مستقبل “العمل من أي مكان”

23 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
أفضل الممارسات للمؤسسات التي يعمل كل موظفيها عن بُعد

ظهرت قبل عام 2020 حركة أخذت تنشط شيئاً فشيئاً داخل مؤسسات العمل المعرفي، وذلك بعد الطفرة التي شهدتها التقنيات التكنولوجية المملوكة للأفراد وثورة الاتصالات الرقمية التي تقدمت بسرعة مذهلة لدرجة أن الجميع راحوا يتساءلون: “هل بات من الضروري أن يلتئم شملنا في مكان واحد لنؤدي عملنا؟” ولم نلبث أن جاءتنا الإجابة خلال فترة الإغلاق التي فرضتها الجائحة، حيث علمتنا الأزمة أن الكثيرين منا لا يحتاجون في الواقع إلى العمل مع زملائهم في موقع ميداني واحد لأداء مهمات وظائفهم، إذ يمكن للأفراد والفرق وقوة العمل بأكملها أداء المهمات المطلوبة منهم بأعلى مستويات الجودة دون أي يبرحوا أماكنهم، وهو ما حدث بالفعل. وهكذا صرنا نواجه الآن أسئلة من نوع جديد: هل المؤسسات التي يعمل كل أو معظم موظفيها عن بُعد هي مستقبل العمل المعرفي؟ وهل وُجِد “العمل من أي مكان” ليبقى؟

يقدم نموذج العمل من أي مكان، دون شك، مزايا ملموسة للشركات وموظفيها، فهو يتيح فرصة ذهبية أمام المؤسسات لخفض تكاليف المنشآت العقارية، أو التخلص منها تماماً، وإمكانية توظيف المواهب النابهة من مختلف أنحاء العالم والاستفادة من مهاراتهم مع التخفيف من مشكلات الهجرة علاوة على مكاسب الإنتاجية حسبما أفادت الأبحاث؛ كما أن العمل عن بُعد يمنح الموظفين ميزة المرونة الجغرافية (أي العيش في المكان الذي يفضلونه) والتخلص من مشاق التنقل وتحقيق التوازن بين العمل والحياة بصورة أفضل. وعلى الرغم من ذلك، فلا تزال المخاوف قائمة بشأن تأثير العمل من أي مكان على التواصل، بما في ذلك العصف الذهني وحل المشكلات ومشاركة المعرفة والتفاعل الاجتماعي وروابط الصداقة الحميمة والتوجيه وتقييم الأداء والتعويضات وأمن البيانات والقوانين.

ولفهم كيف يمكن للقادة جني مزايا العمل من أي مكان والتغلب على التحديات المصاحبة له وتلافي آثاره السلبية، عكفتُ على دراسة العديد من الشركات والمؤسسات التي اعتمدت نموذج عمل كل أو معظم موظفيها عن بُعد. كان من بينها “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” (الذي يضم عدة آلاف من الموظفين العاملين عن بُعد)، وشركة “تولسا ريموت” (Tulsa Remote)، وشركة “تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز” (TCS)، وهي شركة عالمية لخدمات تكنولوجيا المعلومات أعلنت عن خطتها لعمل موظفيها عن بُعد بنسبة 75% بحلول عام 2025، وشركة “غيت لاب” (GitLab)، أكبر شركة في العالم يعمل كل موظفيها عن بُعد، ويعمل بها 1,300 موظف، وشركة “زابير” (Zapier) المتخصصة في أتمتة سير العمل والتي تضم أكثر من 300 موظف لا يعمل أي منهم في موقع واحد في جميع أنحاء الولايات المتحدة وفي 23 دولة أخرى)، وشركة “موب سكواد” (MobSquad)، وهي شركة كندية ناشئة تعيّن موظفين يعملون عن بُعد.

أدت أزمة “كوفيد-19” إلى توجيه أنظار كبار القادة لفكرة اعتماد نموذج العمل من أي مكان لجميع أفراد قوة العمل أو بعضهم على الأقل، فبالإضافة إلى شركة “تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز”، أعلنت شركات مثل “تويتر” و”فيسبوك” و”شوبيفاي” (Shopify) و”سيمنز” و”بنك الهند الوطني” أنها ستعتمد نموذج العمل عن بُعد على الدوام حتى بعد توفر اللقاح. وقد توفرت على دراسة مؤسسة أخرى وهي منظمة “لجنة التنمية الريفية في بنغلاديش” (BRAC)، وهي واحدة من أكبر المنظمات غير الحكومية في العالم، ومقرها بنغلاديش. حيث تعكف حالياً على دراسة نموذج العمل المناسب والذي يجب اعتماده على المدى الطويل بعد اضطرارها إلى العمل عن بُعد هذا العام.

وإذا كانت مؤسستك تفكر في طرح برنامج للعمل من أي مكان أو تطبيقه على أرض الواقع، فيمكن الاسترشاد بهذه المقالة كدليل توجيهي.

تاريخ مختصر لنظام العمل عن بُعد

يمكن القول إن التخلي عن النموذج التقليدي للعمل، أو العمل في موقع واحد، والاتجاه إلى تبني نموذج العمل عن بُعد قد بدأ باعتماد سياسات العمل من المنزل في سبعينيات القرن الماضي، حينما أدى ارتفاع أسعار البنزين الناجم عن حظر تصدير النفط الذي فرضته منظمة “أوبك” عام 1973 إلى رفع تكلفة النقل والمواصلات. أدت هذه السياسات إلى تخلي الموظفين عن فكرة الذهاب إلى مقار العمل الرسمية والاستعاضة عنها بمنازلهم أو مساحات العمل المشتركة أو غيرها من أماكن التجمع، مثل المقاهي والمكتبات العامة في بعض الأيام على أساس منتظم، وبدوام جزئي أو كامل، مع إلزامهم بالحضور إلى مقار العمل بشكل دوري، وكثيراً ما كان يُمنَح الموظفون أيضاً حق التحكم في جداول مواعيدهم، وهو ما سمح لهم بتخصيص وقت لإحضار أطفالهم من المدارس أو أداء المهمات الأسرية أو ممارسة الرياضة في منتصف اليوم دون اعتبار ذلك نوعاً من التهرب من العمل، وهكذا استطاعوا توفير الوقت الذي كان يضيع في المواصلات، وتقليل الحاجة لأخذ إجازات مرضية أيضاً.

وجرى التوسع في اعتماد العمل من المنزل في العقد الأول من الألفية الثالثة بفضل ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية والإنترنت والبريد الإلكتروني والاتصالات واسعة النطاق وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف الجوالة والحوسبة السحابية ومكالمات الفيديو. ولفت الباحثان رافي غاجندران وديفيد هاريسون في مقالهما المنشور عام 2007 إلى أن هذا الاتجاه أخذ في التسارع بسبب الحاجة إلى الامتثال لقانون الأميركيين ذوي الاحتياجات الخاصة لعام 1990، على سبيل المثال، و”لجنة الولايات المتحدة لتكافؤ فرص العمل”.

كما أثبتت الأبحاث تحسن مستوى الأداء، فقد توصلت دراسة أُجريت عام 2015 من قبل نيكولاس بلوم وزملائه إلى ارتفاع إنتاجية الموظفين بنسبة 13% عندما اختاروا سياسات العمل من المنزل. وعندما تم تخيير هؤلاء الموظفين أنفسهم بعدها بتسعة أشهر بين مواصلة العمل من المنزل والعودة إلى مقر العمل، شهدت أعمال أولئك الذين اختاروا الخيار الأول (أي العمل من المنزل) مزيداً من التحسينات: حيث زادت إنتاجيتهم بنسبة 22% مقارنة بما كانوا عليه قبل التجربة. قد يشير هذا إلى أنه يجدر بالموظفين أنفسهم أن يقرروا الوضع الأنسب لهم (بالعمل من المنزل أو مقر العمل الرسمي).

سمح العديد من الشركات لمزيد من الموظفين بالعمل من المنزل في السنوات الأخيرة. صحيح أن العديد من الشركات الكبرى، مثل “ياهو” و”آي بي إم”، سارت في اتجاه معاكس قبل الجائحة، وطلبت من موظفيها استئناف العمل في موقع واحد في محاولة منها لتحفيز المزيد من التعاون الفاعل، لكن عدداً من المؤسسات الأخرى، تلك التي أدرسها، سارت في اتجاه توفير قدر أكبر من المرونة الجغرافية، وسمحت لبعض الموظفين الجدد والقدامى، إن لم يكن جميعهم، بالعمل من أي مكان دون الارتباط التام بمقار العمل. ويعتبر “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” خير مثال على ذلك، فقد طرح قادته برنامج “العمل من أي مكان” (WFA) عام 2012 بناءً على برنامج العمل من المنزل المطبَّق حالياً والذي يُلزِم الموظفين بالحضور إلى المقر الرئيسي للعمل في فرجينيا الشمالية يوماً واحداً في الأسبوع على الأقل. وعلى النقيض من ذلك، فإن برنامج العمل من أي مكان يُلزِم الموظفين بقضاء عامين في المقر الرئيسي للعمل تليها مرحلة العمل من المنزل، ويُسمح لهم بعد ذلك بالعيش في أي مكان في الولايات المتحدة الأميركية المتجاورة، شريطة التكفل بدفع مصاريف السفر الدوري إلى المقر الرئيسي للعمل (لا يزيد مجموعها على 12 يوماً في السنة) من مالهم الخاص. وهكذا زادت رقعة انتشار مسؤولي فحص براءات الاختراع في البرنامج في جميع أنحاء البلاد، واختاروا البقاء بالقرب من أسرهم أو العيش في أجواء مناخية أفضل أو السكن في أماكن ذات تكلفة معيشية أقل.

يحتفظ معظم المؤسسات التي تقدم خيارات العمل من المنزل أو العمل من أي مكان ببعض العاملين في واحد أو أكثر من مقار العمل، كالمتدربين والإداريين في حالة “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية”، أي أن عملياتها تجمع ما بين العمل عن بُعد والعمل من المقرات الرئيسية، لكن تجربة عمل كل الموظفين عن بُعد والتي فرضتها جائحة “كوفيد-19” تسببت في اتخاذ بعض هذه المؤسسات خطوات استراتيجية نحو تطبيق منظومة عمل معظم الموظفين عن بُعد والاحتفاظ بأقل من 50% من الموظفين في مقار العمل الرسمية. وقد قررت شركة “تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز”، على سبيل المثال، التي يعمل بها ما يقرب من 418,000 موظف جرت العادة على وجودهم إما في المقار الرئيسية للشركة أو في مواقع العملاء حول العالم، اعتماد نموذج 25/25: الذي ينص على أن يقضي الموظفون 25% فقط من ساعات عملهم في مقرات العمل، وعدم احتفاظ الشركة في أي وقت من الأوقات بأكثر من 25% من الموظفين في موقع واحد. وتخطط الشركة لإكمال هذه المرحلة الانتقالية خلال خمس سنوات.

تجدر الإشارة إلى أن مجموعة أصغر من الشركات كانت قد قررت السير في هذا الاتجاه بخطوات أسرع، حتى قبل اندلاع الأزمة، وذلك بأن ألغت مقار العمل الرئيسية تماماً وفرضت على الجميع العمل عن بُعد، بداية من الموظفين المبتدئين وحتى الرئيس التنفيذي. وتوسعت “غيت لاب” في اعتماد هذا النموذج: حيث تشمل قائمة موظفيها العاملين عن بُعد كلاً من أقسام المبيعات والهندسة والتسويق وإدارة شؤون الموظفين والمناصب التنفيذية في أكثر من 60 دولة.

التعرف على المزايا

قضيت السنوات الخمس الماضية في دراسة الممارسات واتجاهات الإنتاجية في الشركات التي تطبق منهجية العمل من أي مكان، ووجدتها تحقق مزايا واضحة لكل من الأفراد والشركات والمجتمع. اسمحوا لي بأن أوجزها لكم.

فيما يخص الأفراد. تتمثل إحدى النتائج المدهشة في مدى استفادة الموظفين من هذه الترتيبات، وقد أخبرني كثيرون بأنهم يعتبرون حرية العيش في أي مكان في العالم ميزة إضافية على قدر كبير من الأهمية. وتعتبرها الأسر العاملة وسيلة رائعة للتخفيف من آلام البحث عن وظيفتين في مكان واحد، وهو ما أوضحته لي إحدى مسؤولات فحص براءات الاختراع، قائلة: “أنا زوجة ضابط في الجيش الأميركي، وهو ما يعني أنني أعيش في عالم مفعم بالتنقلات المتكررة والاضطرابات الشخصية التي تحول دون عمل الكثير من الزوجات في وظائف دائمة من اختيارهن. وأرى أن العمل من أي مكان أفضل برامج العمل عن بُعد التي عرفتها من قبل، فهو يسمح لي بالانتقال بصحبة زوجي إلى أي ولاية في أي لحظة ومواصلة السعي لتحقيق تطلعاتي الخاصة والإسهام بإيجابية في حياتي المنزلية ومجتمعي ككل”.

وأشار البعض إلى هذا البرنامج كان السبب في أن يعيشوا حياة أفضل. فقد سمعت موظفاً آخر في “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” يمتدح البرنامج، قائلاً: “سمح العمل من أي مكان لأولادي برؤية أجدادهم بصورة منتظمة واللعب مع أبناء عمومتهم. لقد صرت أكثر سعادة بالعيش بالقرب من الأسرة”. وتحدث آخرون عن عيشهم على مقربة من مراكز الرعاية الطبية للأطفال واستيعاب شركاء حياتهم والقدرة على الاستمتاع بالطقس الدافئ والمناظر الخلابة واغتنام الفرص الترفيهية. بدا جيل الألفية على وجه الخصوص أكثر افتتاناً بفكرة أن العمل من أي مكان سيسمح لهم بأن يصبحوا “رحّالة رقميين” يسافرون حول العالم دون التوقف عن العمل للحظة واحدة. كانت بعض الشركات، مثل “ريموت يير” (Remote Year)، تهدف إلى توفير نمط حياة كهذا قبل القيود المرتبطة بالجائحة، حتى إن بعض الدول، مثل إستونيا وبربادوس، ابتكرت فئة جديدة من تأشيرات العمل لهؤلاء الموظفين. وكما قال أحد فاحصي براءات الاختراع، فإن “المشاركة في [العمل من أي مكان] تعد فرصة رائعة لتحقيق التوازن بين العمل والحياة، حيث أعيش في المكان المفضل لديّ في البلد… وبات لديّ المزيد من الوقت للاسترخاء”.

كانت تكلفة المعيشة محوراً آخر تكرر على لسان الكثيرين. وقال لي أحد موظفي فحص براءات الاختراع بسعادة: “لقد تمكنت من شراء منزل كبير في موقعي الجديد بحوالي ربع التكلفة في فرجينيا الشمالية”، نظراً لأن “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” لم يعدل الرواتب وفقاً لمكان معيشة الموظفين الذي يختارونه بأنفسهم. وقد بذلت بعض المناطق، مثل ولاية فيرمونت ومدينة تولسا بولاية أوكلاهوما (حيث تقع شركة “تولسا ريموت”)، جهوداً حثيثة لجذب موظفين يعملون عن بُعد بهدف تشجيع المجتمع المحلي وخفض التكاليف، إذ يبلغ متوسط الإيجار لشقة من غرفتي نوم في سان فرانسيسكو 4,128 دولاراً، في حين أنه لا يتجاوز 675 دولاراً في تولسا.

يسهم العمل من أي مكان أيضاً في مساعدة العاملين في مجال المعرفة على التعامل مع قضايا الهجرة وغيرها من القيود التي تحد من قدرتهم على تأمين وظائف مرموقة. وقد عكفت أنا ووليام كير وسوزي ما مؤخراً على دراسة شركة “موب سكواد”، التي تتيح مساحات عمل مشتركة في هاليفاكس وكالغاري وغيرهما من المدن التي تُعفي موظفي المعرفة الموهوبين من نظام التأشيرة الأميركية المرهقة وبطاقة الإقامة الدائمة (الغرين كارد) وتسمح لهم بالحصول بدلاً من ذلك على تصاريح عمل عاجلة من خلال برنامج دعم هجرة المواهب إلى كندا المعروف باسم “غلوبال تالنت ستريم” (Global Talent Stream)، وبالتالي يمكنهم الاستمرار في خدمة الشركات والعملاء في الولايات المتحدة وغيرها من الدول في حين يعيشون ويدفعون الضرائب في كندا.

نبذة حول العمل الفني: نشأ سيجكو بين البرتغال وفنزويلا. تلتقط صوره المنازل التقليدية في البرتغال، لكنها تنقل في كثير من الأحيان إحساساً بحيوية الأجواء الاستوائية ومشاعر الحنين إلى الطفولة. في بعض الأحيان تبدو صوره مستقلة أو لا تعبر عن المكان؛ وفي أحيان أخرى تبدو دافئة وموحية.

كان أحد المهندسين الذين التقيناهم قد جاء إلى الولايات المتحدة بعد إنهائه الدراسة في المرحلة الثانوية في وطنه في سن الثانية عشرة، والتحق بجامعة أميركية في سن السادسة عشرة، حيث حصل على درجات علمية في الرياضيات والفيزياء وعلوم الكمبيوتر خلال ثلاث سنوات. والتحق في سن التاسعة عشرة بالعمل في شركة متخصصة في التقنيات الطبية من خلال برنامج “التدريب العملي الاختياري” (OPT)، لكنه فشل في الحصول على تأشيرة H-1B وتعرض للترحيل من البلاد، إلا أن شركة “موب سكواد” نقلته إلى كالغاري، وهكذا ظل يعمل مع صاحب العمل نفسه.

وعلمت من خلال المقابلات التي أجريناها مع بعض موظفي منظمة “لجنة التنمية الريفية في بنغلاديش” أن النساء اللواتي عشن حياة مهنية محدودة بسبب التابوهات الثقافية التي تمنع السفر إلى الأماكن النائية أو إسناد الأعمال المنزلية إلى الغير قد استفدن من فكرة العمل من أي مكان، وهو ما أوضحته لي إحداهن، قائلة: “كان علي أن أستيقظ في السابق في الصباح الباكر وأطهو ثلاث وجبات لأسرتي التي تضم أفراداً من أجيال مختلفة، لكن الآن فقد سمح لي نظام العمل عن بُعد بتقسيم الأعمال المنزلية والحصول على قسط إضافي من النوم وزيادة إنتاجيتي”.

فيما يخص المؤسسات. كشف بحثي أيضاً عن فوائد كبيرة تجنيها المؤسسات من برامج العمل من أي مكان، فهي تؤدي، على سبيل المثال، إلى زيادة تفاعل الموظفين، وهو مقياس مهم لنجاح أي شركة، وفي عام 2013، أي بعد عام من بدء تطبيق برنامج العمل من أي مكان، احتل “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” المرتبة الأولى بين أفضل أماكن العمل في استقصاء الحكومة الفيدرالية.

لم يعد الموظفون أكثر سعادة وحسب، بل غدوا أكثر إنتاجية أيضاً، فعندما قيّمت أنا وسيروس فوروغي وباربارا لارسون انتقال “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” من العمل في المنزل (WFH) إلى العمل من أي مكان، والذي جاء توقيته عشوائياً للموظفين الذين اختاروا هذا المسار، وجدنا أن العمل من أي مكان عزز إنتاجية الفرد بنسبة 4.4% قياساً بأرقام براءات الاختراع التي يجري فحصها كل شهر. كما أدى هذا التحول أيضاً إلى بذل الفاحصين جهداً أكبر. لا بد من إجراء مزيد من الأبحاث بكل تأكيد لتحديد ما إذا كان العمل من أي مكان يحقق فوائد مماثلة للعاملين الذين يؤدون مهمات مختلفة في الهياكل الأخرى للفريق ومؤسساته.

تتصف بعض المكاسب الناتجة عن العمل من أي مكان بأنها أكثر وضوحاً، فاستقدام عدد أقل من الموظفين إلى مقر العمل، على سبيل المثال، يعني توفير مساحة أصغر وتقليل تكاليف المنشآت العقارية. وقد قُدِّرت وفورات “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” بنحو 38.2 مليون دولار عام 2015 نتيجة تكثيف العمل عن بُعد، كما تسهم برامج العمل من أي مكان أيضاً في توسيع شبكة أصحاب المواهب المرشحين للوظائف بشكل كبير بحيث تشمل الموظفين المقيمين في مواقع بعيدة عن موقع الشركة. هذا هو السبب الرئيسي الذي حدا بشركة “تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز” إلى رفع شعار “مساحات عمل آمنة بلا حدود”: فهي تريد التأكد من تزويد كل مشروع بموظفين يمتلكون المهارات المناسبة، أياً كان المكان الذي يعيشون فيه. يُطلق راجيش غوبيناثان، الرئيس التنفيذي للشركة، على هذا النموذج وصف “السحابة الإلكترونية للمواهب”، بينما يقول مسؤول تنفيذي آخر رفيع المستوى إن هذا النموذج يسمح للشركة بالاستفادة من أسواق العمل المتخصصة، مثل أوروبا الشرقية، التي تمتلك وفرة من المحللين الماليين المهرة وعلماء البيانات.

وأخيراً، يمكن الاستفادة من برنامج العمل من أي مكان في تقليل الشعور بالإنهاك، فقد أوضح بعض العاملين في “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” أنهم شعروا بالحافز للعمل بجدية أكبر والبقاء لفترة أطول مع مكتب براءات الاختراع لأنهم آثروا العيش في مجتمعاتهم المحببة إلى قلوبهم ولكنهم أدركوا أيضاً ندرة فرص العمل المتاحة هناك، كما أشار قادة “غيت لاب” أيضاً إلى ارتفاع معدلات استبقاء الموظفين كإحدى النتائج الإيجابية لقرار الشركة بعمل كل موظفيها عن بُعد، ويرون أن الفوائد المتحققة عن هذا البرنامج تعادل 18,000 دولار سنوياً للموظف الواحد، شاملة زيادة الإنتاجية ووفورات تكلفة المنشآت العقارية.

فيما يخص المجتمع. تمتلك المؤسسات التي تطبق برنامج العمل من أي مكان القدرة على عكس اتجاه هجرة العقول التي غالباً ما تصيب الأسواق الناشئة والمدن الصغيرة والمناطق الريفية، وقد أُنشئت “تولسا ريموت” في الواقع لجذب موظفين جدد من خلفيات متنوعة يتصفون بالحيوية والقدرة على التفكير فيما يفيد المجتمع ككل واستقدامهم إلى مدينة لا تزال تتعافى من الاضطرابات العرقية الضاربة في جذورها منذ قرن مضى. واستطاعت الشركة إغراء أكثر من 10,000 شخص بتقديم أوراقهم للتنافس على 250 فرصة عمل فقط في الفترة من عام 2019 إلى عام 2020، وذلك من خلال تقديمها عرضاً بقيمة 10,000 دولار للانتقال إلى تولسا. كان أوبوم أوكابام أحد الموظفين الذين وقع الاختيار عليهم. يقدم أوكابام توجيهاته لفريق الخطابة بإحدى المدارس الثانوية في منطقته ويدرِّب أفراده في أوقات فراغه بوظيفته اليومية مديراً للتسويق. يمكن القول إن هؤلاء الموظفين الجدد الموهوبين الذين ينتمون إلى أعراق متنوعة يجعلون المدينة أكثر تعددية من الوجهة الثقافية، وفي الوقت نفسه أدت التحولات في “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” وشركة “تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز” إلى عودة الكثيرين إلى مسقط رأسهم.

يسهم العمل عن بُعد أيضاً في حماية البيئة، فقد بلغ متوسط الوقت المستغرق من قبل الأميركيين في الذهاب أو الإياب من العمل 27.1 دقيقة عام 2018، أي ما يعادل نحو 4.5 ساعة أسبوعياً، ويمكن خفض الانبعاثات الكربونية بنسبة كبيرة بالتخلص من حاجة الموظفين للذهاب إلى العمل، لا سيما في الأماكن التي تمثل فيها السيارة وسيلة المواصلات الأساسية لمعظمهم. ويقدر “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” أن المسافة التي يقطعها موظفوه العاملون عن بُعد في عام 2015 انخفضت بنحو 135 مليون كيلو متر مقارنة بما لو كانوا يسافرون إلى المقرات الرئيسة للمكتب، ما قلل من الانبعاثات الكربونية بأكثر من 44,000 طن.

بدا جيل الألفية أكثر افتتاناً بفكرة أن العمل من أي مكان سيسمح لهم بأن يصبحوا “رحّالة رقميين” يسافرون حول العالم دون التوقف عن العمل للحظة واحدة.

معالجة المخاوف

مثلت مقرات العمل -بغرف اجتماعاتها ومناطق الاستراحة وفرص التفاعل الرسمي وغير الرسمي فيها- أسلوب حياة لفترة طويلة من الزمن بحيث يصعب تخيل التخلص منها. وتوجد عقبات حقيقية تحول دون تيسير عمل كل الموظفين عن بُعد، ليس هذا فحسب بل وتقف عائقاً في طريق نجاحه أيضاً، غير أن تجربة “كوفيد-19” التي أرغمت الشركات على إلزام كل الموظفين بالعمل عن بُعد أثبتت للكثير من مؤسسات العمل المعرفي وموظفيها أنه يمكن معالجة هذه المخاوف مع الوقت والاهتمام. وقد توصلتُ إلى عدد من أفضل الممارسات في الشركات التي تناولتها بالدراسة.

التواصل والعصف الذهني وحل المشكلات

عندما يعمل الموظفون من مناطق متفرقة، تزداد صعوبة التواصل في وقت متزامن. ويمكن لأدوات مثل “زووم” و”سكايب” و”مايكروسوفت تيمز” و”جوجل هانغ آوتس” أن تقدم يد العون لأولئك الذين يعملون في المناطق الزمنية نفسها أو مناطق زمنية مشابهة ولكنها لا تصلح لأولئك الذين ينتشرون في مناطق أبعد. وقد أجريت بحثاً بالتعاون مع كلٍّ من جاسمينا شوفان وتومي بان فانغ، توصلنا من خلاله إلى أن تغيير الساعة إلى التوقيت الصيفي أو الشتوي، وبالتالي تقليل تداخل ساعات العمل بمقدار ساعة إلى ساعتين بين مقرات إحدى كبرى الشركات العالمية، أدى إلى انخفاض حجم التواصل بنسبة 9.2%، لاسيما بين الموظفين المسؤولين عن الإنتاج، وعندما ازداد تداخل ساعات العمل، أجرى موظفو البحث والتطوير عدداً أكبر من المكالمات المتزامنة غير المخطط لها. هذا، وتزداد صعوبة الترتيب لعقد اجتماعات جماعية. تقول ناديه فاتاليديس، الموظفة بشؤون العاملين في شركة “غيت لاب”، إن تفرُّق أعضاء الفريق بين مانيلا ونيروبي وجوهانسبرغ ورالي وبولدر جعل تخصيص وقت أسبوعي للتواصل الجماعي مسألة شبه مستحيلة،

لذا يتعين على المؤسسات التي تطبق برنامج العمل من أي مكان أن تتقبل فكرة التواصل غير المتزامن، سواء من خلال قناة “سلاك” أو بوابة مخصصة داخل الشركة أو حتى مستند “جوجل” مشترك يكتب فيه أعضاء الفريق المتفرقون جغرافياً أسئلتهم وتعليقاتهم ويثقون بأن أعضاء الفريق الآخرين في مناطق زمنية بعيدة سيستجيبون في أول فرصة سانحة. تتمثل إحدى مزايا هذا النهج في تمكين الموظفين من مشاركة الأفكار والخطط والمستندات في مراحل مبكرة والترحيب بتلقي الملاحظات أولاً بأول، إلى جانب تخفيف حدة الضغوط التي يتعرض لها الموظفون في الاجتماعات الرسمية والمتزامنة لفريق العمل وتفرض عليهم تقديم عمل متقن. تُطلق “غيت لاب” على هذه العملية مسمى “حل المشكلات دون لوم”، حيث لاحظ قادة الشركة أن الموظفين الذين اعتادوا ثقافة رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية والاجتماعات قد يجدون صعوبة في تغيير العادات القديمة، ولكنهم يستطيعون حل هذه المشكلة بالتدريب خلال فترة إعداد الموظفين الجدد وما بعدها. وتطبق “زابير” برنامجاً يسمى “زاب بال” (Zap Pal) يتم من خلاله إقران كل موظف جديد بآخر متمرس يرتب لإجراء مكالمة تمهيدية واحدة على الأقل عبر برنامج “زووم” ويستمر في المتابعة طوال الشهر الأول. وتستخدم الشركة مكالمات الفيديو وبرامج السبورة الإلكترونية مثل “ميرو” (Miro) و”ستورم بورد” (Stormboard) و”آي بي إي في أو آنوتيتور” (IPEVO Annotator) و”لمنو” (Limnu) و”مورال” (MURAL) في إدارة جلسات العصف الذهني المتزامن، ولكنها تحث الموظفين أيضاً على استخدام وسائل غير متزامنة لحل المشكلات من خلال سلاسل قنوات “سلاك”.

تمتلك المؤسسات التي تطبق برنامج العمل من أي مكان القدرة على عكس اتجاه هجرة العقول التي غالباً ما تصيب الأسواق الناشئة والمدن الصغيرة والمناطق الريفية.

مشاركة المعرفة

هذا هو التحدي الآخر الذي يصادف المؤسسات التي يعمل كل أو معظم موظفيها عن بُعد، إذ ليس بإمكان الزملاء الذين يعملون من أماكن متفرقة النقر على أكتاف بعضهم البعض لطرح الأسئلة أو طلب العون. وقد افترض البحث الذي أجراه كلٌ من روبن كوان وبول ديفيد ودومينيك فوراي أن جزءاً كبيراً من المعرفة المكتسبة في مكان العمل غير مدونة (حتى إذا كان ذلك ممكناً) لكنها مستقرة “في رؤوس الموظفين”. تمثل هذه المسألة مشكلة لكافة المؤسسات، ولكنها مشكلة أخطر بكثير في المؤسسات التي تعتمد مبدأ العمل من أي مكان. ولاحظت أن الشركات التي تناولتها بالدراسة تحل هذه المشكلة من خلال إعداد وثائق رسمية تتسم بالشفافية وإمكانية الوصول إليها بسهولة. حيث يمتلك كل أعضاء فريق العمل في “غيت لاب” إمكانية الوصول إلى “دليل العمل”، والذي يصفه البعض بـ “المستودع المركزي لكيفية إدارة الشركة”. يتألف الدليل الحالي من 5,000 صفحة قابلة للبحث، ويجري تشجيع كافة الموظفين على الإضافة إليه ويتم تعليمهم كيفية إنشاء صفحات جديدة وإدخال أي تعديلات يرونها على صفحاته الموجودة وإدراج ملفات فيديو، وما إلى ذلك. إذ ينشر المنظمون جدول أعمال الاجتماعات الخاصة بالأقسام ذات الصلة قبل انعقادها للسماح للمدعوين بقراءة المعلومات الأساسية ونشر الأسئلة، بعد ذلك يتم تنشر تسجيلات الجلسات على قناة “غيت لاب” على اليوتيوب، ثم تحرير جداول الأعمال وتحديث الدليل الإرشادي بحيث يعكس أي قرارات تم اتخاذها.

قد يعتبر الموظفون أن العمل الإضافي المتمثل في إعداد وثائق رسمية شكلاً من أشكال “الضرائب” المفروضة عليهم ويرفضون هذا المستوى المرتفع للغاية من الشفافية اللازم توافره لازدهار المؤسسات التي تطبق برامج العمل من أي مكان، ومن ثم فإنني وتورستن غروجين نرى أنه يجدر بمسؤولي الإدارة العليا أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا الصدد من خلال تدوين المعرفة وحرية تبادل المعلومات مع توضيح أن هذه التنازلات ضرورية للسماح بالمرونة الجغرافية.

ثمة فكرة يمكن تنفيذها هنا وتتمثل في إنشاء نسخ نصية ونشر شرائح العرض على الموقع المفتوح للعاملين في الشركة وتسجيل ندوات الفيديو والعروض التقديمية والاجتماعات لإنشاء سجل بمثل هذه المواد بحيث يستطيع الموظفون مطالعته بشكل غير متزامن في الوقت الذي يناسبهم. وقد أرغمت جائحة فيروس كورونا “أكاديمية الإدارة” على عقد اجتماعها السنوي لعام 2020 عبر القنوات الافتراضية، ما اضطرها إلى تجهيز 1,120 جلسة مسجلة مسبقاً، يمكن القول إنها وسعت أفق المعرفة المتاحة للباحثين، خاصة أولئك الباحثين المتخصصين في الأسواق الناشئة، بصورة أكبر بكثير مما كان ممكناً في الفعاليات الشخصية والتي جرت العادة على تنظيمها في أميركا الشمالية.

التفاعل الاجتماعي وروابط الصداقة الحميمة والتوجيه

أشار كلٌ من المدراء والموظفين إلى مصدر رئيسي آخر للقلق، يتمثل في احتمال شعور الأفراد بالعزلة الاجتماعية والمهنية والانفصال عن الزملاء والشركة نفسها، لاسيما في المؤسسات التي يعمل فيها بعض الموظفين في المقرات الرئيسية للشركة بينما يعمل الآخرون عن بُعد. وأثبت بحث أجراه سيسلي كوبر ونانسي كورلاند أن الموظفين العاملين عن بُعد غالباً ما يشعرون بأنهم معزولون عن دائرة المعلومات التي يحصلون عليها عادةً في المقرات الرئيسية للشركة. وقد لا يلحظ المدراء علامات الإنهاك المتزايد البادية على مرؤوسيهم بسبب عدم تلاقيهم معهم وجهاً لوجه، أو تغيب عنهم المؤشرات الدالة على ضعف الفريق للسبب ذاته. حتى في حال عقد مؤتمرات الفيديو التي تسمح بقراءة لغة الجسد وتعبيرات الوجه، فلا يزال التخوف قائماً من عجز الزملاء الافتراضيين عن تكوين صداقات حميمة بسبب قلة التفاعل المباشر بينهم وجهاً لوجه، وهو ما أعربت عنه بريانكا شارما، المسؤولة الفنية في “غيت لاب”، قائلة: “كنت أصاب بالتوتر الشديد كلما فكرت في الانضمام لبرنامج العمل من أي مكان للمرة الأولى لأنني كنت اجتماعية للغاية في مقر العمل الرسمي. كنت أخشى الوحدة والعزلة في المنزل وعدم الشعور بهذا التفاعل الاجتماعي”. كما أعربت هدى اليازجي، مديرة التسويق في فريق “تولسا ريموت”، عن ميول مشابهة، حيث قالت: “قد يؤدي العمل عن بُعد إلى العزلة الشديدة خاصة للانطوائيين. إذ يكاد يكون عليك تعمد خوض تجربة مقصودة عندما تتفاعل اجتماعياً مع الآخرين، ثم يتعين عليك بعد ذلك أن تكون “في حالة نشاط” طوال الوقت، حتى عندما تحاول الاسترخاء. وهذا أمر في غاية الإرهاق”.

وقد لاحظت في بحثي مجموعة من السياسات التي تسعى إلى معالجة هذه المخاوف وخلق فرص للتواصل الاجتماعي ونشر أعراف الشركة. حيث يعتمد الكثير من المؤسسات التي تطبق برنامج العمل من أي مكان على التقنيات التكنولوجية للمساعدة في توفير ما يمكن اعتباره مبردات مياه افتراضية و”تفاعلات عشوائية مخططاً لها”، حيث يتم تكليف موظف في الشركة بتخصيص أوقات محددة في جداول مواعيد الموظفين للدردشة عبر الإنترنت، فيما يستخدم البعض الآخر أدوات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي لإقران الزملاء عن بُعد وتشجيعهم على إجراء محادثات أسبوعية. تستخدم شركة “سايك إنسايتس” (Sike Insights)، على سبيل المثال، بيانات حول أنماط التواصل الفردية والذكاء الاصطناعي لإنشاء أصدقاء “سلاك بوت” (Slackbot)؛ أما شركة “إي إكس بي ريالتي” (eXp Realty) التي يعمل كل موظفيها عن بُعد وأجري أبحاثي عليها حالياً فتستخدم منصة للواقع الافتراضي تسمى “فيربيلا” (VirBELA) لإنشاء حيز لجمع أعضاء الفريق المتفرقين على شكل رسومات كرتونية شخصية تسمى “أفاتار”.

قال لي سيد سجبرانديج، الشريك المؤسس لشركة “غيت لاب” ورئيسها التنفيذي: “أعلم أنهم وضعوا الحمام في منطقة مركزية بشركة بيكسار حتى يصادف الموظفون بعضهم بعضاً، لكن لماذا تعتمد على العشوائية في شيء كهذا؟ لماذا لا تكثف الأمر قليلاً وتنظم التواصل غير الرسمي بصورة حقيقية؟” غالباً ما تشتمل هذه “الأدوات المزجية” كبار المسؤولين التنفيذيين وأصحاب المناصب التنفيذية العليا. عندما وصفتها لزميلتي كريستينا والاس في “كلية هارفارد للأعمال”، أطلقت عليها اسماً لطيفاً هو: الصدامات المجتمعية، ويتعين على الشركات اصطناعها دائماً: فقد أثبتت الأبحاث التي يعود تاريخها إلى عمل توماس ألين في “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” في السبعينيات أن الموظفين العاملين في “الموقع” نفسه قد لا يتعرضون للتفاعلات المعتمدة على الصدفة إذا تم فصلهم بجدار أو سقف أو مبنى.

وكشف بحثي عن حلول مباشرة لمشكلتين ترتبطان بالتفاعل بين الموظفين على مختلف مستويات التراتبية الهرمية، فقد وجدتُ بالتعاون مع إيغور بوجينوف وآشيش رامبتشان أن كبار قادة إحدى الشركات العالمية غالباً ما يعييهم الإرهاق حتى إنهم يعجزون عن تقديم التوجيه للموظفين الافتراضيين بصورة فردية، لذلك قمنا بتنفيذ عملية للأسئلة والأجوبة طلبنا فيها من العاملين طرح أسئلة من خلال استقصاء وطلبنا من القادة الإجابة عنها بشكل غير متزامن. وأخبرني كبار المدراء في شركة عالمية أخرى أنهم واجهوا صعوبة في أن يكونوا على طبيعتهم أمام الكاميرا، فبينما كان الموظفون الشباب الذين يعملون عن بُعد “يعيشون حياتهم على إنستغرام”، وجد زملاؤهم الأكبر سناً التواصل الافتراضي أكثر صعوبة، فما كان من الشركة إلا أن عقدت جلسات تدريبية لجعل هؤلاء المسؤولين التنفيذيين أكثر قدرة على التعامل مع برنامج “مايكروسوفت تيمز” (Microsoft Teams).

ثمة حل آخر لمشكلة التفاعل الاجتماعي يتمثل في استضافة “فعاليات مؤقتة في موقع مشترك” ودعوة كافة الموظفين لقضاء بضعة أيام مع زملائهم بصورة شخصية. قبل اندلاع أزمة “كوفيد-19″، كانت شركة “زابيَر” تستضيف فعاليتين على هذه الشاكلة سنوياً، وتتكفل بدفع تكاليف رحلات الموظفين وتكاليف إقامتهم وطعامهم، وتمنح الفرق ميزانية مخصصة للأنشطة، وتقدم لكل مشارك منحة بقيمة 50 دولاراً عند انتهاء الفعالية لتقديمها كهدية لأحبائه. أعربت كارلي مولتون، أخصائية التواصل الأولى في الشركة، عن سعادتها بهذه التجارب، قائلة: “أستطيع أن أقول بصفة شخصية إنني كوّنت الكثير من الصداقات مع الأشخاص الذين أسافر معهم من المطار وإليه. يضعنا مدراء الفعاليات ضمن مجموعات عشوائية بناءً على وقت وصول المشاركين ومغادرتهم. ودائماً ما كنت أحضر الفعاليات بصحبة أشخاص لا أعمل معهم عادةً، لذلك من الجيد أن يكون لديك وقت مخصص عندما يتعين عليك إجراء محادثة”.

أخيراً، تعلمت طريقة أخرى لخلق الصداقة الحميمة في “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية”. فقد تطوّع الكثير من فاحصي براءات الاختراع ضمن برنامج العمل من أي مكان بإنشاء “مجتمعات العمل عن بُعد” بحيث يمكن لبعضهم الالتقاء بشكل دوري. قررت مجموعة تعيش في ولاية كارولينا الشمالية، على سبيل المثال، الترتيب للتلاقي في أحد ملاعب الغولف بغرض التواصل الاجتماعي ومناقشة العمل وحل المشكلات معاً، فيما أنشأ مدير آخر نظاماً لتناول “وجبة افتراضية” عن طريق طلب البيتزا نفسها وتوصيلها إلى منازل كل مرؤوسيه المباشرين العاملين عن بُعد خلال مكالمة الفريق الأسبوعية.

تقييم الأداء والتعويضات

كيف تقيِّم مستوى الموظفين وتراجع مستوى أدائهم دون أن تحتك بهم، خاصةً فيما يتعلق بالمقاييس “غير الملموسة” والمهمة في الوقت نفسه مثل مهارات التعامل مع الآخرين؟ تلجأ الشركات التي يعمل كل موظفيها عن بُعد إلى تقييم مستوى أدائهم وفقاً لجودة نتائج عملهم وجودة تفاعلاتهم الافتراضية وتقييمات العملاء والزملاء لهم، حيث تستخدم “زابير”، على سبيل المثال، برنامج “هيلب سكاوت” (Help Scout) لرصد ردود الموظفين على طلبات دعم العملاء. تتمثل إحدى ميزات هذا البرنامج في أنه يتيح للعميل إرسال “درجة السعادة” من خلال تقييم الاستجابة بالاختيار ما بين “رائعة” أو “جيدة” أو “ليست جيدة”.

عندما طُلب من الموظفين فجأة العمل عن بُعد في ربيع وصيف 2020، سُئلت عما إذا كان يجب على المدراء استخدام برمجيات متخصصة لتتبع إنتاجية مرؤوسيهم والحيلولة دون تهربهم من العمل. عارضت بشدة هذا النهج “الأورويلي” الذي ينادي بفرض رقابة محكمة على العاملين. وقد عالج “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” دعاوى “احتيال مسؤولي الفحص” و”عدم الانتظام في الحضور” ضمن برنامج العمل من أي مكان بعد مراجعة الدعاوى من قبل “مكتب المفتش العام” بوزارة التجارة الأميركية. شملت هذه الدعاوى إما تعمد زيادة ساعات العمل المُبلغ عنها في التقارير اليومية أو زيادة المناوبات في سجلات العمل المنجز، مثل الإنفاق الزائد في نهاية ربع السنة، علماً بأن أياً منهما لا علاقة له بالمعيار المستخدم لقياس الأداء: أي عدد براءات الاختراع التي تم فحصها. بيد أن كل الموظفين العاملين عن بُعد في “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” أُلزموا منذ ذلك الحين باستخدام أدوات تقنية المعلومات المؤسسية، مثل توقيع الحضور على شبكة افتراضية خاصة (VPN)، إضافة إلى تشغيل مؤشر الحضور واستخدام وسيلة موحدة في المراسلات، ولكننا وجدنا أن هذا الإجراء لم يكن له أي تأثير على متوسط ​​الإنتاج عندما قارنا البيانات المتوافرة قبل ذلك التدخل وبعده.

تعتبر عملية تحديد تعويضات الموظفين الذين يعملون من أي مكان نقاشاً ممتعاً وحيوياً. وكما ذكرنا سابقاً، فمن المفيد أن تقيم في منطقة منخفضة التكاليف المعيشية مع كسب الدخل الذي قد يحصل عليه شخص يعيش في منطقة أعلى تكلفة، لكن هذا مشروط بعدم قيام الشركة بتعديل الأجور وفقاً للمكان الذي يعيش فيه الموظف، كما هو الحال في “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية”. وقد أخبرني مات مولينغ، مؤسس شركة “أوتوماتيك” (Automattic)، الشركة الأم لمنصة “ووردبرس” (WordPress) والتي يعمل كل موظفيها عن بُعد أيضاً، أن سياستها هي دفع الأجور نفسها لشاغلي المناصب ذاتها أياً كان الموقع الذي يعملون منه، لكن “غيت لاب” وبعض الشركات الأخرى تطبق نظاماً يقتضي تفاوت الأجور بين العاملين في مناطق جغرافية مختلفة، مع مراعاة خبرة الموظف ونوع العقد والمهمة المكلف بتنفيذها. ورغم أن المسألة تستلزم إجراء المزيد من الأبحاث للتعرف على النهج الأمثل، فمن الممكن أن تخسر الشركات التي تربط الأجور بالموقع الذي يمارس منه الموظف عمله، خاصة إذا كان هذا الموظف على درجة عالية من الكفاءة، أمام المنافسين الذين لا يطبقون هذا النهج. هناك مسألة أخرى ذات صلة وهي ما إذا كان يجب دفع أجور الموظفين الذين يمارسون العمل من أي مكان بعملة الدولة التي يقع بها المقر الرئيسي للمؤسسة أم بالعملة المحلية، جزئياً لضمان ثبات الأجور بين مختلف المواقع بمرور الوقت نظراً لتقلب أسعار الصرف.

أمن البيانات والقوانين

أخبرني الكثير من المدراء أن الأمن السيبراني كان محور تركيز برامج العمل من أي مكان والمؤسسات التي تطبقها، حتى إن أحدهم سألني: “ماذا لو التقط موظف يعمل ضمن برنامج العمل من أي مكان صوراً لبيانات العملاء من على شاشة الجهاز وأرسلها إلى أحد المنافسين؟” ونوّه عددٌ من الرؤساء التنفيذيين للمعلومات في بعض الشركات التي تطبق سياسات العمل عن بُعد إلى أن أحد أهم المخاوف الأخرى هو استخدام الموظفين للأجهزة الشخصية غير المحمية بالقدر الكافي لممارسة العمل من المنزل.

لا جدال أنه يتعين على الشركات التي يعمل كل موظفيها عن بُعد بذل جهود مضاعفة لحماية بيانات الموظفين والشركات والعملاء. ومع انتقال شركة “تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز” إلى نموذج عمل معظم الموظفين عن بُعد، استعاضت عن أسلوب “رصد أمن المنطقة المحيطة” (حيث يحاول فريق تقنية المعلومات تأمين كل جهاز) بأسلوب “رصد أمن المعاملات” (حيث تقوم خوارزميات التعلم الآلي بتحليل أي أنشطة غير طبيعية على الكمبيوتر المحمول لأي موظف). وعملت شركة “موب سكواد” على استنساخ بنيتها التحتية لأمان العميل ودعمت بها موظفيها العاملين ضمن برنامج العمل من أي مكان، والموظفين العاملين على السحابة الإلكترونية للعملاء وبريدهم الإلكتروني وأجهزتهم في مكاتبها لأسباب أمنية. وتعكف المؤسسات التي يعمل كل أو معظم موظفيها عن بُعد والتي درستها على تجربة مجموعة واسعة من الحلول لحماية بيانات العميل باستخدام التحليلات التنبؤية والتصور البصري للبيانات والرؤية الحاسوبية.

يتعين على الشركات التي يعمل كل موظفيها عن بُعد بذل جهود مضاعفة لحماية بيانات الموظفين والشركات والعملاء. يستخدم البعض التحليلات التنبؤية والتصور البصري للبيانات والرؤية الحاسوبية.

يتطلب الانتقال إلى مؤسسة يعمل كل أو معظم موظفيها عن بُعد تخطي العقبات التنظيمية أيضاً في بعض الأحيان. فعندما اضطرت شركة “تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز” في بداية الجائحة إلى إلزام كل موظفيها بالعمل عن بُعد، كان عليها العمل مع “ناسكوم” (NASSCOM) -الرابطة الوطنية الهندية لشركات البرمجيات والخدمات- والسلطات الهندية لتغيير القوانين بين عشية وضحاها حتى يتمكن موظفو مركز الاتصال من العمل في المنزل. كان لابد من تعديل قوانين أخرى حتى يتمكن عمال الشركة من أخذ أجهزة الكمبيوتر المحمولة وغيرها من المعدات من المقرات الرئيسية للشركة الموجودة في “المناطق الاقتصادية الخاصة” في الهند. وكان على “عرفان راوجي”، مؤسس شركة “موب سكواد” ورئيسها التنفيذي، العمل عن كثب مع الحكومة الكندية لضمان حصول خبراء الاقتصاد المهاجرين الذين وقع اختيار الشركة عليهم للانتقال إلى كندا على تصاريح العمل العاجلة وإدماجهم في نموذجها. ويجب على أي مؤسسة يعمل كل موظفيها عن بُعد وتفكر في تعيين أصحاب المواهب من مختلف أنحاء العالم أن تراعي قوانين العمل المحلية من حيث صلتها بالتوظيف والتعويضات والمعاشات التقاعدية والإجازات الاعتيادية والإجازات المرضية.

هل هذا يصلح لمؤسستك؟

قد لا يصلح نظام العمل من أي مكان لبعض المؤسسات في الوقت الحالي، مثل شركات التصنيع، رغم أن هذا الوضع قد يتغير مع التقدم في الطباعة ثلاثية الأبعاد والأتمتة والتوائم الرقمية وغيرها من التقنيات التكنولوجية، إلا أن الكثير من الشركات والفرق والتخصصات تستطيع تشغيل كل موظفيها أو معظمهم عن بُعد، شريطة اتباع الاستراتيجيات والعمليات المؤسسية الصحيحة واستخدام التقنيات المناسبة، والأهم من ذلك توظيف القدرات القيادية السليمة. وقد خلُصت نتائج بحثي الذي لا يزال قيد التنفيذ مع جان بينا وديفيد روات، على سبيل المثال، إلى أن الشركات الناشئة المتخصصة في العمل المعرفي، لا سيما في قطاع التكنولوجيا، مهيأة لاعتماد نموذج العمل من أي مكان منذ بدايتها. خذ مثلاً شركة “إي إكس بي ريالتي” التي يعمل كل موظفيها عن بُعد: فقد وجدنا أن انخفاض تكاليف المنشآت والمرافق العقارية وغيرها من النفقات العامة قد يعني ارتفاع تقييم الشركة إذا قرر مؤسسوها الخروج من الشركة الناشئة.

وتشير دراساتي حول “مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية” وشركة “تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز” إلى أن المؤسسات الكبيرة والتي بلغت أعلى مراحل التطور يمكنها أيضاً الانتقال بنجاح إلى نظام هجين أو نظام عمل معظم موظفيها عن بُعد. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ليس ما إذا كان العمل من أي مكان ممكناً، بل ما العنصر المطلوب لجعله ممكناً؟ والإجابة باختصار هي: الإدارة. وهو ما أشار إليه أحد مدراء الإدارة الوسطى في شركة يعمل كل موظفيها عن بُعد، قائلاً: “إذا كان كل كبار القادة يعملون من مقر الشركة، فسينجذب الموظفون إلى هذا الموقع للتواصل معهم وجهاً لوجه”. ولكن إذا دعم قادة الشركات الأساليب المتزامنة وغير المتزامنة في التواصل والعصف الذهني وحل المشكلات، وباشروا تنفيذ المبادرات لتدوين المعرفة عبر الإنترنت، وشجعوا استخدام الطرق الافتراضية في التفاعل الاجتماعي وبناء الفريق والتوجيه، واستثمروا في أمن البيانات وفرضوه على مرؤوسيهم فرضاً، وعملوا مع أصحاب المصلحة من الجهات الحكومية لضمان الامتثال القانوني، وكانوا قدوة لغيرهم بأن يصبحوا هم أنفسهم موظفين يعملون من أي مكان، فقد تبدو المؤسسات التي يعمل كل موظفيها عن بُعد هي مستقبل العمل حقاً.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .