نقاش: عبء المتبرعين لأعمال الخير

4 دقيقة

إن كنت تظن أن كسب المال عمل شاق، فلتجرب مرة أن تهبه لغيرك. هذا درسٌ جلي في كتاب تريسي كيدر الجديد المعنون "شاحنة مليئة بالمال" (A Truck Full of Money)، عن حياة بول إنغلش، المليونير الحالي والمؤسس المشارك لموقع "كاياك دوت كوم" (Kayak.com) للسفريات. فبعد أن أرّخ كيدر لثورة الأجهزة، في كتابه الذي ألفه عام 1981 بعنوان "روح آلةٍ جديدة" (The Soul of a New Machine)، أراد أن يرجع إلى موضوع الحوسبة. وقد ركز هدفه على إنجلش، معجزة البرمجة الذي كان في خضم عملية بيع موقعه الإلكتروني الناجح جداً، المتخصص في حجز تذاكر السفر، بمليارات الدولارات. إن إنجلش ذو شخصية مثيرة للاهتمام – ربما تتسم ببعض الازدواجية، وتتمتع بذاتية التحفيز بشكل أكيد - وقد حقق نجاحاً يفوق أقصى أحلامه. وهو كما تعلمون، لم يكن هدفه أبداً أن يصبح مليونيراً. لم يكن يريد سوى موقع إلكتروني يعمل جيداً، وقاعدة من المستخدمين السعداء الذين يداومون على الرجوع إليه، وفريق عمل يكون نشيطاً ومستمتعاً بالعمل. وكان المال مقصداً ثانوياً له.

ولكن بعد بيع موقع "كاياك"، كانت لدى إنجلش في الواقع ثروة عظيمة – كان، على حد تعبير أحد زملائه، قد صدمته "شاحنة مليئة بالمال" (وهي عبارة لا تُنسى صارت عنوان كتاب كيدر). ولكن، كيف يمكن البدء في نشاط جديد؟ ماذا يفعل المرء للشروع في عمل آخر؟

إن إنجلش ليس وحيداً أبداً في هذا التساؤل. فمليونيرات ومليارديرات اليوم ما إن يحققوا ثروة ضخمة حتى تطاردهم التوقعات بأنهم – مثلما كان يفعل أهل الخير في الماضي، ومنهم أفراد عائلتيّ كارنجي وروكفلر، الذين وهبوا أموالهم للإنفاق على بعض الجامعات الكبرى والمؤسسات العامة الأخرى في الولايات المتحدة – سيتبرعون على الأقل بجزءٍ من ثرواتهم لجعل العالم مكاناً أفضل. ولقد أنشأ بيل غيتس، على سبيل المثال، مؤسسة لهذا الغرض. لكن جهوداً أخرى، مثل المحاولات التي قام بها مارك زوكربيرغ ليُصلح من شأن منظومة التعليم في نيوارك في ولاية نيو جيرسي، قد باءت بالفشل الذريع. ويحاول مؤسس "فيسبوك"، هو وزوجته بريسيلا تشان، استعادة مكانتهما من خلال مبادرة "تشان زوكربيرغ"، وهي مؤسسة أَعلنت مؤخراً أنها ستتبرع بثلاثة مليارات دولار "لعلاج أو الوقاية من أو مكافحة" جميع الأمراض بحلول نهاية هذا القرن.

أما بالنسبة لبول إنغلش، فقد طفق يحذو حذو صديقه توماس جيه وايت، الذي يُعد بمنزلة معلم له، وهو مليونير آخر اغتنى فجأة وتبرّع بمعظم ثروته لمؤسسة "شركاء في الصحة"، وهي مؤسسة غير ربحية تدعم البعثات الصحية في هاييتي والمكسيك وروسيا، وغيرها من البلدان في جميع أنحاء العالم (لقد شارك في تأسيس "شركاء في الصحة" بول فارمر، وهو موضوع كتاب آخر لكيدر بعنوان "جبال وراء جبال" (Mountains Beyond Mountains). ولكن في النهاية، وعلى الرغم من زيارة استكشافية لمجتمع بلا مأوى في مسقط رأس إنجلش في بوسطن، كان اهتمام مؤسِّس "كاياك" بالتبرع بالدولارات أقل من اهتمامه بتأسيس شركة تقنية ناشئة يدعمها رأس مال مغامر (أو ما يسمى برأس مال جريء)- ليس بالضرورة لأجل المال، بل من أجل الكدّ والعمل. لم يكن للعمل الخيري ذلك البريق نفسه الذي تعكسه عملية بناء شيء من الأساس؛ ولذلك فقد تلاشت جهوده الخيرية الوليدة سريعاً.

بالفعل كانت أمام إنجلش خيارات أخرى. فقد كان من الممكن أن يقرر التبرع بمبلغ كبير لبعض المنظمات الخيرية العريقة، لمنظمة تبذل جهوداً ضخمة للقضاء على الفقر في العالم. ولكن حتى في ذلك الاتجاه تكمن مخاطر خفية، كشفها فيلم وثائقي أنتِج عام 2014 بعنوان "صناعة الفقر" (Poverty, Inc)، والذي يكشف التوازن الذي خلقه مجتمع المساعدات الدولية والمشاريع الاجتماعية في العالم النامي. حيث يستعرض المخرج مايكل ماثيسون ميلر الأوضاع في هاييتي على وجه الخصوص، وفي بعض البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى بشكل عام، ويتوصل إلى أن الرغبة المشروعة تماماً في المساعدة، التي غالباً تتجلى في شكل تبرعات نقدية وعينية، تُبقي العالم النامي على حالته النامية فحسب. لقد خلقت الهِبات المقدَّمة من فرادى فاعلي الخير، والمنظمات غير الربحية، والحكومات، والشركات الملتزمة اجتماعياً، حالة من التواكل. فعندما يكون بلد ما غارقاً في الإعانات المالية والملابس والأطعمة التي يتبرع بها العالم المتقدم، فإنه يكون شبه مستحيل بالنسبة للمزارعين ورجال الأعمال المحليين، وحتى من حققوا نجاحاً في السابق، أن يتنافسوا. وتندثر الصناعة، لكن السكان لا يمكنهم الاتكال دائماً على أنواع محددة من المساعدات، نظراً لأنهم يتلقونها بصورة غير منتظمة.

لا يعني هذا إدانة أي شخص أو مؤسسة ذات نوايا حسنة – إن صناع السينما حريصون جداً في هذه النقطة. لا أحد يجحد تجاه المعونة المقدَّمة؛ لكن الرسالة الأهم الوحيدة، التي نخرج بها من فيلم |صناعة الفقر"، تأتي ممن يتلقون المساعدات أنفسهم، وهي أن يقولوا: كفى. توقفوا عن منحنا الأشياء المجانية وساعدونا لمعرفة كيفية بناء المشاريع المستدامة التي سيكون لها تأثير إيجابي وطويل الأمد على مجتمعاتنا.

لا شك أن الأحذية المجانية كانت لطيفةً لبعض الوقت، لكننا نود حقاً أن نبني مصانع الأحذية الخاصة بنا بدلاً من ذلك.

إذاً، ما الذي يتعيَّن على المتبرع الحديث العهد فعله، خصوصاً من يملك ثروة ليست كبيرة بما يكفي ليُسهم بمؤسسة أو مبادرة على نحو ما قدَّم غيتس وزوكربيرغ؟ هناك خيار واحد – ارجع لكتاب "قواعد روبن هود للهبات الذكية" (The Robin Hood Rules for Smart Giving)، للكاتبين مايكل فاينشتاين ورالف برادبورد.

بفضل الأساليب التي وضعها فاينشتاين والآخرون في مؤسسة "روبن هود"، يروِّج الكِتاب لنفسه كدليل "للانتخاب من بين الخيارات الخيرية عندما تكون الموارد محدودة" - التي دائماً ما تكون هكذا حتى بالنسبة لأصحاب المليارات.

إن المؤسسة التي أنشئت في عام 1988 تُسمي منهجيتها "إيجاد موارد تمويل بلا هوادة"، وهي صيغة تسمح للمانحين بتقييم الخيارات المختلفة باستخدام المعايير ذاتها – كنوع رفيع المستوى من تحليلات التكلفة والفائدة. إن المنهجية تبدو بسيطة في ظاهرها؛ اعتمِد بيان مهمة ما، وترجم تلك المهمة إلى أهداف محددة جيداً، وحدِّد تدخلاً معيناً لتجربته مع المخرجات ذات الصلة، ثم حلل النتائج وسجِّلها. ثم كرّر الخطوات نفسها. منهجيةٌ ربما تكون بسيطة لكنها ليست سهلة، وهذا هو السبب في أن المؤلفين قدَّما إرشادات مفصلة حول كيفية اتخاذ القرارات التي لها تأثير حقيقي وإيجابي في العالم.

وأياً كان المنهج الذي يتَّبعه المرء - سواءً منهجية "روبن هود" المدفوعة بالكَم، أم أسلوب توماس وايت الشامل - من الواضح أن التبرع بالمال يجب أن يكون عملية منضبطة تماماً مثل عملية اكتسابه أولاً. فالمرء لا يمكنه ببساطة أن يتبرع بالملايين عشوائياً، ثم يتوقع أن يغيِّر حال العالم إلى الأفضل.

لو أن العمل الخيري جرى على هذا المنوال، لكنا قد أتممنا المهمة على أكمل وجه.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي