في الآونة الأخيرة، برزت مقاربة جديدة لصنع السياسات العامة تعتمد على مفاهيم علم الاقتصاد السلوكي، التي تجمع بين المفاهيم الاقتصادية والنفسية في دراسة سلوك الإنسان، وتعارض نظرية العقلانية التامة، إذ تعترف بتأثير مختلف العوامل الاجتماعية والنفسية على عملية اتخاذ القرار. فهل يمكن تطبيق وحدة الترغيب في لبنان بطريقة صحيحة؟
لقد أخذ هذا النهج حيزاً كبيراً في أوساط الباحثين والخبراء وصانعي السياسات ضمن مختلف أرجاء العالم، في حين تزامن ذلك مع تزايد الوعي العام حول ضرورة صياغة السياسات والبرامج الحكومية، بما يضمن فهماً كاملاً لسلوكيات المواطنين وتحيزاتهم التي تؤثر في اتخاذهم للقرارات.
وحدة الترغيب في لبنان
يرتكز هذا النهج أساساً على اعتماد أسلوب الترغيب والتوجيه السلوكي (nudge)، وسيلة للتأثير على سلوكيات الناس، ويقوم أيضاً على اختبار فعالية السياسات الحكومية (policy experimentation)، باستخدام أدوات تطبيقية مثل اختبارات التحكم العشوائية (randomized control trial)، المعتمدة عادة في حقل الأبحاث الطبية لدراسة الأثر.
فالترغيب والتوجيه السلوكي عبارة عن ابتكارات بسيطة ولكنها ذات أثر كبير، تهدف إلى تغيير سلوكيات الناس دون أن يحدّ ذلك من خياراته، وعلى سبيل المثال: عند اعتماد آلية ما، يمكن تسميتها بالمسار مسبق التحديد أو الوضع التلقائي (Default Option)، ويتم تطبيقها ما لم يتخذ الشخص المعني قراراً آخر بشأن هذه الآلية، كتبسيط المعاملات، أو استعمال الرسائل التذكيرية، أو استعمال المعايير والأعراف والمقارنات المجتمعية. إذ يرتبط نجاح عمليات الترغيب والتوجيه السلوكي بسهولة تنفيذها واعتمادها على أدوات لافتة للانتباه ووسائل مقارنة، تُظهر سلوك الآخرين لتشجيع الالتزام والتعهدات، واختيارها للتوقيت المناسب من أجل التأثير على القرار.
ويذكر أن وحدات التوجيه السلوكي تتجه نحو انتشار أوسع، منذ إنشاء فريق التوجيه السلوكي (Behavioural Insights Team)، المعروف باسم "وحدة الدفع" (Nudge Unit)، داخل مكتب رئيس "مجلس الوزراء" البريطاني، وفريق العلوم الاجتماعية والسلوكية في "البيت الأبيض"، والوحدة الخاصة لدى مكتب المستشارة الألمانية. في حين كانت قطر أول من افتتح هذه الظاهرة في منطقة الشرق الأوسط وتلاها لبنان، بينما تستعد دول أخرى لإطلاق مبادرات مؤسساتية مشابهة، هدفها التحفيز لتغييرات مرجوة، مثل تفعيل عمل البرامج الحكومية، وتعزيز الاستدامة البيئية، ومساعدة الناس على اعتماد أنماط حياة صحية، وزيادة الوعي حول مشاكل كثيرة ذات جذور سلوكية، وهي أمور نحن بأمس الحاجة إليها في هذا الجزء من العالم.
لبنان، على سبيل المثال، يعتبر من البلدان التي في أمس الحاجة إلى نشر ثقافة احترام القانون، من خلال تطبيق المنهج العلمي في اختيار وصياغة السياسات والبرامج العامة المبنية على أدوات العلم السلوكي، وعادات المواطنين المستهلكين وتحيّزاتهم. هذا النهج التطبيقي يحسن تفاعل المواطن مع هذه السياسات ومع مجتمعه، مما يساعده في التنفيذ السليم للقوانين المدنية، ويحث المواطنين على التوقف عند إشارات المرور، ودفع الضرائب والمستحقات في الوقت المحدد، وفرز النفايات المنزلية من المصدر.
وعلى الرغم من أن ارتفاع معدل عدم الامتثال للقوانين المدنية في لبنان يعود أساساً إلى التفكك الكبير في الآليات التنظيمية للدولة وضعف آليات تطبيق القانون، فإن الأهم هو قلة الوعي لدى المواطنين، الذي له دور بارز في إضعاف ثقافة احترام القانون، خاصة فيما يتعلق بالحقوق والواجبات، فضلاً عن عدم وعيهم بعواقب عدم تطبيق القانون عليهم وعلى غيرهم.
وبالإضافة إلى تعزيز ثقافة احترام القانون، يمكن للبنان تكريس استخدامات العلم السلوكي في مجال سياسات المالية العامة، وتحديداً لتغطية مشروع سلسلة الرتب والرواتب، ومنع المزيد من الزيادات في الدَين العام، خاصة أن عمليات جمع الضرائب ورسوم البلدية وغيرها من الرسوم الموجودة، تعتبر ضعيفة نسبياً، ما يسهم في زيادة تراكم المتأخرات.
ودون التعرض إلى جدوى زيادة نسب وأنواع الضرائب، لا شك أن تحسيناً نسبياً وجزئياً في جمع ما يقدر بأكثر من 4 مليارات دولار من الضرائب غير المدفوعة، وفواتير الكهرباء ورسوم التسجيل العقاري يساعد في تغطية مشروع سلسلة الرتب والرواتب المقترح. وهذا يتفق عليه المطلعون على هذا الملف، بمن فيهم خبراء "صندوق النقد الدولي"، الذين يؤكدون على أفضلية تحسين فعالية عمليات جمع الضرائب الحالية من بين مختلف الأدوات الضريبية المتداولة. ويمكن استعمال أدبيات الاقتصاد السلوكي لتحسين عملية التحصيل، وخدمة أهداف السياسات المالية العامة، حسبما تشير عدة تجارب للترغيب والتوجيه السلوكي أجريت في جميع أنحاء العالم.
وحدة "التوجيه السلوكي" في بريطانيا
على سبيل المثال، خلال عام 2013، زادت وحدة "التوجيه السلوكي" في بريطانيا، بالتعاون مع مصلحة الضرائب في غواتيمالا، عدد المواطنين الذين دفعوا مستحقاتهم الضريبية بنسبة 30% مقارنة بالمجموعة الضابطة، وذلك بإرسال رسائل معدلة سلوكياً تذكّر بالتقاليد المجتمعية والأخلاقيات العامة في سياق دفع الضرائب.
وخلال تجربة أخرى، زادت وحدة التوجيه السلوكي في نيو ساوث ويلز الأسترالية بالشراكة مع وحدة التوجيه السلوكي البريطانية، معدلات دفع الغرامات بنسبة 21% في أستراليا، وذلك بإضافة ختم كُتب عليه عبارة "أدفع الآن!" على إشعارات الدفع. وتشير التقديرات إلى أن إشعارات الدفع المحسنة تؤدي إلى دفع ما يقرب من 10 ملايين دولار من الغرامات بحلول تاريخ استحقاقها من كل عام، وتجنب أكثر من 60 ألف رسم متأخر ما يوفر 4 ملايين دولار سنوياً.
بالإضافة إلى ذلك، زادت وحدة التوجيه السلوكي بالتعاون مع وكالة "ترخيص السواقين والمركبات" (Driver and Vehicle Licensing Agency)، في بريطانيا، زيادة معدلات إعادة ترخيص المركبات بنسبة 23%، من خلال إرسال رسائل شخصية ومبسطة تتضمن صورة للسيارة التي لم يتم إعادة ترخيصها بعد.
وزادت أيضاً، بالتعاون مع فريق "إدارة الإيرادات والجمارك" البريطانية، بزيادة تسديد الديون الضريبية بنسبة 23%، وذلك بإرسال مجموعة من الرسائل، التي تسترشد بالأعراف المجتمعية، وتشير إلى أن تسعة من عشرة من أفراد مقيمين في الجوار دفعوا مستحقاتهم الضريبية في الوقت المحدد.
وعليه، يؤكد عدد كبير من التجارب السلوكية أن تغييرات صغيرة وغير مكلفة في بعض العمليات والإجراءات الحكومية، تؤدي إلى نتائج كبيرة في الإدارة المالية العامة.
وبطبيعة الحال، يحتاج لبنان إلى إدراج أدبيات التوجيه السلوكي ضمن سياساته الضريبية أكثر من أي وقت مضى، وذلك للمساعدة في حل جزء من الأزمة الحالية، سواء لزيادة نسب التحصيل أو لاستحداث أدوات ضريبية جديدة. إذ يعتبر هذا الوقت الأمثل لتبني أسلوب الترغيب في لبنان. وفي الواقع، إن تحديات مثل زيادة دفع الضرائب والرسوم في الوقت المحدد، وزيادة شفافية التصريحات الضريبية، وتصريحات الدخل، وتحسين معدلات دفع الغرامات، كلها تحديات ذات جوانب سلوكية، ويمكن معالجتها باستخدام أدوات بسيطة وفعالة وغير مكلفة تُستخدم في الوقت المناسب، من أجل الحصول على أفضل النتائج. كما يمكن أن تقتصر هذه الأدوات على اختبار رسائل مبسطة أو شخصية أو تتضمن إشارة إلى الأعراف المجتمعية، وتحديد جدوى الإجراءات الواجب اتخاذها.
نصائح من أجل بناء وحدة الترغيب في لبنان
إذ بإمكان وحدة صغيرة للتوجيه السلوكي في لبنان المساهمة في تصويب هذا الوضع، عبر استعمال أدوات التوجيه السلوكي، واختبارات التحكم العشوائية في عدد من المجالات ذات الأولوية. وهذا ما تفعله الجمعية غير الحكومية للاقتصاد السلوكي "نادج ليبانون" (Nudge Lebanon)، المتخصصة في حقل اختبار السياسات والتوجيه السلوكي في لبنان، وذلك إلى حين تنضج الوحدة الحكومية المركزية أو غير المركزية. وبالفعل يمكن مستقبلاً إنشاء وحدات للتوجيه السلوكي ضمن أطر مؤسسية محددة في الدولة اللبنانية، وذلك باعتماد أحد خيارين:
أولاً: خيار وجود وحدة حكومية مركزية ضمن أحد مراكز اتخاذ القرار
حيث تعمل على عدد من التحديات الوطنية ذات الجذور السلوكية التي تؤدي معالجتها إلى نتائج إيجابية إلى حد كبير على المستوى المعيشي، فضلاً عن التنسيق مع مختلف مؤسسات الدولة لاعتماد أدبيات الاقتصاد السلوكي في صميم العمل الحكومي وبناء القدرات في هذا المجال.
ثانياً: خيار وجود وحدة حكومية لا مركزية أو أكثر في الوزارات ذات الأولوية
بهدف تحسين إدارة فعالية الخدمات المقدمة، وتحسين تفاعل المواطن مع هذه الخدمات والبرامج، وتبسيط المعاملات، وتوجيه المواطن إلى اتخاذ القرار الصحيح. إذ في "وزارة المالية"، على سبيل المثال، يمكن استخدام أساليب التوجيه السلوكي، لزيادة نسبة وسرعة تحصيل الضرائب، ويمكن أيضاً استخدام الأساليب السلوكية في "وزارة الصحة العامة"، لتشجيع النساء على إجراء فحوصات من أجل كشف سرطان الثدي، وفي "وزارة الطاقة والمياه"، يمكن استخدام هذه الأساليب لحث المواطنين على ترشيد استهلاك الموارد، أما في "مؤسسة كهرباء لبنان" فتستخدم لتسريع تحصيل فواتير الكهرباء. كما يشار إلى أن تجربة ضبط عشوائية ناجحة تمت مؤخراً في "مؤسسة كهرباء لبنان"، تهدف إلى تسريع وتيرة دفع الفواتير، باستعمال أدوات التوجيه السلوكي مثل الحس الوطني والأعراف المجتمعية.
وبغض النظر عن تمركز وحدة التوجيه السلوكي المعمول بها، يوجد عدد من العناصر الواجب توفرها لنجاح هذه الوحدة، منها الدعم الحكومي القيادي القوي أو الشراكة معه، وتكوين فريق يملك خبرة عملية وتقنية وتجربة في العمل الحكومي، بالإضافة إلى التنسيق القوي مع الجامعات ومراكز البحوث والجمعيات الأهلية.
ويشار إلى أن اقتراح السياسات المدعومة بالبراهين عبر الاختبارات هي من أهم أهداف وحدة الترغيب في لبنان نظراً إلى تحول النقاش عن الأرقام والوقائع إلى وجهة نظر. ومن شأن التوسع في استعمال أدبيات الاقتصاد السلوكي أيضاً أن يضع النقاش حول السياسات العامة في إطار علمي سليم. فالذي يجب اعتماده منذ الآن وصاعداً ليس ما نظن أنه فعال، بل ما ثبتت فعاليته عبر التجارب، وتحديداً تجارب التحكم العشوائية، التي تُعتبر منهجية وثقافة قد تغيّر جذرياً دور المؤسسات الحكومية وطريقة تقديمها للخدمات.
اقرأ أيضاً: