نحو خمسة وعشرين عاماً من الإعلام التلفزيوني، حفر فيها عميقاً في تطوير المهنة وتثقيف الذات، وشحذ الموهبة بالعلم والعمل وتنقيح المهارات وإجادة التقنيات وصقل سنوات النجاح بالاحتكاك بالجيل الجديد. هذه هي وصفة الإعلامي نيشان ديرهاروتيونيان، كما يقول لهارفارد بزنس ريفيو.
هارفارد بزنس ريفيو: مَن هو الإعلامي التقليدي؟ ومَن هو الإعلامي المبدع؟
نيشان: الإعلام مهنة جاحدة وبخيلة لا تهب ذاتها إلا للنخبة الشغوفة، إما أن تبدع لتمدد عقدك المبرم مع النجاح أو تقع في شرك الرتابة والتقليد. الإعلامي المبدع هو من يتصل ويتواصل بالكلمة والمشهد والفكر والمظهر والأذن ويصنع محتوى ينطوي على أدوات الجذب كلها.
هل وضعت شخصاً بعينه في مجال الإعلام لتصل الى مكانته على الشاشة؟
أحاول وأسعى جاهداً أن أطوّر ذاتي مهنياً وأنقح مهاراتي وأجيد تقنياتي في التواصل مع تلك الوثبة السحرية من الإعلام التقليدي إلى المنصات الرقمية. استفدت كثيراً من خبرات مَن سبقوني، شاهدتهم ولا زلت، تأثّرت بطاقات نورهم، تمعّنتُ في سيرهم، ألهمتني نجاحاتهم، وتعلّمت من أخطائهم، ففي العالم العربي ذاكرة وجدانية إعلامية ثرية أغرف من أركانها ما أشاء.
بدأتَ العمل في الإعلام منذ 26 عاماً ولم تكن قد أنهيت دراستك الجامعية، ما الذي دفعك لمتابعة الدراسة الأكاديمية بعد أن حصدت الشهرة؟
إنّ التعليم الأكاديمي كنز والتحصيل العلمي امتياز، لقد أكملت دراستي الجامعية ونلت إجازة في العلوم الطبيعية وعلم الأحياء من الجامعة الأميركية في بيروت وإجازة في العلوم السمعية والبصرية من جامعة سيدة اللويزة وإجازة في لغة الجسد من البافتا في لندن وشهادة ماجستير في الإعلام والصحافة الإلكترونية من جامعة سيدة اللويزة وشهادة ماجستير في فلسفة الاتصال والتواصل من كلية الدراسات العليا الأوروبية (European Graduate School) في سويسرا، واليوم أشعر أنّ تلك الشهادات لم ترو ظمئي. فالشهرة قد تزول، أما العلم فيبقى. ولكن بالإضافة إلى التحصيل العلمي يعتبر التثقيف الذاتيّ مطلوباً أيضاً كي يكون الإعلامي مؤثراً بشكل حقيقي.
بين التأقلم مع معطيات الواقع والسعي وراء الطموح ما هي المعادلة التي تناسبك؟
جيل الإعلام التقليديّ أي التلفزيون في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي كان أوفر حظًا. الشاشة لم تكن متاحة إلا لأولئك الذين استأهلوها قولاً وفعلاً وعملاً. كانت الشاشات تنتقي، كانت شروط البروز صارمة. مع الفضائيات ثم مع غزو الإعلام الافتراضي الرقمي اختلفت المعايير، وتبدلت مقاييس النجاح، وكبرت التحديات وصعُبت. اليوم عصر "التراند"، لا يهمني. عملت طوال هذه السنوات وصنعت من اسمي "براند" أي علامة تجارية لا "تراند". طموحي أن أطيل عمر هذا "البراند" وأحلّق في أفق الواقع والافتراض. أؤمن وأجزم أنّ العمل الدؤوب مجد.
تعدّدت وسائل العمل الإعلامي، كيف يمكن للإعلامي معرفة دائرة تميّزه في نطاق نوع البرامج التي يقدّمها؟
برنامج "مايسترو" صنع من اسمي علامة تجارية، حيث كان نقلة نوعية في إدارة الحوار والأسلوب النقاشي والتقديم العصري مع الحفاظ على جينات الأصالة في الإعلام، كانت لي الفرصة والحظ والشرف في محاورة الكثيرين، من سعيد عقل إلى صباح ووديع الصافي وجورج وسوف ومحمد عبده وملحم بركات، وأسماء أثرت تجربتي وشكّلت نواة طيبة للحوارات التلفزيونية وأرشيفاً يعوّل عليه لغاية اليوم. اليوم أخوض غمار البرامج الاجتماعية. برنامج "أنا هيك" يحقّق لي نسب مشاهدة عالية جداً بعد أن تفوّق على برامج من النوع ذاته. إن كنت محاوراً جيداً فيمكنك محاورة المغني والشاعر والرسام والسياسي والبائع والمعلم والطبيب والإسكافي والحاجب.
تكاد تكون الإعلامي الأول الذي أعلن في برامجه أسماء فريق العمل خلف الشاشة... ما هو الدافع؟
أؤمن بنون الجمع، والنجاح الجماعيّ يفرحني. مع فريق العمل أكون أكثر قوة، وأستمر لوقت أطول. هؤلاء عصاي وعكّازي، يثقون بي وبقدرتي أن أمثّل جهودهم خير تمثيل، يستحقون أن أذكرهم فهم جميعًا يسعون إلى مساندتي وإنجاحي للإضاءة على تميّزي. أشعر بالامتنان وأشكرهم وأحمد الله على وجودهم في حياتي المهنية.
هل تنجح أكثر حين تكون قائداً لفريقك أم جندياً ضمن فريق العمل؟
نجاحنا هو القائد، روح الجماعة تقودنا جميعاً إلى شطآن الضوء. الثقة، المحبة، التفاني في العمل، الإيمان بثمرات التفوق، والنقد المطلق، جميعها ركائز تقودنا إلى قلعة التفرّد. ما من قائد وجنديّ، نحن نخدم مهنة الإعلام. نخدمها فتختمنا بختم النجاح، فكم من قائد بليد، كسول، محدود العلم والعمل والخبرة ولا يضيف أيّ قيمة. أفرّ دائمًا بنفسي وبدني وحلمي من هؤلاء.
ما الذي يميّزك عن غيرك من الإعلاميين في البرامج الحوارية؟
لا أحدّد جغرافيا التميّز عن سائر المحاورين. لكلّ محاور أسلوب، ثمّ طرح الأسئلة لا يصنع محاورًا. ليس كلّ مَن طرح أسئلة حصل على رتبة محاور. لي نهجي وخطّي وأسلوبي وأبحاثي وفريق عملي وأقدَّر كما غيري على تلك الإضافة التي أجتهد على صنعها.
عمّ كنت تبحث من خلال الشاشة؟
الحوارات تجالس الجوهر، تطرق باب القلب بل لبّ القلب، قلب القلب، تلعب على خطوط التماس بين الضوء والحقيقة. في ظلّ الأضواء تختبئ الحقيقة في خفر. أبحث عنها. ألهث خلفها. أصطادها بغتة. الحوار نزع جلد، يزهر المحاور فرحاً وزهواً واعتداداً وقد ينطق ألمه وإخفاقه وحزنه وسقوطه وعقدته، ويحضر ماضيه حين يصحو من غفوته ذات لقاء. أبحث عن المعاناة البشرية المشتركة. الهموم تتشابه والأفراح تتعانق والأحزان تتشابك. جميعنا واحد، وأنا أنقّب عن ذاك الإنسان بوجوهه ووجوده.
هل من قمّة للنجاح فيما قدّمته حتى اليوم... وما هو تعريفك للقمّة؟
الجهد والعمل والمثابرة والفرص والحظ أركان حيوية تؤمن لك تأشيرة لزيارة مملكة النجاح، تقيم فيها وتنعم من خيراتها وتتألّق، لكن حذارِ إن تقاعست طردتَ دون سابق إنذار. هناك على أرض النجاح قمم مسطّحة لاستيعاب كل مَن يستأهل تسلّقها، وإن أثبتت أنّك لا تستحقّها قذفت بك إلى الهاوية وما أدراك ما في الهاوية.
ما هو مفهومك للفشل؟ متى فشلت وكيف تخطيت هذا الفشل؟
لا ترد الأضداد في قاموسي كما في المعاجم، فعكس النجاح في قاموسي هو أقل نجاحاً، وعكس جميل هو أقلّ جمالاً، إن لم تردّد المفردة عقلك لا يقوم بفعلها. أنجح ثم أحقّق نجاحاً أقلّ ثم أتحدّى وأخطو وأحلّق من جديد. أتذكّر العقد المبرم مع النجاح وأعمل على أن أفي جميع الشروط الواردة في البنود.
ماذا أفقدتك الشهرة وماذا أكسبتك؟
الشهرة نعمة لمَن يبتغيها. الشهرة فاكهة يشتهيها الجميع. أعطتني الكثير، وشعوري الوحيد هو الامتنان. أنا ممتن لربي وأشكره بجميع لغات العالم.
ما السبب الكامن خلف اتجاهك الى الإعلام الاجتماعي ضمن برنامج "أنا هيك"؟ هل هو تحد جديد أم ندرة عروض لتقديم برنامج حواري؟
عُرض عليّ "أنا هيك" وعملنا مع فريق عملي، خطّطنا ونفذنا ونجحنا في موسمين منه لغاية الآن. تزامناً مع "أنا هيك"، عملت على برنامج "توأم روحي" الذي تم بثه في رمضان الماضي على قناة بي إن دراما.
كيف تتجلّى روح المنافسة في عملك؟
أرى أنّ الإعلام يلبس ثوباً صحياً إن تكامل لا إن تنافس. الروح في التكامل لا في التنافس. البرامج جميعها لوحة فسيفساء تكمل بعضها البعض. إن اكتملت اللوحة، تمتّعت الأذن والعين عند المتلقّي.
ماذا عن ألف باء طموحك الإعلامي؟ ماذا يحدّه؟
طموحي، من الشمال يحدّه الإيمان، من الشرق يحدّه رضا الوالدين، من الغرب يحدّه الاجتهاد، ومن الجنوب تحدّه القراءة والتثقيف الذاتيّ.
ما هي خطوطك الحمراء عبر الإعلام؟
ليست دائماً خطوطًا قد تكون مربعات حمراء أو مثلثات أو دوائر. الأهم أن لا ثقوب سوداء في الإعلام. كل ما يخطر على البال يجوز أن يطرح على الشاشة. المقاربة، الطرح، الأسلوب، اللسان، والقالب. هذه عناصر تصنع المحتوى. ويبقى لثالوث الجنس والدين والسياسة مساحة كبرى في مدينة المحرمات الإعلامية وهي الأكثر جذباً.
ما هو سلّم أولوياتك الحالية؟
شاركت أخيراً في الجامعة الأميركية في بيروت في الحفل الختامي لمسابقة العقول المستدامة. ضمّ هذا اللقاء 300 من طلاب لبنان ضمن فعالية (Global Contact Lebanon Network) التابع للأمم المتحدة. شاركت بخطاب تحفيزيّ للطلاب، وتعلّمت منهم أنّ المستقبل هو ملك للعقول المستدامة، أي العقول التي تعثر على المعضلة، تحدّدها، تعمل على حلّها وقلعها من جذورها لتستمر تلك العقول، وفي مهنتي على هذه الخطى أسير.
عن ماذا تبحث في ورشات التدريب والندوات التي تشارك فيها وإلى ماذا تهدف في تلك التي تديرها وتقدمها؟
المشاركة هي كلمة السر. قيل: "مشيناها خطى كُتبت علينا، ومَن كُتبت عليه خطى مشاها". أحاول في هذه الندوات والملتقيات والمنتديات الاحتكاك بالجيل الجديد. أبني جسور تواصل معهم. أحاول أن أبسط تجربتي لهم. يقتدون بي. أقتدي بهم. ننصهر في الفكر والتحليل. اليأس والإحباط من سمات عصر التكنولوجيا، أحاول أن أشجّعهم وأحفّزهم. أخبرهم عني، عن قصتي، تجربتي، تحدياتي، البداية، الصعاب، الفوز، النجاح، اللانجاح، الإصرار، العزيمة، المثابرة، والإيمان. أما في ورشات العمل التدريبية فأتعاقد مع شركات في القطاع العام والخاص في لبنان والعالم العربي وأدربهم في مجال اختصاصي "الإعلام"، المثول أمام الكاميرا، لغة الجسد، الإلقاء، صناعة الكاريزما، التخلّص من رهاب ورهبة المسرح، والانسيابية في التعبير. أما في المجال السياسي فأقوم بتدريب كوادر سياسية وتهيئة البعض منهم كي يكونوا في جهوزية تامة لخوض المعترك السياسي.