القادة العظماء يوسعون أفق التفكير لدى من حولهم

6 دقيقة
التفكير الرحب
ريتشارد روس/غيتي إميدجيز

في مؤسسة فنية عالمية، أبلغ المسؤولون رئيس قسم الأرشيف، سورين، بالحاجة إلى تحقيق وفورات فورية واحتمال اللجوء إلى تسريح الموظفين، فلم يحصر تفكيره في زاوية ضيقة ولم يكتف بتوجيه الأوامر لمرؤوسيه بخفض الميزانية، بل بادر إلى عقد اجتماع مع فريقه لمناقشة سؤال أشمل يتعلق بغاية القسم واستدامته.

استنتج الفريق من النقاش أن قسم الأرشيف يحتوي على أصول مهملة يمكن الاستفادة منها في برنامج جديد. وقد أسهمت هذه الفكرة لاحقاً في تحقيق إيرادات بعشرات الملايين من الدولارات، وهكذا تجنب الفريق خفض عدد الموظفين. وعلى النقيض من ذلك، لجأت أقسام أخرى في المؤسسة إلى تنفيذ جولات متكررة من تسريح العاملين، ما أضعف معنوياتهم وأدى إلى إصابتهم بالاحتراق الوظيفي.

على مدى الأعوام القليلة الماضية، أجرينا بحثاً حول نمطين من التركيز الذهني يستخدمهما الناس في بيئة العمل: نمط الإنجاز، حيث يركز المرء بدقة على مهمة محددة سعياً للسيطرة على مجرياتها والتنبؤ بمسارها وإنجازها بكفاءة؛ ونمط التفكير الرحب، حيث يوسع المرء نطاق تركيزه دون استعجال، فيصبح أكثر استعداداً لبناء العلاقات وفهم الروابط المتداخلة واستكشاف الإمكانات المتاحة، مثلما فعل سورين في تعامله مع مسألة خفض التكاليف. يوفر هذا النمط مزايا بالغة الأهمية في بيئة العمل، مثل فهم التحديات بعمق وتعزيز التفكير الاستراتيجي واكتشاف الفرص وبناء العلاقات وإذكاء الحماس وإضفاء البهجة.

لكن للأسف، أظهرت نتائجنا أن المؤسسات تعمل باستمرار على تهميش التفكير الرحب لإفساح المجال أمام نمط الإنجاز في بيئات العمل، وهذا ليس بالمفاجئ في ظل الثقافة السائدة التي تمجد الإنتاجية والإنجاز في مختلف مجالات الحياة. وقد أثبتت أبحاثنا التي شملت دراسة استقصائية على مستوى العالم لأكثر من 3,000 موظف، إضافة إلى مناقشات مستمرة مع 50 مهنياً حول العالم ومقابلات مع قادة ومرؤوسيهم، أن الموظف الساعي إلى التميز غالباً ما يخشى أن ينظر الآخرون إلى انخراطه في نمط التفكير الرحب باعتباره علامة على ضعف الكفاءة أو التهاون في التعامل مع الأولويات العاجلة. ونتيجة لذلك، يبدو له هذا النمط مقيداً لمساره المهني ويتطلب موافقة صريحة من المدير؛ وهو ما يفسر عزوف معظم الموظفين عن ممارسته بانتظام.

على الرغم من امتلاك كل موظف مساحة شخصية تتيح له الانتقال إلى نمط التفكير الرحب، يؤدي القادة دوراً محورياً في إتاحة هذا النمط في بيئة العمل، لأنهم قادرون على منحه الشرعية بوصفه وسيلة فعالة لاستخدام الوقت الثمين، أو العكس. وفي هذا المقال، نسلط الضوء على بعض الممارسات التي ينتهجها القادة دون أن ينتبهوا، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى تثبيط هذا النمط من التفكير، وعلى ما يمكنهم فعله لدعمه بدلاً من إعاقته.

كيف يعوق القادة التفكير الرحب؟

القادة والمدراء هم العنصر الأساسي في تشجيع نمط التفكير الرحب؛ لأن سلوكهم يرسل إشارات واضحة بشأن ما تقره بيئة العمل، لكن كثيراً ما يقتصر تركيز المدير على تحقيق الأهداف القصيرة الأجل، ما يدفع أعضاء فريقه إلى الانحصار في نمط الإنجاز فقط. ومع أنهم قد ينجزون المهام اليومية بالكامل، تظل أولوية تلك المهام أو جدواها موضع شك، ولا يتاح للفريق مجال للنمو أو فرصة لاكتشاف ما يمكن تحقيقه. وهكذا يفقد الفريق حماسه وحيويته شيئاً فشيئاً.

خلال بحثنا، صادفنا مديرة أولى كانت مشهورة داخل مؤسستها بعبارة تكررها دائماً: "كن واضحاً، اعمل بسرعة، وانصرف". وقد اتضح لنا خلال أحاديثنا مع فريقها وزملائها أن الموظفين الذين يفتقرون إلى الثقة غالباً ما كانوا يفضلون التزام الصمت في حضورها، ويتجنبون طرح التحديات المعقدة والمهمة التي تتطلب مساحة للتقصي والاستكشاف.

قد تظن أنك تمارس بالفعل نمط التفكير الرحب، على النقيض من تلك المديرة، وبالتالي لا ترى داعياً للقلق. لكن القادة غالباً ما يبالغون في تقدير رحابة سلوكهم؛ فقد أثبتت أبحاثنا أن من يشغلون مناصب عليا في التسلسل الإداري غالباً ما يعتقدون أنهم أكثر انفتاحاً على الاستماع إلى الآخرين، على الرغم أن سلوكهم لا يعكس ذلك دائماً. وبالمثل، لاحظنا من خلال تجربتنا في تيسير الاجتماعات أن القائد نادراً ما يدرك أنه يستأثر بالكلام مقارنة بباقي الحضور.

غالباً ما يظن القائد أن مرؤوسيه يستطيعون الانتقال إلى نمط التفكير الرحب بسهولة ودون حاجة إلى إذن، أو أن طلب هذا الإذن لا يشكل عبئاً كبيراً، وهو ظن في غير محله يعود إلى ما يسميه البعض ظاهرة "عمى الأفضلية"، أي نزعة من يشغلون مكانة أعلى في التسلسل الإداري إلى التقليل من شأن النفوذ الذي يمتلكونه والأثر الذي يتركه هذا النفوذ. ونتيجة لذلك، يبالغ القائد في تقدير سهولة الوصول إليه وفي تصوره لقدرة مرؤوسيه على اختيار المسار الذي يناسبهم بحرية.

كيف تشجع نمط التفكير الرحب؟

كي تمنح الموظف المساحة اللازمة للتفكير والتعلم والابتكار والعمل التشاركي، لا بد من إعادة النظر في أسلوب التواصل والسلوكيات التي تحظى بالتقدير والمكافأة. انظر مثلاً إلى مديرة إقليمية في سلسلة تجزئة أميركية كبرى، اسمها توني، تحدثنا إليها خلال بحثنا؛ إذ عبرت عن امتنانها قائلة: "أشعر بأن مسؤولة الموارد البشرية بشركتنا تتمتع فعلاً بسعة الأفق، سواء في حضورها أو في طريقة تعاملها. أشعر بأنني أحظى بالكثير من الحماية والحرية في أداء دوري بفضلها".

تشير أبحاثنا إلى 3 سلوكيات يتسم بها القادة والمدراء الذين يوفرون هذا النوع من التمكين لفرقهم:

التركيز على الأفكار بدلاً من المهام.

عملت ميغان مع رئيس تنفيذي كان يريد أن يركز فريقه الإداري على الصورة الأشمل بدلاً من الانشغال بتفاصيل العمليات اليومية. ومن خلال الحوارات المتكررة بينهما، أدرك الرئيس التنفيذي أنه كان يوجه الاجتماعات دائماً، وغالباً دون وعي، نحو مناقشة النتائج الفصلية فقط. ومن أجل توسيع أفق تفكير الفريق، اقترحت ميغان أن يبدأ بعض الاجتماعات بأسئلة من قبيل: "ما الذي لم يسر على ما يرام في الأسابيع الماضية، وماذا تعلمت منه؟" أو "كيف طورت أداء فريقك مؤخراً؟" وبمرور الوقت، بدأت محادثات الفريق تتجه نحو رؤى أوسع تعزز التعلم والتطور على مستوى الفريق.

أظهرت الدراسة الاستقصائية التي أجريناها أن موظفين كثيرين يشعرون بأن التركيز ينصب على تنفيذ المهام على حساب الموضوعات التي تنتمي إلى نمط التفكير الرحب. وجاءت موضوعات مثل التعلم والقيم والغاية والإبداع وبناء العلاقات على رأس اهتماماتهم، وفضلوها على مناقشة المهام عند الحديث مع مدرائهم. وعلى المدراء أن يضعوا جداول الاجتماعات بطريقة تتيح مساحة منتظمة لهذه الموضوعات التي تنتمي إلى نمط التفكير الرحب.

إضافة لمسة جديدة.

كثيراً ما نعقد اجتماعاتنا في الأماكن ذاتها، ونلتزم بجداول الأعمال المعتادة، مع الأشخاص أنفسهم، ونفترض أن النهج نفسه كفيل بتحقيق نتائج مختلفة ومتنوعة.

من غير المألوف، وربما المستفز للبعض، أن يقال إن الاجتماع ينبغي ألا ينتهي بالضرورة بخطة عمل جديدة تضاف إلى قائمة مهام مكتظة أصلاً. ومع ذلك، قد تكون هناك نتائج أخرى أهم بكثير. على سبيل المثال، خلال اجتماع انعقد مؤخراً في إحدى شركات علوم الحياة، أخبر المشاركون أحدنا (جون) بأنهم شعروا بـ"الارتياح النفسي والأمل" لأن تصميم جدول أعمال الاجتماع يجعله أشبه بحوار مفتوح قائم على التساؤل، لا جلسة تقليدية تركز على تنفيذ المهام. وفي الأسابيع التي تلت الاجتماع، عبر المشاركون من القيادة العليا عن شعورهم بازدياد حماس الفريق، ما شجعهم على التخلي عن أسلوبهم المعتاد القائم على إصدار توجيهات صارمة. ونتيجة لذلك، تسارعت وتيرة صناعة القرارات، وتجسدت فعلياً مظاهر المرونة السوقية التي لطالما روجوا لها؛ إذ شعر الموظفون في كل من الولايات المتحدة وأوروبا بأنهم محل ثقة لاتخاذ القرارات وتنسيق العمل وفق تقديرهم الشخصي.

يمكن للميسرين الخارجيين والضيوف المدعوين أن يطرحوا أفكاراً جديدة ويقدموا وجهات نظر مختلفة. على سبيل المثال، يؤدي تنويع أماكن الاجتماعات إلى فتح المجال لنقاشات من نوع مختلف؛ فالمشي في أثناء الحوار أو الاجتماع في الهواء الطلق قد يفتح الذهن بدرجة أكبر مقارنة بالاجتماعات في الغرف الزجاجية المغلقة داخل المقرات المكتبية.

عملنا مع مدير كان يشتري كتاباً جديداً لفريقه كل 3 أشهر، يركز على قطاع مختلف أو قضية أشمل تتعلق بالقطاع أو المجتمع الذي يعملون به، ثم يخصص وقتاً محدداً لمناقشة ما قرؤوه معاً. ويشجع مسؤولون تنفيذيون آخرون فرقهم على الخروج من المقرات المكتبية لشركاتهم كي يعيشوا واقع عملائهم. وعندما يفعلون ذلك، يوضح لنا أعضاء الفرق أن هذه المبادرات تساعدهم على استحضار السياق الأشمل، ما يفتح الباب أمام حوارات قيمة حول الاستراتيجية والغاية؛ فالاحتكاك بما هو جديد يدفعهم إلى مراجعة مسارهم وتعديله، ما يبقيهم منسجمين مع تطلعات العملاء بدلاً من الانشغال بالأهداف القصيرة المدى، كما تسهم هذه الحوارات في توثيق العلاقات داخل الفرق من خلال تبادل التجارب والإنصات إلى وجهات نظر مختلفة.

منح نمط التفكير الرحب قيمته ومكافأة من يمارسه.

من المعتاد أن يحظى بالتقدير من يظهر عليهم الانشغال الدائم ويتمكنون من إنجاز المهام. وهذا أمر مفهوم؛ إذ يشكل نمط الإنجاز ركيزة أساسية للفرق ذات الأداء المرتفع، لكن من الضروري أن يقترن هذا التقدير بالاحتفاء بمن يخصصون وقتاً للاستماع والاستكشاف وطرح الأسئلة ودعوة الفريق إلى توسيع أفقه والنظر إلى الصورة الأشمل.

عرفنا بن بزميلته إلين، ورشحها للمشاركة في بحثنا، لافتاً إلى دورها المميز في مشروع تحويلي يواجه تحديات كبيرة كانا يقودانه معاً؛ إذ اعتادت طرح وجهات نظر مغايرة خلال الاجتماعات وإجبار الفريق على التفكير في مسارات بديلة. شعر بعض الأعضاء آنذاك بالإحباط بسبب تأخير سير المناقشات، لكنهم أقروا لاحقاً بأن القرارات التي اتخذوها تحت تأثير نمط التفكير الرحب الذي استحدثته إلين كانت أفضل من التي كانوا على وشك اتخاذها في أثناء انشغالهم بنمط الإنجاز. ولم يقتصر تقدير المدير لجهود إلين على الإطراء، بل حرص أيضاً على توضيح كيفية إسهام تركيزها في تعزيز جودة البرنامج. ومنذ ذلك الحين، أصبح الفريق أكثر استعداداً للتوقف عند اللحظات المفصلية لتحليل القرارات المهمة وتحدي افتراضاتها، خاصة عندما تواجههم تحديات تتطلب التكيف والتفكير العميق.

قد يجد المدير صعوبة في التعرف إلى مظاهر نمط التفكير الرحب داخل الفريق. ومن المفيد هنا أن يفكر في التحيزات التي قد تؤثر على رؤيته للأمور؛ فقد يصف بعض الموظفين سلوكاً معيناً بأنه مزعج أو مضيعة للوقت أو دليل على التراخي، بينما ينظر إليه موظفون آخرون (خاصة من يشغلون مناصب عليا) مؤشراً على التفكير الاستراتيجي والاستعداد للترقي في السلم الإداري؛ فإذا ساورك القلق تجاه تراجع أحد أعضاء الفريق عن نمط الإنجاز، فاسأل نفسك: هل انسحب فعلاً، أم أنه يمارس نمط التفكير الرحب؟

رسخت المؤسسات والأطر الإدارية أعرافاً تمجد نمط الإنجاز على نحو مفرط وتغفل عن القيمة الكامنة في نمط التفكير الرحب. بيد أن القادة لا يمكنهم الوثوق بأن فرقهم تنشغل بالمهام الصحيحة وبالطريقة المثلى، إلا إذا استرشدت قراراتهم العملية بالبصيرة التي يولدها نمط التفكير الرحب. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة التوازن بين النمطين، إذا أرادت المؤسسات أن ترتقي بمستوى الأداء وتحقق الازدهار.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي