برز موقع فيسبوك بوصفه المتّهم الرئيس في نظر أولئك الذين يهتمون بفضائح الخصوصية وتسريبات البيانات على مدار السنوات القليلة الماضية. بدءاً من الفضائح التي تزيد عن 20 فضيحة عام 2018 إلى أحد تطبيقات برامج التجسس الذي حثّت الشركة المستخدمين على تنزيله بسبب ممارسات الأمان الكارثية الواضحة التي أُزيل الستار عنها في وقت سابق من هذا العام لتبيّن ضعف الشركة في إنجاز أعمالها على نحو صحيح.
ولهذا السبب، لا يجب أن يمثّل المنشور الأخير للرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك مارك زوكربيرغ الذي اقترح فيه أربع أفكار جديدة لتنظيم الإنترنت والذي نشرته صحيفة واشنطن بوست أيضاً أي مفاجئة. إذ يُعتبر فشل زوكربيرغ مجدداً في تقديم تغييرات هامة في طريقة تجميع شركته بيانات مستخدميها وتخزينها أو تحليلها أمراً متوقعاً. بشكل عام، كانت أحدث مقترحات زوكربيرغ سطحية في الغالب عند مقارنتها بحجم المشكلات التي يواجهها موقع فيسبوك ونطاقها.
ولكن إذا كان يوجد حادث واحد متسق بقدر أوجه القصور في خصوصية موقع فيسبوك، فسيكون مجرد إصرار الشركة العام على تصحيح مسار السفينة، حيث بدأت شركة فيسبوك في نهاية المطاف تضع الأمور في نصابها الصحيح بعد كل خيبات الأمل هذه. ولعل هذا الإصرار الشعائري على التغيير هو ما جعل محاولة زوكربيرغ الأخيرة جديرة بالتفصيل.
بم أوصى زوكربيرغ إذاً؟
طلب زوكربيرغ بادئ ذي بدء أن توضح الحكومات ما تعتبره محتوى ضاراً على الإنترنت، حتى تتمكن شركة فيسبوك من خفض هذا المحتوى بشكل أفضل. ثم طلب زوكربيرغ توسيع القوانين التي تحكم الدعاية السياسية، والتي غالباً ما ينحصر نطاق تركيزها على الانتخابات، لتشمل التدخل السياسي العام.
وانطوى المقترح الثالث على توحيد أنظمة الخصوصية في جميع أنحاء العالم، مما يجعل تطبيق شركات مثل شركة فيسبوك للمعايير الصارمة للوائح الأوروبية، مثل اللائحة العامة لحماية بيانات جميع المستخدمين، أوضح وأسهل.
وتضمن المقترح الأخير مناشدة حول ما يدعى "قابلية نقل البيانات"، الذي من شأنه أن يسهّل على المستخدمين نقل بياناتهم من خدمة إلى أخرى، على غرار الطريقة التي تسمح بها شركات الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة للمستخدمين بالاحتفاظ بأرقام هواتفهم عند تبديل الخدمات من شركة إلى أخرى.
ما المشكلة إذاً؟
في البداية، يُنفّذ جزء كبير من هذه المقترحات بالفعل في الواقع، وسيُفرض تنفيذ المقترحات الأخرى قريباً بموجب الهيئات الرقابية في أجزاء واسعة من العالم. على سبيل المثال، تفرض اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي بالفعل نظام قابلية نقل البيانات، باعتبار الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر اقتصاد في العالم. والأهم من ذلك هو قيام اللوائح التنظيمية الرئيسية في الاقتصادات الكبرى مثل ألمانيا والصين، وأستراليا مؤخراً بإجبار عمالقة التكنولوجيا على زيادة استثماراتهم في تقليل المحتوى الذي قد يُعتبر ضاراً. بمعنى آخر، يُعتبر الكثير مما يقترحه زوكربيرغ باختصار قيد التنفيذ بالفعل بشكل أو بآخر.
وعلى النطاق الأوسع، في حال ارتكب موقع فيسبوك أخطاء جسيمة بحق بيانات المستخدمين في الماضي، فلن نتمكن من معرفة مدى عمق هذه العثرات من جانب زوكربيرغ. ومع ذلك، تُعتبر التضحية أحد الجوانب الرئيسة للتكفير عن هذه الأخطاء، بمعنى استعداد المرء للتخلي عن بعض الفوائد المستقبلية في سبيل التعويض عن خطايا الماضي. لكن لا تنطوي هذه المقترحات على أي شيء من هذا القبيل. في الواقع، قد يكون الكثير من هذا مفيداً لشركة فيسبوك على المدى البعيد.
ما العيب في مساعدة شركة فيسبوك؟
هنا تكمن المشكلة. تكمن الحقيقة المُرة في أن مصالح شركة فيسبوك الذاتية تختلف عن مصالح مستخدميها بسبب ثلاث معضلات رئيسة، وقد يكون هذا الاختلاف شاسعاً في بعض الأحيان:
المعضلة الأولى: هي نموذج أعمال شركة فيسبوك الذي يرتكز على ضرورة إشراك المستهلكين في خدماتها من ناحية، والحاجة إلى تسييل البيانات التي تجمعها عن طريق استهداف هؤلاء المستخدمين بخدمات وإعلانات جديدة من ناحية أخرى.
وما يريده موقع الفيسبوك منك في حال كنت أحد المستهلكين هو وقتك، وانتباهك، وبياناتك. ومع ذلك، لا يسعى المستخدمون عموماً وراء خدمات فيسبوك بإدراك واضح لحجم البيانات التي يتخلون عنها، كما أنهم لا يدركون تمام الإدراك أن ما تطلق عليه شركات التكنولوجيا في كثير من الأحيان مصطلح "الالتصاق" هو في الواقع أشبه بالإدمان. بدلاً من ذلك، يبتغي مستخدمو موقع فيسبوك الخدمة سعياً وراء إقامة علاقات اجتماعية ذات مغزى وبحثاً عن الأخبار والترفيه. وهذا ما دفع الشركة إلى تقديم مطالبات شاملة مثل تعهدها عام 2017 بإنشاء "بنية تحتية اجتماعية ... في سبيل خلق مجتمع عالمي يصلح لنا جميعاً". وتعتبر لغة مثل تلك هي ما يحجب الصفقة الأساسية التي يفرضها موقع فيسبوك على مستخدميه: وقتك وبياناتك مقابل خدماتنا.
والمعضلة الثانية: هي نطاق موقع فيسبوك الذي ألقى على عاتق الشركة مسؤولية كبيرة، لدرجة اعتراف زوكربيرغ بنفسه بعدم إمكانية استمراره. حيث تباهت الشركة منذ شهر ديسمبر/ كانون الأول بإضافتها 2.32 مليار مستخدم نشطٍ شهرياً، بمعدل فرد واحد من بين كل ثلاثة أفراد على كوكب الأرض. ووظّفت الشركة في الشهر نفسه حوالي 35,587 موظفاً، بنسبة موظف واحد لكل 65,000 مستخدم تقريباً. لذلك، كيف يمكن لشركة صغيرة للغاية أن تحكم هذه البيئة الرقمية الكبيرة وأن تحميها بفاعلية؟ لا يمكنها ذلك. ولا مفر من الإخفاقات الهائلة في ظل هذه المقاييس، خاصة فيما يتعلق بالأمن السيبراني والخصوصية والدعاية وغير ذلك.
والمعضلة الأخيرة: هي مشكلة ثقافية تفسر أخطاء الخصوصية المتسقة ولكن غير الضرورية في موقع فيسبوك. إذ لم تقم شركة فيسبوك ككل ببساطة بمنح الأولوية لأمن مستخدميها أو خصوصيتهم لأسباب تُعزى إلى الثقافة فقط، مثل الطلبات غير المبررة للبيانات الحساسة، والانتهاكات الجريئة لخصوصية المستخدم، ربما كان ذلك رغبة في إضفاء ميزات جديدة على السوق، أو نسبة إلى إحساس مثالي مفرط أن الشركة معصومة عن ارتكاب أي خطأ، على حد تعبير رئيسة العمليات شيريل ساندبيرغ.
وأسفرت هذه الأخطاء القسرية بدورها عن استمرار تآكل الثقة التي قد تطلبها الشركة لإصلاح أي من المشكلات الأساسية المذكورة أعلاه.
ولكي نكون واضحين، لا ينبغي أن تتحمل شركة فيسبوك كل اللوم وحدها في حال إذا ما وصلنا إلى لحظة جماعية من عدم الارتياح من التكنولوجيا الرقمية. إذ على الرغم من تفرد الشركة ببعض هذه المشكلات، تكافح كل شركة تكنولوجية كبرى ضد بعض هذه الثغرات المماثلة.
لقد فشل المستهلكون والهيئات الرقابية على حد سواء في تقدير المفاضلة المركزية التي فرضها العديد من عمالقة التكنولوجيا على مستخدميهم سنوات عديدة. لهذا السبب، ستعلن صحف مثل "نيويورك تايمز" بوضوح عن "بدء الثورة المصرية على موقع فيسبوك"، في إشارة إلى الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية التي اجتاحت العالم العربي في عام 2010. حيث أُشيد بدور شركات وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها قوى عظيمة من أجل الخير، من قبل المستهلكين والحكومات الغربية على حد سواء، واستخدم الكثير منهم نفس اللغة المزهرة التي استخدمتها شركة فيسبوك في وصف فوائد وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد بدأنا مؤخراً فقط في تقدير جميع المخاطر الكامنة في اعتمادنا على التقنيات الرقمية. وأصبح نطاق التهديدات التي تهدد خصوصيتنا وأمننا منهجياً، بدءاً من المجموعة المتنامية من الأجهزة المتصلة بالإنترنت إلى اعتمادنا شبه الكامل على البرامج في مجالات التمويل والطيران والعديد من المجالات الأخرى.
وفي ضوء ذلك، فإن المأزق الذي تواجهه شركة فيسبوك، محاولاتها الدؤوبة لطمأنة الجمهور بأنها قادرة على إعادة تنظيم نموذج أعمالها لصالح مستخدميها، ليس مشكلة الشركة وحدها، بل هو أحد أعراض مجتمع تبنّى التكنولوجيا بشكل سريع للغاية دون فهم جوانبها السلبية أو مخاطرها الكامنة، كما كتبت في مدونة هارفارد بزنس ريفيو وفي أي موضع آخر.
وتكمن الحيلة فيما يمكن لشركة فيسوك، وأيضاً لنا جميعاً، فعله بعد ذلك. وبدأت الإجابات تتّضح بالنسبة للمستهلكين والهيئات الرقابية، وتتمثّل في صياغة تشريعات جديدة بعناية تزيد من معايير الخصوصية والأمان لجميع أنظمة البرمجيات، وهو ما يؤدي بدوره إلى إبطاء وتيرة الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية. والتقليل من القوة الهائلة لشركات مثل فيسبوك عن طريق الحد من قدرتها على تخزين البيانات التي تجمعها وتكديس الخدمات التي تقدمها، وتقليص "مركز هجومها" إلى مستوى يمكن التحكم فيه. وقد يعني هذا تجزئة خدمات فيسبوك حرفياً، وفصل الأنشطة التجارية مثل واتساب عن خدمات أخرى مثل إنستغرام وغيرها.
وعلى المدى البعيد، يجب أن يتطور نموذج أعمال شركة فيسبوك ليتمحور حول الثقة، ما يعني جعل خصوصية المستخدم وأمن البيانات مهمين كأهمية التسييل. ومن دون نموذج أعمال كهذا لن يكون موقع فيسبوك قادراً على الحفاظ على الثقة.
لكن لا تزال الشركة بعيدة كل البعد عن تحقيق هذا الهدف على المدى القريب. وقد أوضح زوكربيرغ وآخرون أنه على الرغم من مناشداتهم المتزايدة للحكومات، لم تعالج الشركة بعد عمق المشكلات التي تواجهها وتواجهنا نحن بالمثل.
ويبدو أن موقع فيسبوك ومستخدميه على حد سواء مصممون على مواصلة محاولاتهم لإعادة صياغة الصفقة التي أبرموها مع معاً، وهي عملية قد تستمر لحين تدخل حكومة واحدة أو عدة حكومات قسراً. ولا تشكل أحدث مقترحات زوكربيرغ سوى حلقة صغيرة أخرى في صراع أطول بكثير حول إعادة صياغة هذه الصفقة.