالات ناقوس الخطر. (وللاطلاع على شرح لعملية تحديد نواقيس الخطر، اقرأ الفقرة الجانبية "تحديد نواقيس الخطر"). إذ أسس ثيسين القسم الذي كان أداؤه دون المستوى، وقد جعله ارتباطه به متردداً في التخلي عن الاستراتيجية التي وضعها أو الفريق الذي أنشأه. وفضلاً عن ذلك، يواجه ثيسين خطر رؤية النمط الخاطئ، ولا شعورياً، تفضيل الرأي القائل بضرورة استمراره في تقديم الدعم في هذا الموقف أيضاً، لأنه نجح في الماضي في دعم المدراء المحليين خلال تحول صعب حدث في قسم آخر. ودرس جرونوالد ثلاثة أنواع من الضمانات لتعزيز عملية اتخاذ القرار، نظراً إلى يقظته إلى ارتباطات ثيسين المحتملة التي من شأنها أن تنطوي على تشويه، وإلى ذكرياته المضللة المحتملة، وهذه الخيارات هي:
إضفاء تجربة أو تحليل جديدين. إذ يمكنك غالباً مواجهة التحيزات عبر إطْلاع متخذ القرار على معلومات جديدة ومعالجة مختلفة للمشكلة. وفي هذا الموقف، طلب جرونوالد من أحد البنوك الاستثمارية أن يخبر ثيسين بالقيمة التي يمكن أن تجنيها الشركة من بيع القسم ذي الأداء الضعيف. وشعر جرونوالد أن من شأن ذلك تشجيع ثيسين على التفكير في هذا الخيار الجذري على الأقل، وهي خطوة ربما يرفضها ثيسين سريعاً لو أنه أصبح مرتبطاً للغاية بالوحدة أو بفريق إدارتها.
إجراء المزيد من النقاش والتشكيك. إذ يمكن أن تكفل هذه الضمانة مواجهة التحيزات بشكل صريح. وينجح هذا الخيار على الوجه الأكمل عندما يكون هيكل السلطة متوازناً في المجموعة التي تناقش القضية. وفي حين أن مدير الشؤون المالية في القسم المعنِي كان شخصاً مؤثراً، شعر جرونوالد أن الأعضاء الآخرين في الفريق التنفيذي من المرجح أن يقتفوا أثر ثيسين دون التشكيك في قراره. وعلاوة على ذلك، كان رئيس هذا القسم ذي الأداء الضعيف عضواً في الفريق التنفيذي، وهو ما يجعل من الصعب إجراء نقاش مفتوح. لذا، اقترح جرونوالد تكوين لجنة توجيهية تتكون إلى جانبه من كل من ثيسين ومدير الشؤون المالية. فحتى لو ضغط ثيسين بقوة من أجل اختيار حل معين، سيتأكد جرونوالد ومدير الشؤون المالية من التشكيك في منطقه ومناقشته بشكل صحيح. كما اقترح جرونوالد أن يكوّن ثيسين فريقاً صغيراً للمشروع، برئاسة رئيس قسم الاستراتيجية، لتحليل جميع الخيارات وتقديمها إلى اللجنة التوجيهية.
تعزيز الحوكمة. يوفر شرط المصادقة على أي قرار على مستوى أعلى ضمانة نهائية. وفي حين أن تعزيز الحوكمة لا يقضي على التفكير المشوّه، إلا أن من شأنه أن يمنع التشوهات من أن تؤدي إلى نتيجة سيئة. وقد كان مستوى الحوكمة في شركة "غلوبال كيميكالز" هو المجلس الإشرافي. بيد أن جرونوالد أدرك أن توخّيه الموضوعية يمكن أن يتعرض للتقويض لأنه كان عضواً في كل من المجلس الإشرافي واللجنة التوجيهية. لذا، طلب من اثنين من زملائه في المجلس الاستعداد لإبداء الاعتراض على الاقتراح الصادر عن اللجنة التوجيهية إذا شعروا بعدم الارتياح له.
وفي نهاية المطاف، اقترحت اللجنة التوجيهية بيع القسم بأكمله، وهو قرار وافق عليه المجلس الإشرافي. وكان السعر الذي تقاضته الشركة أعلى بكثير من التوقعات، ما أقنع الجميع أنهم اختاروا الخيار الأفضل.
واضطلع رئيس شركة "غلوبال كيميكالز" بدور رائد في تصميم عملية اتخاذ القرار. وقد كان ذلك مناسباً بالنظر إلى أهمية القرار. بيد أن العديد من القرارات تُتخذ على المستوى التشغيلي، إذ لا تكون مشاركة الرئيس التنفيذي بصورة مباشرة ممكنة أو مرغوبة. وكان هذا هو الحال في شركة "ساذرن إلكتريسيتي"، وهي إحدى فروع شركة أميركية كبرى. وتتألف شركة "ساوثيرن" من ثلاث وحدات تشغيلية واختصاصَين قويين. وكانت التغييرات الأخيرة في اللوائح التنظيمية تعني أنه لا يمكن زيادة الأسعار، بل إنها ربما تنخفض. لذا، كان المدراء يبحثون عن طرق لخفض النفقات الرأسمالية.
وأدرك جاك ويليامز، رئيس القسم، أن المدراء كانوا أيضاً يُحجمون عن المخاطرة مفضلين استبدال المعدات في وقت مبكر بأفضل التطويرات المتاحة. وأدرك أن ذلك كان نتيجة لبعض الأعطال البارزة التي حدثت في الماضي، التي عرّضت الأفراد لشكاوى العملاء وانتقادات الزملاء على حد سواء. واعتقد ويليامز أن العلامات العاطفية المرتبطة بهذه التجارب من الممكن أن تنطوي على تشويه لقرارهم.
والسؤال هنا هو: ما الذي بوسعه أن يفعله لمواجهة هذه الآثار؟ رفض ويليامز فكرة تعزيز الحوكمة، إذ شعر أن فريق إدارته ليس على دراية كافية للقيام بهذه المهمة بمصداقية، كما لا يتحلى المدراء التنفيذيون في الشركة الأم بدراية كافية. أيضاً رفض إجراء تحليل إضافي، لأن تحليل شركة "ساوثيرن" كان دقيقاً بالفعل. وخلُص إلى أنّ عليه إيجاد طريقة لإجراء مزيد من النقاش في عملية اتخاذ القرار وتمكين الأشخاص الذين يفهمون التفاصيل من التشكيك بالتفكير.
وكان أول ما خطرَ بباله هو إشراك نفسه والمدير المالي بقسمه في المناقشات، لكن لم يكن لديه الوقت للنظر في مزايا مئات المشاريع، ولم يفهم التفاصيل بشكل جيد حتى يُشكك بفاعلية في القرارات في مراحل مبكرة من العملية أكثر مما كان يفعله حالياً، في مرحلة المصادقة النهائية.
وقرر ويليامز أخيراً جعْل رؤساء الوحدات والاختصاصات يُشككون في قرارات بعضهم بعضاً، بمساعدة استشاري. واختار ويليامز، بدلاً من فرض هذه العملية على المدراء العاملين معه، مشاركة أفكاره معهم. واستطاع، باستخدام لغة نواقيس الخطر، أن يجعلهم يرون المشكلة دون شعورهم بالتهديد. وكان هذا النهج الجديد ناجحاً للغاية. إذ تحقق هدف خفض النفقات الرأسمالية مع توفير هامش ودون الحاجة إلى اتخاذ ويليامز أي قرار صعب بنفسه.
ولأننا نفهم الآن على نحو أوضح بشأن كيفية عمل الدماغ، يمكننا أن نتوقع الظروف التي من الممكن أن يحدث فيها سوء التقدير ونحترز منها. لذا، فبدلاً من الاعتماد على حكمة الرؤساء أصحاب الخبرة أو تواضع الرؤساء التنفيذيين أو الضوابط والتوازنات المتبعة في المؤسسات، نحث جميع المشاركين في اتخاذ القرارات المهمة على التفكير بشكل صريح فيما إذا كانت ثمة نواقيس خطر تنطوي عليها هذه القرارات، وعلى الضغط، في حالة وجود نواقيس الخطر هذه، من أجل توفر ضمانات مناسبة.
أما القرارات التي لا تنطوي على نواقيس خطر فتتطلب عدداً أقل من الضوابط والتوازنات، وبالتالي تتطلب بيروقراطية أقل. ويمكن من ثَم تخصيص بعض هذه الموارد لحماية القرارات الأشد عرضة للخطر بأشكال الحماية الأكثر تدخّلاً وقوة.
تحديد نواقيس الخطر
لا تعتبر نواقيس الخطر مفيدة إلا إذا أمكن الكشف عنها قبل اتخاذ القرار. كيف يمكنك إذاً التعرف عليها في المواقف المعقدة؟ قمنا بتطوير عملية تتكون من الخطوات السبع التالية:
- تحديد مجموعة الخيارات المتاحة. ولا يمكن أبداً وضع قائمة بجميع الخيارات. لكن من المفيد عادة ملاحظة ذروة الخيارات المتاحة، إذ إنها توفر الحدود للقرار.
- وضع قائمة بأهم متخذي القرار. مَن سيكون له تأثير في اتخاذ القرار والاختيار النهائي؟ قد يكون هناك شخص واحد أو شخصان فقط مشاركان في اتخاذ القرار، كما يمكن أيضاً أن يكون هناك 10 أشخاص أو أكثر.
- اختيار متخذ قرار واحد للتركيز عليه. من الأفضل عادة أن تبدأ بالشخص الأكثر نفوذاً، ومن ثم حدد حالات نواقيس الخطر التي قد تشوه تفكير ذلك الفرد.
- التحقق من وجود مصلحة ذاتية غير ملائمة أو ارتباطات من شأنها تشويه القرار. هل من المرجح أن يكون أي خيار جذاباً أو غير جذاب؟ بصفة خاصة لمتخذ القرار بسبب مصالح أو ارتباطات شخصية مع أشخاص أو أماكن أو أشياء. وهل يتعارض أي من هذه المصالح أو الارتباطات مع أهداف أصحاب المصلحة الرئيسين؟
- التحقق من وجود ذكريات مضللة. ما أوجه الغموض في هذا القرار؟ لكل جانب من جوانب الغموض، فكّر فيما إذا كان متخذ القرار قد يعتمد على ذكريات مضللة محتملة. وفكّر في التجارب السابقة التي يمكن أن تؤدي إلى تضليله، لاسيما التجارب التي لها روابط عاطفية قوية. وفكر أيضاً في التقديرات السابقة التي يمكن أن تكون غير سليمة الآن، بالنظر إلى الوضع الحالي.
- تكرار التحليل مع الشخص التالي الأكثر نفوذاً. وقد يكون من الضروري، في الحالات المعقدة، التفكير في عدد أكبر من الأشخاص، ويمكن أن تكشف هذه العملية عن قائمة طويلة من نواقيس الخطر المحتملة.
- مراجعة قائمة نواقيس الخطر التي حددتها وحدد ما إذا كانت عمليات التعرف على الأنماط والتمييز العاطفي التي يقوم بها الدماغ، والتي تتسم بالكفاءة في العادة، قد تكون منحازة لصالح بعض الخيارات أو ضدها. إذا كان الأمر كذلك، نفّذ إجراءً أو أكثر من الإجراءات الوقائية.
وفي نهاية المطاف، اقترحت اللجنة التوجيهية بيع القسم بأكمله، وهو قرار وافق عليه المجلس الإشرافي. وكان السعر الذي تقاضته الشركة أعلى بكثير من التوقعات، ما أقنع الجميع أنهم اختاروا الخيار الأفضل.
واضطلع رئيس شركة "غلوبال كيميكالز" بدور رائد في تصميم عملية اتخاذ القرار. وقد كان ذلك مناسباً بالنظر إلى أهمية القرار. بيد أن العديد من القرارات تُتخذ على المستوى التشغيلي، إذ لا تكون مشاركة الرئيس التنفيذي بصورة مباشرة ممكنة أو مرغوبة. وكان هذا هو الحال في شركة "ساذرن إلكتريسيتي"، وهي إحدى فروع شركة أميركية كبرى. وتتألف شركة "ساوثيرن" من ثلاث وحدات تشغيلية واختصاصَين قويين. وكانت التغييرات الأخيرة في اللوائح التنظيمية تعني أنه لا يمكن زيادة الأسعار، بل إنها ربما تنخفض. لذا، كان المدراء يبحثون عن طرق لخفض النفقات الرأسمالية.
وأدرك جاك ويليامز، رئيس القسم، أن المدراء كانوا أيضاً يُحجمون عن المخاطرة مفضلين استبدال المعدات في وقت مبكر بأفضل التطويرات المتاحة. وأدرك أن ذلك كان نتيجة لبعض الأعطال البارزة التي حدثت في الماضي، التي عرّضت الأفراد لشكاوى العملاء وانتقادات الزملاء على حد سواء. واعتقد ويليامز أن العلامات العاطفية المرتبطة بهذه التجارب من الممكن أن تنطوي على تشويه لقرارهم.
والسؤال هنا هو: ما الذي بوسعه أن يفعله لمواجهة هذه الآثار؟ رفض ويليامز فكرة تعزيز الحوكمة، إذ شعر أن فريق إدارته ليس على دراية كافية للقيام بهذه المهمة بمصداقية، كما لا يتحلى المدراء التنفيذيون في الشركة الأم بدراية كافية. أيضاً رفض إجراء تحليل إضافي، لأن تحليل شركة "ساوثيرن" كان دقيقاً بالفعل. وخلُص إلى أنّ عليه إيجاد طريقة لإجراء مزيد من النقاش في عملية اتخاذ القرار وتمكين الأشخاص الذين يفهمون التفاصيل من التشكيك بالتفكير.
وكان أول ما خطرَ بباله هو إشراك نفسه والمدير المالي بقسمه في المناقشات، لكن لم يكن لديه الوقت للنظر في مزايا مئات المشاريع، ولم يفهم التفاصيل بشكل جيد حتى يُشكك بفاعلية في القرارات في مراحل مبكرة من العملية أكثر مما كان يفعله حالياً، في مرحلة المصادقة النهائية.
وقرر ويليامز أخيراً جعْل رؤساء الوحدات والاختصاصات يُشككون في قرارات بعضهم بعضاً، بمساعدة استشاري. واختار ويليامز، بدلاً من فرض هذه العملية على المدراء العاملين معه، مشاركة أفكاره معهم. واستطاع باستخدام لغة نواقيس الخطر، أن يجعلهم يرون المشكلة دون شعورهم بالتهديد. وكان هذا النهج الجديد ناجحاً للغاية. إذ تحقق هدف خفض النفقات الرأسمالية مع توفير هامش ودون الحاجة إلى اتخاذ ويليامز أي قرار صعب بنفسه.
ولأننا نفهم الآن على نحو أوضح بشأن كيفية عمل الدماغ، يمكننا أن نتوقع الظروف التي من الممكن أن يحدث فيها سوء التقدير ونحترز منها. لذا، فبدلاً من الاعتماد على حكمة الرؤساء أصحاب الخبرة أو تواضع الرؤساء التنفيذيين أو الضوابط والتوازنات المتبعة في المؤسسات، نحث جميع المشاركين في اتخاذ القرارات المهمة على التفكير بشكل صريح فيما إذا كانت ثمة نواقيس خطر تنطوي عليها هذه القرارات، وعلى الضغط، في حالة وجود نواقيس الخطر هذه، من أجل توفر ضمانات مناسبة.
أما القرارات التي لا تنطوي على نواقيس خطر فتتطلب عدداً أقل من الضوابط والتوازنات، وبالتالي تتطلب بيروقراطية أقل. ويمكن من ثَم تخصيص بعض هذه الموارد لحماية القرارات الأشد عرضة للخطر بأشكال الحماية الأكثر تدخّلاً وقوة.