بات التحدي المتمثل في اختيار الأفكار التي يجب اتباعها أمراً بالغ الأهمية بالنسبة للشركات، مع تبنيها نهج الابتكار المفتوح والتعهيد الجماعي الذي يستعين بأفكار وآراء مجموعة كبيرة من الأشخاص من أجل البقاء في طليعة الابتكار. وتشير البحوث إلى أن المؤسسات التي تتلقى عدداً كبيراً من الأفكار تواجه صعوبة في اختيار أكثرها أصالةً وابتكاراً. وغالباً ما يفتقر القائمون على التقييم إلى المهارات اللازمة لمعرفة قيمة هذه الأفكار. كما يفضل المدراء سماع أفكار أشخاص يعرفونهم أو يشابهونهم بطريقة أو بأخرى. ولتقييم الأفكار، كثيراً ما اقترح علماء الابتكار معايير الحداثة والجدوى وإمكانات السوق باعتبارها أهم المعايير لتقييم أفكار العمل "الجيدة". ومع ذلك، ليس هناك مفهوم جامع حول ماهية الفكرة الجيدة أو كيفية تصنيف مستوى "الجودة" النسبي، لأن الأفكار الجيدة قد تنطوي على مجموعة واسعة من الفوائد. ومن الممكن أن تخلق بعض الأفكار -إلى جانب الربحية- قيمة للشركة، من حيث رضا العملاء وولائهم والترويج للعلامات التجارية، وما إلى ذلك.
ولكن قد توجد طريقة أسهل: تتمثل هذه الطريقة في تقييم الفوائد التي تعِد فكرة ما بتحقيقها مقارنة بتكلفة تطويرها. وقد تكون الفكرة التي تقدم فائدة بسيطة متدرجة ولا تتطلب إلا القليل، أكثر ربحية من فكرة رائعة تتطلب الكثير من الاستثمار. وفي نهج مشابه لنهج تقييم الاستثمار، يصبح هدف الشركة هو البحث عن أفكار تبدو ذات فائدة عالية مقارنة بتكلفة التطوير.
وينطوي هذا النهج التجريبي الذي يُستخدم غالباً في تصنيف الاستثمارات على تقييم مستوى الكفاءة التي تعني مدى كفاءة الوحدة المقيّمة في تحويل الموارد التي تستخدمها إلى نواتج، بمعنى تحويل المُدخَلات إلى مُخرَجات. وتعكس الكفاءة الأداء النسبي، وهو ما يعني أن كفاءة كل وحدة تعتمد على مدى قدرة هذه الوحدة على المنافسة مقارنة بالاستثمارات الأخرى. وعند تكييف الكفاءة مع عملية تقييم الأفكار، نرى أنها تشير إلى مدى جودة تحويل الفكرة للموارد التي تحتاج إليها لتحقيق أنواع مختلفة من الفوائد. ويتطلب تقييم حجم كبير من الأفكار بهذه الطريقة بعض الاستثمار، ولكن من الممكن أتمتة العملية. يمكنك- على سبيل المثال- أن تطلب من المشاركين في منصة التعهيد الجماعي تقييم أفكار أقرانهم بناءً على أبعاد المُدخَلات والمُخرَجات المختلفة.
ولاختبار كيفية استخدام هذا المفهوم في الممارسة العملية، حلّلنا مجموعة من البيانات المتاحة للجمهور من منصة ماي ستاربكس آيديا (My Starbucks Idea) على مدار عام واحد. فقد أطلقت شركة ستاربكس موقع التعهيد الجماعي هذا في عام 2008. ومنذ ذلك الحين قدّم العديد من الزبائن عدة أفكار لعروض جديدة. (كانت جميع هذه الأفكار متاحة للعامة في الوقت الذي أجرينا فيه هذا البحث. ولكنّ الإدارة اتبعت سياسة جديدة في عام 2017، فلم تعد الأفكار والتعليقات المقدمة من قبل الأعضاء الآخرين متاحة للأطراف الخارجية).
وتبدأ العملية بتقديم أعضاء المنصة أفكارهم، ليقوم فريق ستاربكس بعد ذلك بمراجعتها. وبعد إجراء الاختيار، يقدم الفريق الأفكار "الخلاقة" لصناع القرار الرئيسيين في الشركة، وهم المسؤولون عن معرفة كيفية وضع تلك الأفكار موضع التنفيذ.
وقد استخدمنا، لقياس كفاءة الأفكار وتقييمها(DEA)، طريقة تسمى تحليل محفظة البيانات. وقد صيغ مصطلح تحليل محفظة البيانات في الأصل في الورقة البحثية الإبداعية التي قدمها أبراهام تشارنيس ووليام كوبر وإدواردو رودس، واستُخدم منذ ذلك الحين في دراسات متنوعة لقياس كفاءة الوحدات التنظيمية، مثل المستشفيات وإدارات الشرطة والمدارس. واستخدمنا تحليل محفظة البيانات لتقييم الموارد التي تتطلبها كل فكرة بغية تنفيذها، ولتقييم مدى جودة كل فكرة ضمن مجموعة متنوعة من الأهداف مقارنة بالأفكار البديلة.
ودرسنا الآلاف من الأفكار لغرض هذه الدراسة، إلا أننا ركزنا في نهاية المطاف على مجموعة مكونة من 315 فكرة قُدّمت في عام 2016. وتندرج هذه الأفكار ضمن 10 فئات من الفئات البالغ عددها 15 فئة التي حددها ستاربكس، مثل "الغلاف الجوي والمواقع"، و"مجتمع البناء"، و"التكنولوجيا الجديدة". ودققنا المحتوى بعد ذلك بهدف إقصاء الشكاوى والمديح والأفكار المتعلقة بالبلدان. أمّا الأفكار المتبقية البالغ عددها 117 فكرة، فقد جمعنا حولها بيانات وصفية أخرى مثل تاريخ نشر كل فكرة ودرجة تقييمها. وتمثّل هذه الدرجات إقراراً باستلام أعضاء منصة ماي ستاربكس آيديا جميع الأفكار التي أرسلت إليهم. وبصورة أكثر تحديداً، يمكن للأعضاء الموافقة على كل فكرة أو رفضها، ويشكل العدد الإجمالي "للتقييمات الإيجابية" مطروحاً منه "التقييمات السلبية" المستلمة النتيجة الإجمالية للفكرة. (وتراوحت الأرقام من -20 إلى 9.110، بمعدل متوسط قدره 366).
ولتحديد المُدخَلات ذات الصلة (بمعنى الموارد اللازمة للتنفيذ) والمُخرَجات (النتائج المرجوة لفكرة ما)، قمنا بمراجعة الأدبيات الأكاديمية وجميع الأفكار المحددة في مجموعة البيانات الخاصة بنا بهدف تطوير ترميز للسياقات المحددة. وأسفرت هذه العملية التكرارية عن مجموعة نهائية مكوّنة من خمسة مُدخَلات وخمسة مُخرَجات. وقدمنا هذه الأبعاد للمشاركين في استبيان عبر الإنترنت. وقام كل مشارك بتقييم مُدخَلات مجموعة واحدة من الأفكار ونتائج مجموعة مختلفة من الأفكار. وقام ثلاثة إلى 10 مشاركين بتقييم المُدخَلات والمُخرَجات لكل فكرة على مقياس من 1 (سلبي للغاية) إلى 5 (إيجابي للغاية).
كيف قورنت أحكام المجيبين مع أحكام ستاربكس؟
الفكرة: السماح للأفراد بدعوة أصدقائهم إلى تناول كأس عصير بمثابة هدية عبر رسالة نصية.
"أودّ أن أكون قادراً على دعوة أصدقائي إلى تناول العصير كهدية مدفوعة الثمن من بطاقة ستاربكس التي أملكها أو بطاقتي الائتمانية، عبر رسالة نصية قصيرة أو برنامج آي مسج لتهنئتهم أو كدليل على اهتمامي بهم. وأعتقد أنه سيتم إيجاد طريقة سهلة للقيام بذلك عن طريق توليد إيصالات بطاقات الهدايا". حصلت هذه الفكرة وفقاً لتقييمنا على درجة عالية، وخصوصاً فيما يتعلق بزيادة رضا العملاء وولائهم وتحسين صورة العلامة التجارية. والشرط الأساسي لتنفيذ هذه الفكرة هو توفر البنية التحتية التكنولوجية. ونظراً إلى أنّ التدريب اللازم لموظفي ستاربكس سيكون على الأرجح محدوداً، فإن مخرجات أو فوائد هذه الفكرة تفوق بوضوح المدخلات أو التكاليف اللازمة لتنفيذها، وهو ما يجعلها ذات كفاءة عالية.
استبيان الكفاءة: أعجبتهم الفكرة
ستاربكس: لم تعجبهم الفكرة
الفكرة: تنويع قائمة الطعام.
رأى أحد مستخدمي المنصة أن اختيار الطعام الذي تقدمه ستاربكس كان يتسم بالتكرار إلى حد ما، واقترح تغييره من وقت إلى آخر ليشمل الاختلافات الإقليمية والموسمية. على سبيل المثال، تشتمل بعض المناطق على منتجات تمثّل الثقافة المحلية، مثل القهوة المثلجة، وتشتمل المراكز الأخرى على منتجات مصنّعة محلياً، مثل المعجنات. وفي حين حازت هذه الفكرة درجة عالية مقارنة بالأفكار الأخرى المتعلقة برضا العملاء، وصورة العلامة التجارية، والولاء للعلامة التجارية، سجلت أيضاً أعلى نسبة من الموارد اللازمة لتنفيذ الفكرة مقارنة بالأفكار الأخرى.
استبيان الكفاءة: لم تعجبهم الفكرة
ستاربكس: أعجبتهم الفكرة
الفكرة: شاحنة ستاربكس متنقلة.
اقترح أحد الزبائن هذه الفكرة قائلاً: "على الرغم من توفر ستاربكس في كل ركن من أركان مدينتي تقريباً، أعتقد أنه من الأفضل تصميم شاحنة متنقلة، مثل شاحنة الآيس كريم تماماً. إذ إن هذا من شأنه أن يفيد العمال الذين لا يعملون بالقرب من مواقع ستاربكس، وخصوصاً بالنسبة إلى مراكز الاتصال أو أي نوع من الوظائف التي تتطلب من العمال البقاء مستيقظين في وقت متأخر من الليل. ورأى الأشخاص الذين استطلعنا آراءهم حول هذه الفكرة أنّ الموارد اللازمة لإنجاز هذه الفكرة ستفوق الفوائد المحتملة مثل زيادة رضا العملاء وولائهم مقارنةً بالأفكار الأخرى.
استبيان الكفاءة: لم تعجبهم الفكرة
ستاربكس: لم تعجبهم الفكرة
لا نعلم ما الذي دفع ستاربكس إلى رفض بعض المقترحات، مثل فكرة الهدية التي وجدنا أنها فكرة فاعلة للغاية. كما لا تتوفر لدينا معلومات حول سبب تنفيذ فكرة غير فعّالة إلى حد ما، مثل تغيير قائمة الطعام. ومع ذلك، يمكننا أن نستنتج بعد التدقيق في الأفكار التي اعتبرها المشاركون غير فاعلة والتي لم تنفذها شركة ستاربكس أن أسلوب عملنا قد يمنح لجنة الحكم طريقة عملية لتقييم الأفكار بشكل متسق، تماماً مثل أداة تقييم الاستثمارات.
وبمعنى آخر، قد لا يمكّننا هذا النهج من اختيار الأفكار العظيمة بسهولة، بيد أنه يمكّننا من تجنب اختيار الأفكار السيئة. ويساعدنا على إعطاء الأولوية لبعض الأفكار أو التفكير في الأفكار التي ينبغي تقييمها بشكل أكثر شمولاً. كما يُعتبر هذا النهج وسيلة مرنة، حيث يمكننا تكييف أبعاد المُدخَلات والمُخرجاَت المختلفة حسب رغبة الشركة. ويمكن بعد ذلك إيصال هذه الأبعاد إلى المبتكرين المحتملين لمنحهم إحساساً أفضل بأنواع الأفكار التي ترى الشركة أنها تستحق المتابعة.
وتتمثّل الميزة الأخرى لهذا النهج في أنه يمكّن الشركات من تقديم ملاحظات بنّاءة للأشخاص الذين قدموا الأفكار التي رُفِضت، وهو أمر مهم للغاية بهدف تشجيع المساهمات المستقبلية. وقد أظهرت البحوث السابقة التي أجراها ديرك وزميل له أنه عندما يقترن رفض الأفكار بملاحظات حول أسباب الرفض، سيشعر المتسابقون بالحماسة لتقديم المزيد من الأفكار.
وقد أدركت العديد من الشركات خلال العقد الماضي أنّ القدرة على الابتكار تعتبر عنصراً أساسياً في قيمتها المستقبلية. وحاولت، استجابةً لذلك، تشجيع أصحاب المصلحة على التفكير في العديد من الأفكار الجديدة. كما أنها أدركت الحاجة إلى اتباع طريقة أكثر منهجية لتصفية الأفكار وفلترتها بهدف إنشاء خط إبداع أكثر فاعلية. وقد يكون تقييم هذه الأفكار وفق اختبار الكفاءة خطوة أولى جيدة.