إن الشعور العام بالارتياح الذي حدث على إثر قرار الرئيسين دونالد ترامب وشي جينبينغ في الأوائل من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، بشأن التفاوض حول قضايا الحرب التجارية خلال الأيام التسعين المقبلة كان له مبررات وجيهة. إذ يُعتبر الاتفاق خطوة كبيرة نحو الأمام لجميع الأطراف المعنية.
دعونا أولاً نتجاوز سريعاً النقد الساخر الذي صدر عن العديد من المتشككين المحترفين بأنه لا يمكن إنجاز الكثير في غضون 90 يوماً، وبالتالي فإن الاتفاق ليس أكثر من مجرد تنسيق لتأجيل اتخاذ أي قرار أو إجراء. قد يصح أن استكمال اتفاق شامل خلال الأيام التسعين القادمة ليس وارداً، إلا أنه يجب إدراك أن الرئيسين اللذين يمكنهما إحلال التوافق حول إجراء محادثات لمدة 90 يوماً مقبلة، يمكنهما أيضاً التوافق حول إجراء محادثات لفترة أطول إذا بدت الأيام التسعين الأولى تُبشر بشيء واعد. وفي حال لم يحصل ذلك، فربما سيبدو من المنطقي إغلاق المحادثات، وسيكون واضحاً على الأقل أننا لم نلجأ باندفاع نحو فرض تعريفات جمركية دون إعطاء المفاوضات محاولة صادقة، وسوف نكسب المزيد من الدعم المحلي والدولي على شكل المزيد من الإجراءات التجارية إذا ما فشلت المحادثات.
في الواقع، كانت الهدنة هي البديل المنطقي الوحيد، إذ كان من الواضح أن الصينيين لن يستجيبوا على الفور للمطالب الأميركية، وكان من الجلي بالقدر نفسه أن فرض العقوبات الأميركية دون بذل أي جهد إضافي في التفاوض من المحتمل أن يؤتي بنتائج عكسية.
وكانت الخطوة الثانية المهمة نحو الأمام، هي تعيين الممثل التجاري للولايات المتحدة روبرت لايتهايزر رسمياً من قبل الرئيس ترامب، وذلك بصفة القائد الرئيس لفريق التفاوض التابع للولايات المتحدة. وبسبب شهرته بأنه مفاوض ضليع وصارم، فقد حاول الصينيون خلال العامين الماضيين قيادة المناقشات عن طريق وزير الخزانة الأميركي ستيف منوشين ومستشار المجلس الاقتصادي القومي لاري كودلو. إذ كان يُنظر إلى هذين المسؤولين على أنهما أقل صرامة واضطلاعاً، وأكثر دعماً للعولمة واهتماماً بالأسواق المالية من لفتايزر. ولكن من خلال الإشارة بالتحديد إلى الممثل التجاري باعتباره الشخص المسؤول (وكما يُوضح لقبه ما يتوجب عليه أن يكون)، أوضح ترامب أن الولايات المتحدة جادة بشأن المفاوضات. يُعتبر لفتايزر على علم بأسس عمل "منظمة التجارة العالمية" (WTO) وقواعد التجارة العالمية بكل حذافيرها، وهو أحد كبار الخبراء الاستراتيجيين والمفاوض المحنك الذي يعرف جميع الجهات الفاعلة العالمية الرئيسة وكذلك جميع الأسرار الحساسة والتفاصيل الدقيقة. لذلك لن يتم خداعه، وسيطلب نتائج ملموسة وقابلة للقياس.
وكان أحد أكثر التصريحات إثارة للاهتمام، هو تعقيب الرئيس شي خلال حفل عشاء في بوينس آيرس على أن عرض شركة "كوالكوم" (Qualcomm) للاستحواذ على شركة "إن إكس بي" (NXP) لأشباه الموصلات قد يوافق عليه اليوم إذا ما كان الاقتراح سيطرح مرة أخرى. ولكن شركة "كوالكوم" ألغت الصفقة في شهر يوليو/تموز من العام الماضي بعد عدم إصدار الهيئة التنظيمية الصينية لمكافحة الاحتكار قراراً لإتمام الصفقة بحلول الموعد النهائي. بعبارة أخرى، كان اعتراض الحكومة الصينية سياسياً أكثر منه قانونياً منذ البداية.
وقد صرحت شركة "كوالكوم" بسرعة أنه لن يكون هناك اقتراح جديد، لكن النقطة المهمة هنا هي أن التذمر الأميركي الأساسي حول سياسات الصين التي تتعلق بالتجارة والعولمة؛ يتمحور بالتحديد حول أن السياسات الصينية التجارية والصناعية هي ذات توجه سياسي، والذي يؤدي إلى تدخل الحكومة في الأسواق الذي يتنافى مع التزامات الصين المعلنة فيما يتعلق بروح وقواعد منظمة التجارة العالمية والعولمة الموجهة نحو الأسواق.
هذه القضية ليست غريبة عن المحاربين القدامى (مثل لفتايزر)، الذي خاض المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة واليابان والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. إذ كان جوهر المشكلات في تلك القضايا هو تخويل هذه الدول بمجاراة وتجاوز إمكانات الولايات المتحدة في الصناعات المستهدفة مثل المواد الكيميائية والصلب والسيارات وأشباه الموصلات والطائرات وأجهزة الكمبيوتر والأدوات الآلية والتكنولوجيا الحيوية وبناء السفن. وقد تدخلت هذه الحكومات في الأسواق لتوفير ضمانات الاستثمار، ودعم التجارة، وعمليات البحث والتطوير، والمشتريات الحكومية المخصصة، وحماية التجارة، وأيضاً سياسات "شراء المنتجات الوطنية".
واتبعت الصين نهج التلميذ الحذر فيما يتعلق باستراتيجيات اليابان وكوريا الجنوبية وكذلك تايوان وسنغافورة، وتبنت المبادئ الأساسية لكل من تلك الدول ثم أضافت مبادئها الخاصة. وما كان له دلالة خاصة هو نهج الصين تجاه الاستثمار الأجنبي، وبينما تجنبت اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان الاستثمار الأجنبي إلى حد كبير، رحبت الصين به وروجت له. لكن بالطبع، فعلت ذلك بشروطها الخاصة، لذا كان على المستثمرين الأجانب في كثير من الأحيان الدخول في المشاريع المشتركة ونقل التكنولوجيا كشرط للسماح لهم بالاستثمار. وكانوا يُطالبون بتصدير حصة محددة من إنتاجهم ويتعرضون لسرقة ممتلكاتهم الفكرية على نحو كبير.
حتى في قضايا اليابان وكوريا الجنوبية، كان يصعب دائماً على الشركات الأجنبية إيصال الشكاوى الخاصة بها، حيث كانت المشكلة الكبرى هي أن البيروقراطيين الحكوميين لديهم سلطة واسعة وغير رسمية. وكان بإمكانهم الإيماء فقط إلى قادة الشركات لتُنسى الشكاوى بعدها، أو الإيماء إلى الموزعين ليتوقفوا فجأة عن شراء المنتجات الأجنبية المعدة للتوزيع، وكان بإمكانهم أيضاً فرض معايير اختبار جديدة أو تجاهل طلبات اختبار أخرى. وكانت هنالك المئات من الطرق لتتمكن البيروقراطية من خلالها من تفتيت الشركة بهدوء ولن يكون أمام تلك الشركات أي ملاذ فعال.
يُعد هذا الوضع في الصين أكثر صعوبة، فهنالك ممارسات تعرف باسم "الموت بعد ألف طعنة"، إذ تجد الشركة نفسها مصابة وليس لديها أي فكرة عن مصدر الأذى الذي لحق بها.
ستكون مهمة لفتايزر هي إيجاد طريقة لإجبار صنّاع السياسات والبيروقراطيين في الصين على الحد من التدخل، والتماشي مع روح ونص قواعد منظمة التجارة العالمية ومبادئ التجارة الحرة الواسعة التي يجزمون أنهم مكرسون لها.
لن تكون تلك المهمة سهلة، ويستحق لفتايزر الدعم والتمنيات الطيبة له ولكل الذين يأملون بالتوصل إلى تسوية ودية للخلافات الأميركية الصينية واستمرار نجاح العولمة.