ملخص: ليس من السهل خدمة المستهلكين الفقراء في الأنظمة الاقتصادية التي تعاني ندرة التسهيلات الائتمانية، فعندما يواجهون أي أزمة، مثل الكوارث الطبيعية أو الأمراض، سيحاولون الحصول على قروض، لكنهم قد يعجزون عن تقديم المستندات الرسمية اللازمة، مثل بيان الراتب أو كشف الحساب البنكي والسجل الائتماني. ونظراً لارتفاع كلفة التسهيلات الائتمانية وإجراءاتها المعقدة، يتعذر توفيرها في هذه الأسواق، ويتلخص أحد الحلول الممكنة في تقديم ما يسميه الخبراء "نمذجة التدفقات النقدية التنبؤية"؛ أي استخدام النماذج الإحصائية لتوقّع مستويات الدخل والإنفاق لشرائح سكانية محددة؛ إذ تساعد هذه التوقعات جهات الإقراض على تقدير حجم القرض المناسب لكل شريحة، كما تمدها بالمعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات السليمة بشأن توقيت تقديم القروض ومخاطرها. وتجدر الإشارة إلى أن المفهوم الأساسي لنمذجة التدفق النقدي التنبؤية ليس جديداً؛ فقد استخدمت المؤسسات المالية عملية مماثلة في العقارات التجارية التي استثمرت فيها، كما جرّبت مؤسسات التمويل المتناهي الصغر فكرة مماثلة. وفي حين أن إنشاء نماذج التدفق النقدي غالباً ما يكون معقداً ومكلفاً، فإن جهات التمويل الخيري يمكنها المساعدة في عملية جمع البيانات وتقديم الدعم الفني.
قد تكون التسهيلات الائتمانية وسيلة للخروج من الفقر وبالتالي تحسين الأحوال الصحية والتعليمية وعيش حياة أكثر سعادة، لكن المشكلة هي عدم توافرها بالقدر الكافي؛ إذ يعجز أكثر من 130 مليون مشروع تجاري و1.4 مليار فرد في الدول النامية عن الحصول على الخدمات الائتمانية، وحتى إذا توافرت فقد تكون شروطها شاقة وأسعار الفائدة مرتفعة؛ حيث تتراوح من 25% إلى أكثر من 100% في مؤسسات التمويل المتناهي الصغر، وتشير الأبحاث إلى أن المرأة تدفع أسعار فائدة أعلى في كثير من الأحيان من الرجل، وقد تكون تكلفة الإقراض في السوق غير الرسمية أعلى من ذلك.
ثمّة سبب لهذه الظاهرة، وهو صعوبة تقديم هذه الخدمة للمستهلكين الفقراء في الأنظمة الاقتصادية التي تعاني ندرة الخدمات الائتمانية. فعندما يواجهون أي أزمة، مثل الكوارث الطبيعية أو الأمراض، سيحاولون الحصول على قروض، لكنهم قد يعجزون عن تقديم المستندات الرسمية اللازمة، مثل بيان الراتب أو كشف الحساب البنكي والسجل الائتماني. يؤدي هذا كله إلى صعوبة التمييز بين المقترضين أصحاب المخاطر المنخفضة وأصحاب المخاطر المرتفعة.
يمكن تلخيص الأمر ببساطة على النحو الآتي: ونظراً لارتفاع كلفة التسهيلات الائتمانية وإجراءاتها المعقدة، يتعذر توفيرها في هذه الأسواق، وبالتالي إذا أمكن خفض تكاليفها، فإن فرص الحصول عليها سوف تتحسن.
كما يمكن استخدام ضمانات القروض لخفض تكاليف الخدمات الائتمانية، وثمة جهود مبذولة في هذا الاتجاه فعلاً. يتمثّل أحد أساليب استخدام هذا النهج في استخدام التكنولوجيا والأتمتة لإحداث تغيير شامل في مفهوم "الضمانات التي يحددها الخبراء" بمعناها التقليدي. فبدلاً من الزيارات الشخصية للتحقق من أهلية طالب القرض ووضعه المالي، يمكن توفير معلومات كافية بتكلفة أقل من خلال الأدوات الرقمية ومقابلات الفيديو والاختبارات النفسية عن بُعد. يمكن تشبيه هذا النهج بالنهج الذي تتبعه البنوك الخاصة في الدول المتقدمة اقتصادياً عندما يواجه العملاء مواقف مالية خاصة، مثلما يحدث مع أصحاب الثروات عند تعرضهم لضائقة مالية. وتستخدم بعض مؤسسات التمويل المتناهي الصغر هذه التقنية في الأسواق الناشئة لإقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة.
ثمة نهج آخر يتمثل في رقمنة بيانات المقترضين لتوسيع نطاق نموذج تقييم مخاطر التخلف عن السداد، إذ تستخدم هذه التقنية كميات كبيرة من البيانات لربط صفات المقترضين بحالات التخلف عن سداد القروض المعروفة، ثم تستخدم هذه العلاقات الترابطية لاتخاذ قرارات ائتمانية تلائم حالة كل شخص. ولطالما استعانت مؤسسات إقراض الأفراد بشركات التكنولوجيا المالية في البلدان الغنية بالبيانات، مثل الولايات المتحدة، وبدأت هذه الشركات رقمنة بيانات المقترضين في الأسواق الناشئة، على سبيل المثال، سلوك أصحاب الهواتف المحمولة في شراء رصيد المكالمات، لتقييم طرق صرف الدخل.
لكن لم ينجح أي من النهجين فيما يخص أكثر المقترضين المحتملين فقراً؛ لأن الأتمتة لا تستطيع أن تحل محل الخبرة البشرية إلى هذا الحد، كما أن جمع المعلومات المطلوبة لإنشاء نموذج عالي الجودة لتقييم مخاطر التخلف عن السداد قد يكون مكلفاً، وقد تؤدي هذه الجهود إلى إغفال أفقر المقترضين الذين لا يمتلكون بصمة رقمية قوية عموماً. وحتى إذا أمكن جمع البيانات، فإنها عادة ما تكون كافية فقط لضمان القروض الصغيرة القصيرة الأجل، لا الحلول الائتمانية التي تتيح للفرد تعزيز دخله.
نحتاج إذاً إلى طريقة منخفضة التكلفة وموثوقة لتمكين جهات الإقراض من تقييم قدرة الأفراد على السداد، حتى عند توافر قدر ضئيل من البيانات المتاحة.
ونعتقد أننا وجدنا الحل الأمثل وهو نمذجة التدفقات النقدية التنبؤية (PCM)؛ أي استخدام النماذج الإحصائية لتوقّع مستويات الدخل والإنفاق لشرائح سكانية محددة. والمبدأ الأساسي لهذا الحل هو أن تساعد هذه التوقعات جهات الإقراض على تقدير حجم القرض المناسب لكل شريحة، وتمدها بالمعلومات اللازمة لاتخاذ القرارات السليمة بشأن توقيت القرض ومخاطره. وإليك كيفية تنفيذ هذا الحل:
أولاً: يجمع خبراء النمذجة البيانات من خلال المقابلات الشخصية وعمليات البحث لفهم مستوى دخل شريحة سكانية محددة وتكاليفها المعتادة، مثل مُربي الماشية في إحدى الدول. وعند توافر البيانات، يصبح بالإمكان تقدير المبالغ النقدية التي يستطيع المنتمون إلى هذه الشريحة تدبيرها لسداد القروض. تسهم مثل هذه العمليات الحسابية إلى حدٍّ بعيد في تحديد حجم القرض الائتماني الذي ينبغي تقديمه، وشروطه، والشريحة السكانية التي يجب توجيهه إليها.
ولنأخذ مثالاً افتراضياً لأسرة مكونة من 5 أفراد في كينيا. تمتلك الأسرة أرضاً زراعية بمساحة 2.25 فداناً، وتعيش على أقل من 2.1 دولاراً في اليوم. يزرع أفراد الأسرة البطاطس التي يحين موعد جمعها في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب والذرة التي يحين موعد حصادها في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، كما يبيعون بعض بيض الدجاج المنزلي ويعملون في أعمال موسمية مؤقتة.
وبجمع البيانات المتعلقة بالحيازة الزراعية وأسعار المنتجات والتكاليف المعتادة، شاملة كل شيء بدءاً من البذور وصولاً إلى الرسوم المدرسية، يمكن تكوين فكرة جيدة عن آليات التدفق النقدي لمجموعة من الأسر المشابهة، وبالتالي تقدير حجم القرض الائتماني الذي يجب تقديمه لها. قد يشير هذا النموذج إلى أن الأسرة التي تحقق دخلاً سنوياً بقيمة 100 دولار وتحصل على قرض بقيمة 50 دولاراً تصل فرص سدادها القرض إلى 75%، لكن إذا حصلت على قرض بقيمة 200 دولار، فلن تتجاوز فرص السداد 2%. ومن هنا تستطيع جهات الإقراض استخدام هذه المعلومات لتقدير حد الائتمان المناسب في ضوء حجم المخاطر التي يمكن تحمُّلها. يمكن أيضاً تصميم النموذج بأسلوب يراعي تعديل الأسعار في الظروف الاستثنائية، مثل وقوع كوارث الطبيعية أو تفشي الأمراض.
يؤدي جمع البيانات بحسب الشريحة السكانية إلى الاستفادة من فكرة وفورات الحجم، ما يسمح لجهات الإقراض بخدمة المقترضين الذين كان تمويلهم بصورة فردية مكلفاً جداً. وبمجرد إنشاء النموذج تقل التكاليف الهامشية لتقييم ضمانات القروض بدرجة كبيرة إلى ما يقرب من الصفر؛ لأنه لا يتطلب جمع بيانات إضافية. وعلى النقيض من مكاتب الائتمان التي تحتفظ بسرية نماذجها، فإن نمذجة التدفق النقدي التنبؤية وبياناته متاحة لجهات الإقراض، ما يسمح لها بمواصلة تحسين تصميم المنتجات والقطاعات المستهدفة.
إن المفهوم الأساسي لاستخدام النمذجة القائمة على التدفقات النقدية الاحتمالية ليس جديداً تماماً؛ فلطالما استخدمت المؤسسات المالية المنهجية نفسها في محافظ العقارات التجارية الاستثمارية التي تتميز بالانخفاض النسبي لمعدلات التخلف عن السداد وبالتالي ضآلة البيانات ذات الصلة، وقد جربت بعض مؤسسات التمويل المتناهي الصغر فكرتنا المقترحة في السابق بطرق عدة، منها استخدام نموذج حتمي للتدفقات النقدية لتقدير دخل أصحاب مزارع إنتاج الألبان ونفقاتهم.
يكمن الفارق هنا في مدى تطوُّر النهج المتبع ونطاقه؛ إذ يأتي التطوُّر من القدرة على التنبؤ بالدخل والنفقات إحصائياً، استناداً إلى معلومات محدودة، أما اتساع حجم النطاق فينبع من ضخامة عدد السكان المحرومين من الخدمات البنكية وتوافر بيانات محدودة لهم فقط، وبالتالي يقدم لهم هذا النهج فرصة جديدة واعدة.
سيكون إنشاء نماذج التدفق النقدي هذه معقداً ومكلفاً، وستحتاج كل سوق إلى نماذج متعددة؛ إذ تختلف احتياجات أصحاب المشاريع الصغيرة في مدينة الشيخ زايد المصرية، مثلاً، عن احتياجات نظرائهم في المناطق الريفية في أنحاء محافظة الغربية المعروفة بكثافة العمل الزراعي. علاوة على ذلك، قد تفتقر مؤسسات التمويل المتناهي الصغر إلى المواهب الفنية وتوسع نطاق التغطية الجغرافي، وهما عنصران ضروريان لإنشاء نماذج التدفق النقدي والمحافظة عليها وتحسينها تدريجياً، أو قد تفتقر إلى تمدد النطاق الجغرافي اللازم لإنشاء محافظ قروض متنوعة.
وهنا يأتي دور جهات التمويل الخيري التي تساعد في جمع البيانات وتقديم الدعم الفني؛ ففي الهند، مثلاً، ستختبر مؤسسة بيل ومليندا غيتس فاونديشن (Bill and Melinda Gates Foundation) التي يعمل بها أحدنا (مايكل) هذا النوع من النمذجة الإحصائية وتتعاون مع شركاء السوق لوضع نماذج تجريبية.
لن يكون تنفيذ نمذجة التدفقات النقدية التنبؤية على أرض الواقع سهلاً في أغلب الأحيان؛ فقد تتطلب الأسواق المختلفة اختبارات إضافية لتلبية متطلبات المخاطر واستيفاء الاشتراطات التنظيمية، وقد تواجه جهات الإقراض تحديات في دمج نمذجة التدفقات النقدية التنبؤية في أنظمتها الحالية. وأخيراً، في حين تسلط نمذجة التدفقات النقدية التنبؤية الضوء على قدرة المقترضين على سداد القروض، فإنها لا تشير من قريب أو بعيد إلى استعدادهم لسدادها من عدمه.
لا شك في أن نمذجة التدفقات النقدية التنبؤية لا تمثل حلاً سحرياً لمختلف مشكلات تقديم الخدمات المالية، لكننا نعتقد أن هذا النظام بمقدوره حل مشكلة معقدة، ألا وهي ضمان تمويل المستهلكين الأكثر فقراً، وبالتالي توسيع نطاق الحصول على القروض الائتمانية بتكلفة معقولة ليشمل الفئات المحرومة حالياً من الحصول عليه.
ملاحظة: يود المؤلفون توجيه الشكر إلى لوكاس فرايهيت لإسهاماته القيّمة في هذا المقال.