يعاني الباحثون والعلماء في الوقت الراهن من مشكلات عديدة، منها قضية نشر أبحاثهم ومبتكراتهم، فما الذي يؤرق هؤلاء الباحثين في موضوع النشر؟ وما هو نهج "العلم المتأني" الذي يساعد الباحثين في مجال النشر؟ لقد أدى التزايد المذهل في عدد الباحثين حول العالم منذ منتصف القرن العشرين إلى ازدياد جنوني في عدد الأبحاث الموجهة للنشر في المجلات الأكاديمية المحكّمة، ولهذا ازداد الطلب على إصدار المجلات، وتضاعف عددها وتشعبت تخصصاتها.
لكن للأسف، فقد جلب هذا الطلب إلى مجال النشر عدداً كبيراً من التجار الذين لا همّ لهم سوى جمع المال على حساب الجدية في نشر أفضل النظريات العلمية وتطبيقاتها.
طبيعة المعاناة التي تواجه الباحثين
في هذا السياق، تشير أبرز العوامل السلبية التي يعددها الباحثون على نحو متكرر إلى معضلة تقييم أعمالهم، فيعتمد هذا التقييم بشكل أساسي على عدد الدراسات والأبحاث التي ينشرونها في المجلات العلمية، وهكذا تدفع طريقة التقييم هؤلاء الباحثين -خاصة الشباب منهم- إلى إنتاج الكثير من الأوراق البحثية من أجل الوصول إلى كمية معينة من الاستشهادات بأعمالهم لأن ذلك سيؤهلهم إلى الترقيات والفوز بالعديد من مناصب العمل.
من عيوب هذا النوع من "النشر السريع" تزايد حالات الاحتيال والسرقات العلمية، الأمر الذي يسيء مباشرة إلى مسار التقدم العلمي وإلى سمعة العاملين في هذا الحقل. لقد شبّه البعض تداعيات تسارع وتيرة النشر من هذا القبيل بتداعيات الوجبات الغذائية السريعة ذات الجودة الرديئة على صحة الإنسان.
في الواقع، إن سمات البحث العلمي تتعارض تماماً مع فكرة التسرّع في النشر، وكذلك مع مبدأ نشر أفكار الباحث بشكل متقطع. بمعنى أن البحث الجاد الذي يجعل العلم يتقدم بثبات هو ذلك الذي ينتظر صاحبه اكتمال جميع جوانب عمله ليعرضه للنشر، ولا يسارع إلى إصدار كل جزء منه قبل أن تظهر خيوطه وأجزاؤه الأخرى بوضوح كامل. كما ينبغي ألا يتعمّد الباحث على نشر كل جزء من عمله على حدة بقصد الإكثار من عدد منشوراته، وذلك بدل إصدارها دفعة واحدة في مقال فريد بعد اكتمال كافة جوانبه.
إن المسؤول الأول عن هذه الظاهرة المتفشية لدى الباحثين في الشرق والغرب هو أسلوب تقييم أعمال الباحثين، فالباحث العلمي قد يفقد منصبه إذا ما تأخّر في النشر، وربما يسبقه غيره إلى الترقية بسبب ذلك.
الحل: نهج "العلم المتأني" (Slow Science)
إنها معادلة صعبة وبالغة التعقيد جعلت البعض يدعو إلى مسلك سمّوه "العلم المتأني" (Slow science)، الذي يهيب الباحثين إلى التريث، ويناشد مقيّميهم اللجوء إلى أساليب أخرى لتقييم أبحاثهم. لكن هل يمكن التخلي نهائياً عن مبدأ "العلم السريع" أو "النشر السريع"؟
من الناحية العملية، هذا غير ممكن، وأحسن دليل على ذلك ما حدث نتيجة ظهور فيروس "كورونا" في مطلع عام 2020 وحالة الطوارئ الصحية التي أعلنت عنها "منظمة الصحة العالمية"، ومن ثمّ تسارع البحث في متاهات هذا الفيروس من أجل تحديد سبل تفادي انتشاره عبر بلدان العالم. لقد أدى هذا الوضع إلى نشر ما لا يقل عن 97 ألف بحث علمي خلال سنة واحدة، حسب قاعدة بيانات "بوبميد" (PubMed)، التي تمثّل أبرز محرك بحث في المجال الببليوغرافي.
وبالخطف خلفاً نحو التاريخ، وتحديداً في عام 1986، ظهرت في إيطاليا حركة وقف وراءها مجموعة من علماء الاجتماع والمؤرخين وغيرهم أُطلق عليها اسم "الأكل البطيء" (Slow Food) مقابل "الأكل السريع" كرد فعل على ظهور ثقافة استهلاك الوجبات السريعة، وتأسست بعد ذلك قرب مدينة تورينو جمعية دولية غير ربحية شعارها الحلزون، واعترفت بها "منظمة الأغذية والزراعة"(FAO) التابعة لـ "الأمم المتحدة". ثم تطورت هذه الدعوة إلى التباطؤ والتأني في العديد من المجالات، وانتشرت في عدة قطاعات حتى بلغت مجال العلم ونشر البحوث.
وهكذا، وفي سياق التسارع الجنوني للنشر، نشأت في العاصمة الألمانية برلين عام 2010 "أكاديمية العِلم المُتأنّي" (The slow science academy)، وبعد ذلك أصدرت هذه الهيئة بياناً جاء في مقدمته: "نحن رجال علم لا ندوِّن، ولا نغرِّد. نحن لسنا مستعجلين!" واختُتم البيان بتوجيه نداء للمواطنين في كل أرجاء العالم، يقول :"صبراً يا ناس، تحمّلونا، فنحن نفكّر". كما تخلل هذا النص دعوة إلى التريّث في نشر الأبحاث حتى تدرك مرحلة النضج لأن العلم يحتاج إلى وقت للتأمل والتفكير.
لا ترى أكاديمية العلم المتأني حرجاً في تزايد التخصصات العلمية، وفي العمل على تسريع عملية إنتاج الأفكار العلمية، وفي تكاثر عدد المجلات المحكّمة. لكنها في الوقت ذاته تؤكد أن ذلك ليس كل ما يُطلَب من العلم والعلماء لأن العلم له نصيبه من الشكّ في نتائجه، وهو يستدعي التعديل والتحسين على الدوام، ولذا يحتاج التقدم العلمي إلى الاطلاع وإعادة القراءة ليخطئ الباحث ويصيب مرات عديدة سعياً إلى الأفضل. كل ذلك يستغرق وقتاً، وأحياناً وقتاً طويلاً، فلِمَ نستعجل وننشر النتائج الغثّة والمتسرّعة التي تخطئ كثيراً وتصيب قليلاً!
"النشر أو الاندثار" مقابل "العلم المتأني"
إن العمل بالمبدأ الشهير في عالم البحث الأكاديمي "النشر أو الاندثار" (Publish or perish)، يعارض مبدأ "العلم المتأنّي"، ولسوء الحظ، يلاحظ جميع الباحثين أن معظم المؤسسات الأكاديمية تعمل اليوم بالمبدأ الأول في العالم الغربي كما في العالم الثالث، وهو ما يخلّ بالتوازن المنشود.
ليس سراً اليوم أن النظام الأكاديمي الحالي يشجع الكمّ في النشر على الجودة، ويكافئ أصحاب "العلم السريع" على حساب أهل "العلم المتأني"، والأدهى من ذلك، أن هذا التوجه ماضٍ في الانتشار بين الباحثين الشباب الذين يتنافسون على مناصب دائمة في مراكز البحث والجامعات. في المقابل ثمة فئة من العلماء عددهم يتزايد ببطء يرون أنه لا يمكن توفير بيئة أكاديمية نقية إلا من خلال العمل بمبدأ "العلم المتأنّي".
ما "يزيد الطين بلة"، ويؤدي إلى انتفاضة أهل "العلم المتأني" باستمرار هو أن المحتالين من تجار النشر يستعملون منذ سنوات الشبكة العنكبوتية، فيفتحون المواقع ويعلنون فيها أن الأمر يتعلق بإيجاد موقع إلكتروني لمجلة "أكاديمية محكّمة" تنشر بسرعة البحوث الراقية، وعندما يطَمْئن الناشرُ المحتالُ ضحيتَه فإنه يخبره في آخر لحظة بأن النشر ليس مجانياً متذرعاً مثلاً بأن المجلة تدفع مبلغاً مالياً للمحكمين حتى يرسلون تقاريرهم بسرعة! وبعد أن يدفع الضحية المبلغ المطلوب يتم نشر مقاله من دون تحكيم!
وبالعودة إلى بيان "أكاديمية العِلم المتأنّي"، فإننا نقرأ هذا النداء الموجه من العلماء إلى الجمهور في ختامه: "نحن بحاجة إلى وقت للتفكير. نحن بحاجة إلى وقت للاستيعاب. نحن بحاجة إلى بعض الوقت بسبب سوء فهم بعضنا لبعضن. نحن لا يمكننا اطلاعكم باستمرار عما يَعْنيه علمنا وعما ستكون منافعه لأننا ببساطة نجهل ذلك لحد الآن. إن العلم يحتاج إلى وقت".
وعلى الرغم من ذلك، فقد يلاحظ البعض أن جائحة "كورونا" وتداعياتها على مختلف بلدان العالم جعلتنا ندرك -على الرغم من دعوات العلم المتأني- أن هناك بعض الفروع العلمية التي لا يمكن حثها على التباطؤ والتأني، وعلى كل حال، يجب ملاحظة أن فعالية العمل بفكرة "العلم المتأني" لن يكتب لها النجاح ما لم يتم تبنيها كمشروع جماعي.
مقترحات وتوصيات
تعزيزاً لترسيخ مبدأ "العلم المتأني" وتخفيفاً لمعاناة الباحثين، فإنني أوصي بما يلي:
* العمل في كل الهيئات الأكاديمية على أخْلَقَة نشاط البحث العلمي ونشر نتائجه بنزاهة بعيداً عن الاستغلال المادي للباحث والمحكّم.
* إعادة النظر في دور المقال المنشور في موضوع الترقيات ونيل الشهادات، وتركيز التقييم على نوعية العمل وليس على كمّ المقالات المنشورة سابقاً.
* وضع القوانين العالمية الردعية التي تعاقب المجلات المتطفلة والمستغلة لعرق الباحثين والمحكّمين، ولا ينبغي الاكتفاء بتوبيخها أو التشهير بها وبمنشوراتها.
* سنّ المزيد من القوانين على مستوى مختلف البلدان التي من شأنها أن تعاقب الأفراد على كل عملية غش وتزوير وسرقة فكرية في المجال العلمي.
* التمييز بين المجلات واعتمادها بناء على جدية المادة التي تنشرها ودسامتها، وليس بناء على انتسابها لمؤسسة جامعية محددة أو دار نشر بعينها.
* إنشاء آلية في مؤسسات التعليم العالي تسمح للمنتسبين إليها بالترقيات ليس بناء على أبحاث مبتكرة فحسب بل تراعي، بوجه خاص، جودة أداء مهام أخرى، مثل: جودة الدروس والمحاضرات التي يتلقاها الطلبة، والخدمات التي يقدمها الباحث للمجتمع داخل الجامعة وخارجها في المجال العلمي والثقافي والتوجيهي وغيرها.
* دعم كل آلية تقييم تسعى إلى تخفيض درجة التهافت على نشر الأبحاث من أجل الترقيات.
* إدراج الآليات السابقة الذكر ضمن معايير تصنيف المؤسسات.
* ولكسر هيمنة المجلات المستغلة لعرق العلماء، وكذلك المجلات سيئة السمعة، يجب العمل على فتح مواقع إلكترونية تُعنى باستقبال البحوث العلمية التي يرسل لها الباحثون حول العالم والسماح أيضاً للجميع بتصفح تلك البحوث، وإتاحة الفرصة للمتصفحين بالتعقيب على كل مقال بإبداء الملاحظات والتوجيه والنقد.
* التأكد من قبل كل باحث من أن المجلة التي يوجه لها مقاله مجلة جادة لا "مفترسة" ولا وهمية.
* وعوضاً عن أن يكون التمويل حكراً على المشاريع قصيرة المدى التي تسير في فلك "العلم السريع" ينبغي تشجيع وتمويل الباحثين العاملين على مشاريع طويلة المدى المتعاونين مع غيرهم من خارج مؤسساتهم. وهذه المشاريع قد لا تكون ذات مردود يذكر على المدى القصير، لكنها ذات فائدة جمة على مستقبل البحث العلمي.
* العمل على تصميم نماذج جديدة للبحث العلمي تمهد الطريق للجيل الصاعد من الباحثين وتحفزهم على الميول إلى العمل بمبدأ "العلم المتأني".
* الاهتمام بتدريس تاريخ العلوم للجيل الصاعد ليدرك أن العلم يتقدم بتأنٍّ من خلال الخطأ والصواب والتعاون والتنافس، ومن شأن ذلك أن يجعل الشباب يدركون أنه لصالحهم نشر عدد قليل من البحوث الدسمة بدلاً من نشر كمٍ كبير من المقالات هزيلة المحتوى.
إن تطبيق نهج "العلم المتأني" لن يؤتي ثماره إلا إذا بذلت الهيئات الأكاديمية جهداً موحداً ضمن اتجاه واحد لتقييم أعمال الشباب الباحثين بطريقة علمية وموضوعية.