من خلال استطلاع جديد أجراه في 30 دولة، يقدّم مركز ماكنزي للصحة رؤيته لكيفية مساعدة الشركات في تهيئة بيئة عمل أولويتها صحة الموظفين الجسدية والنفسية والاجتماعية والروحية.
في أسطر
- يُقصد بالصحة الشاملة صحة الجسد والعقل والصحة الاجتماعية والصحة الروحية. وأظهر استطلاع أجراه مركز ماكنزي للصحة خلال العام 2023، شمل أكثر من 30 ألف موظف في 30 دولة، أن الموظفين الذين يعايشون تجارب إيجابية في بيئة العمل يستمتعون بصحة شاملة أفضل، وهم الأكثر ابتكاراً في العمل، وأصحاب أفضل أداء وظيفي.
- فيما يتعلق بالموظفين، يتحدد مستوى جودة الصحة الشاملة بعوامل التمكين في مقر العمل، ويتحدد مستوى الاحتراق الوظيفي من خلال عوامل الضغط في مقر العمل. ولن يؤدي توفير عوامل التمكين وحدها إلى النزول بمستوى الاحتراق الوظيفي، كما أن تطويع عوامل الضغط وحدها لن يؤدي إلى تحسين جودة الصحة الشاملة. لذلك، نحتاج إلى نهج تكميلي.
من شأن تدخل الشركة، وتدخلات جماعية ووظيفية وفردية، للتعامل مع المتطلبات وعوامل التمكين أن تعزز مستوى الصحة الشاملة للموظفين. ومن ذلك تبنّي سياسات العمل المرنة، وتدريب القيادات، وحسن صياغة الوظائف وإعادة تصميم مهامها، وتنفيذ البرامج الرقمية المتعلقة بالصحة في بيئة العمل.
يقضي معظمنا، نحن معشر الكبار، حياته اليومية في العمل. وهو ما يعني أن أمام أرباب العمل فرصة للتأثير في صحتنا الجسدية والنفسية والاجتماعية والروحية.
ودعماً للتحول نحو صحة أفضل، يبرز مركز ماكنزي للصحة، إلى جانب منظمات أخرى من بينها منظمة الصحة العالمية، طريقة أحدث لتناول مفهوم الصحة بما لا يقتصر على المرض والتعافي منه. وتبني مفهوم الصحة الشاملة؛ هي رؤية متكاملة لأداء الفرد العقلي والجسدي والروحي والاجتماعي، خطوة جوهرية نحو "إثراء السنوات بحياة حقيقية وإثراء الحياة بعمر أطول"، للبشر عبر القارات والموظفين في كل القطاعات وللمجتمعات كافة.
وسبق أن ركز بحث آخر لمركز ماكنزي للصحة على مدى قدرة العوامل الصحية القابلة للتعديل على تحقيق حياة أطول وأفضل صحة. ولا صلة لأغلب تلك العوامل المعززة، التي تبدأ من جودة النوم وصولاً إلى تخصيص وقت للمكوث وسط الطبيعة، بنظام الرعاية الصحية الذي نعهده، وهي تستفيد من دون شك من دعم أرباب العمل. أما الاستطلاع الجديد لمركز ماكنزي للصحة فقد شمل 30 ألف موظف في 30 دولة وبحث في نظرة الموظفين لصحتهم ودور العوامل المؤثرة في مكان العمل في أن تمثل ضغوطاً سلبية على الصحة النفسية والجسدية والروحية والاجتماعية أو أن تصبح أو عوامل تمكين إيجابية لها.
وما يستدعي المبادرة بالتحول يتجاوز مسعى تحسين الصحة. فقد توصلت أبحاث ماكنزي الأخيرة إلى أن فتور مشاركة الموظفين واستنزافهم، وهي الحالة الأكثر شيوعاً بين ذوي الرفاه المتدني، يكلف شركة متوسطة الحجم ما بين 228 مليون دولار و355 مليون دولار سنوياً في بند الإنتاجية التي لم تتحقق. وأظهر بحث أجراه المركز بالتعاون مع مؤسسة الأعمال في المجتمع (Business in the Community) أن القيمة الاقتصادية اللازمة لتحسين رفاه الموظفين البريطانيين تتراوح بين 130 مليار جنيه إسترليني إلى 370 مليار جنيه إسترليني سنوياً أو ما يمثل 6 إلى 17% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة، بما يعادل 4,000 جنيه إسترليني إلى 12,000 جنيه إسترليني لكل موظف بريطاني.
ذكر غالبية الموظفين أنهم في صحة شاملة إيجابية مجملاً
وجدنا أن أكثر من نصف الموظفين في 30 دولة ذكروا أنهم في صحة شاملة إيجابية عموماً؛ ولكن هناك تفاوت كبير بين الدول، إذ نجد أن أدنى نسبة إجمالية من الدرجات الإيجابية مسجلة في اليابان 25% وأعلى نسبة من الدرجات الإيجابية في تركيا 78%. ومن بين المشاركين، كانت النسبة الأكبر من الدرجات الإيجابية للصحة الجسدية بنسبة 70%، وأفاد ما يقرب من ثلثي الموظفين عن نتائج إيجابية فيما يتعلق بالصحتين النفسية والاجتماعية. وكانت أقل نسبة من النتائج الإيجابية تتعلق بالصحة الروحية، إذ بلغت 58%.
وعند بحث الفوارق الديموغرافية والفروقات الدقيقة، سجل من تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 24 عاماً أدنى درجات الصحة الشاملة. وهذا يكمل عملاً سابقاً للمركز حول التحديات التي تواجه "الجيل زد" (جيل مواليد منتصف التسعينيات حتى منتصف العقد الأول من الألفية الثانية من القرن الحادي والعشرين). وتبين أن حجم الشركة يشكل فارقاً؛ فقد حصل المشاركون من العاملين في شركات أكبر (أي تتجاوز قوتها 250 موظفاً) على درجات صحة شاملة أعلى من نظرائهم في الشركات الأصغر حجماً. وضمن أدوار العمل، حصل المدراء على درجات فائقة في الصحة الشاملة، في حين أفاد جميع الموظفين الآخرين بصحة شاملة أقل. وعلاوة على ذلك، هناك تماثل في مستويات جودة الصحة الشاملة في جميع القطاعات التي شملتها الدراسة (الشكل 1).
وعلى مستوى كل دولة، تتفاوت عوامل مثل أعراض الاحتراق الوظيفي، أو الضعف العاطفي، أو الضعف الإدراكي. ومع ذلك، فإن إحدى النتائج الشائعة هي نقص الطاقة؛ فقد أبلغ أكثر من ثلث المشاركين في 29 دولة شملها الاستطلاع عن إرهاق. وبالمقارنة، أبلغ ثلث أو أكثر من الثلث بقليل في ثلاث دول فقط عن انفصال نفسي أو عدم رغبة في العمل (الشكل 2).
الإحاطة بعوامل الضغط على الموظف وعوامل تمكينه
استكشف المركز في هذا الاستطلاع مجموعة واسعة من عوامل الضغط، وهي عوامل في مكان العمل تتطلب جهداً معرفياً و/أو جسدياً و/أو عاطفياً مستمراً، وكذلك عوامل التمكين التي يمكن أن تعوض عوامل الضغط. فيمكن اعتبار عوامل الضغط تحديات في مكان العمل، وتساعد عوامل التمكين في التغلب على التحديات بفعالية، بما يسمح بخوض الموظفين تجربة نمو وتطور إيجابية.
ويستكشف نموذجنا البحثي كيفية تأثير عوامل الضغط وعوامل التمكين في العديد من النتائج المتعلقة بالعمل والصحة. وبناءً على الأبحاث السابقة، ندرس الآن جانباً جديداً جوهرياً؛ ألا وهو العلاقة بين عوامل الضغط وعوامل التمكين وما يتمتع به الموظف من صحة شاملة.
وتنبأ نموذج المركز بنسبة كبيرة من التفاوت في الصحة الشاملة، تصل إلى 49%، أي ما يتجاوز بكثير تنبؤات نماذج البحث التقليدية فيما يتعلق بتفاوت النتائج. وكلما زاد التفاوت الموضح، كان النموذج في وضع أفضل للتنبؤ بصورة موثوقة بالتفاوت بين نتائج الموظفين. ومن اللافت أننا نجد أن زيادة الدرجات في أحد الأبعاد الفرعية للصحة تؤدي إلى زيادة الدرجات في جميع الأبعاد الفرعية للصحة.
وتفسر عوامل التمكين؛ أي جوانب العمل التي تمدنا بطاقة إيجابية مثل العمل الهادف والسلامة النفسية، معظم التفاوت في الصحة الشاملة. فأولئك الذين يحققون ذواتهم في عملهم ويشعرون بقدرتهم على طرح أفكار أو إبداء اعتراضات مع زملائهم في العمل هم الأقرب للشعور بأنهم يتمتعون بصحة أفضل عبر جميع الأبعاد الأربعة (الشكل 3).
وكذلك، تزودنا الصحة الشاملة بنظرة ثاقبة لأداء الموظفين. فعلى سبيل المثال، من المرجح أن يشير الموظفون الذين يتمتعون بصحة شاملة جيدة إلى أنهم مبتكرون في عملهم، ويقدمون أداء أفضل، ويوازنون بدرجة أفضل بين العمل والحياة.
وعند فحص أعراض الاحتراق الوظيفي، فإن عوامل الضغط؛ مثل السلوك السام في بيئة العمل، أو غموض الدور الوظيفي، أو تضارب الأدوار الوظيفية، أكثر تنبؤاً بسبع مرات من عوامل التمكين.
تؤثر الدوافع لدى فرق العمل والوظائف والفرد في الصحة الشاملة (الشكل 4)، وهو ما يعني أن الموظف الذي يثق في قدرته على أداء العمل جيداً، ويكون قادراً على التكيف في أثناء ظروف العمل المتغيرة، ويشعر كما لو أنه ينتمي إلى مجتمع في عمله، تتحسن صحته الشاملة.
وتؤثر الدوافع على مستوى فِرق العمل والوظائف في أعراض الاحتراق الوظيفي، وهو ما يعني أن الموظف الذي يُستبعد أو يكون ضحية تنمر أو يتلقى تعليقات مهينة من زملائه أو الذي لا يعرف ما هو متوقع منه في العمل يعاني أعراض الاحتراق الوظيفي بدرجة أكبر.
العلاقة بين الصحة الشاملة ونتائج العمل
تسهم الصحة الشاملة في توقع العديد من النتائج المتعلقة بالعمل، بالإضافة إلى المفاهيم ذات الصلة به مثل أعراض الاحتراق الوظيفي والمشاركة والسعادة في العمل. وهو ما يسلط الضوء على أن المكونات الأساسية للصحة، على الرغم من ارتباطها بمقاييس أخرى في بيئة العمل، لا تعادل المشاركة أو السعادة في العمل.
وتُعد الصحة الشاملة مقياساً فعالاً لمدى نضج الموظف مهنياً بمرور الوقت، بما يسهم في تعزيز الأداء الإيجابي في مكان العمل. ولوجود موظفين يتمتعون بصحة شاملة قوية آثار تتجاوز أداء الشركة على المدى القصير. ومن الأمثلة على ذلك المشاركة المجتمعية خارج نطاق العمل؛ فعندما يعاني الموظف سوء الحالة الصحية الشاملة، فمن المرجح أن يعجز عن مساعدة مجتمعه. وعلى نحو متصل، فإنهم قد يشكلون ضغطاً على الخدمات الصحية من خلال تأخير الرعاية. وقد يكون لهذا أيضاً أثره في الدور الذي تلعبه الشركات في مجتمعاتها، وفي المدن التي تحاول تعزيز الصحة الجسدية وتنمية المشاركة المجتمعية والمبادرات بين السكان. وعلاوة على ذلك، قد يرغب الموظف الذي يتمتع بصحة شاملة قوية في العمل لفترة أطول، ويكون أكثر قدرة على ذلك، وهو ما سيكون مهماً لكيفية تعامل الشركة مع الموظف الذي يتقدم في السن.
تأثير أعراض الاحتراق الوظيفي في الصحة
على منوال بحثنا السابق حول الاحتراق الوظيفي، وجدنا أن 22% من الموظفين يعانون أعراض الاحتراق الوظيفي في الدول الثلاثين المشمولة في دراستنا، على الرغم من فوارق كبيرة بين الدول. وأفاد المشاركون من الكاميرون عن أدنى معدلات الاحتراق الوظيفي 9%، وأفاد المشاركون في الهند عن أعلى معدلات الاحتراق الوظيفي 59%. وعند استكشاف الاختلافات الديموغرافية في معدلات الاحتراق الوظيفي، نجد أن الموظفين الأصغر سناً، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 24 عاماً، والموظفين من الشركات الأصغر حجماً، وجميع الموظفين غير المدراء يبلغون عن معدلات احتراق وظيفي أعلى.
وتؤكد نتائج الاستطلاع على نمط بالغ الأهمية؛ إذ تفسر عوامل الضغط، أي جوانب العمل التي تستنزف الطاقة مثل التعامل مع السلوكيات السامة أو غموض الأدوار الوظيفية، معظم التباين في معدلات الاحتراق الوظيفي. لكن الاحتراق الوظيفي ليس سوى نقطة البداية؛ على الشركات دور حاسم في التعامل مع مجموعة من النتائج الصحية (النفسية) السلبية في بيئة العمل بما يتجاوز الاحتراق الوظيفي.
فلا بد من المبادرة بإعادة صياغة طريقة تفكيرنا في صحة الموظفين. وعلى الشركات دعم صحة جميع الموظفين؛ أي مساندة أولئك الذين يعانون اعتلالَ الصحة، واتخاذ تدابير وقائية لتجنب النتائج الصحية السلبية، وترسيخ بيئة عمل يتمتع فيها عدد أكبر من الموظفين بصحة شاملة إيجابية.
الجمع بين تحسين الصحة الشاملة وتجاوز الاحتراق الوظيفي
درس مركز ماكنزي للصحة أداء الموظفين عبر العيّنة العالمية فيما يتعلق بالصحة الشاملة وأعراض الاحتراق الوظيفي في الدول الثلاثين (الشكل 5). وتبين أن الاستمتاع بصحة شاملة إيجابية لا يعني غياب أعراض الاحتراق الوظيفي. هناك علاقة عكسية بينهما ولكنهما ليسا وجهين للعملة نفسها. بمعنى أن الاحتراق الوظيفي والصحة الشاملة يتعايشان.
وعالمياً، وجدنا أن ما يقرب من نصف الموظفين المشاركين 49% "يؤدون أداءً جيداً"؛ فقد كانت معدلاتهم جيدة عبر أبعاد الصحة الشاملة ويظهرون في الوقت نفسه انخفاض معدلات أعراض الاحتراق الوظيفي. ومع ذلك، فإن ما نسبته 9% من الموظفين حققوا معدلات جيدة عبر أبعاد الصحة الشاملة ويعانون في الوقت نفسه ارتفاعَ معدلات أعراض الاحتراق الوظيفي. وما يقرب من ثلث الموظفين يعانون أداءً دون المستوى الأمثل عبر أبعاد الصحة الشاملة وكذلك يظهرون تدني معدلات الاحتراق الوظيفي. أما المجموعة التي تعاني أكثر من غيرها فهي هؤلاء الموظفين الذين "يغرقون"؛ أي يعانون أداءً دون المستوى الأمثل عبر أبعاد الصحة الشاملة مع ارتفاع معدلات أعراض الاحتراق الوظيفي. ويوضح (الشكل 5) النسبة المئوية للموظفين الذين يمكن تحسين معدلاتهم من خلال معالجة عوامل الضغط وبناء عوامل التمكين للموظفين في الآن نفسه. ونسمي ذلك "فجوة الفرص".
من شأن التعامل مع مقومات الصحة الشاملة وأعراض الاحتراق الوظيفي معاً أن يساعد الشركات في مختلف القطاعات في التمييز بصورة أفضل بين المحركات الحقيقية للمخرجات. فعلى سبيل المثال، يفيد أغلب الأطباء والممرضين والمعلمين وغيرهم في القطاع الاجتماعي أو قطاع الرعاية الصحية بأنهم يحققون ذاتهم في عملهم، ولكنهم غالباً ما يبلغون عن معدلات عالية من أعراض الاحتراق الوظيفي والتفكير في ترك الوظيفة.
السبيل الأمثل لتحفيز الشركات وفرق العمل والأفراد
اكتشفنا المحفزات الأوثق صلة بالنتائج الإيجابية والسلبية لصحة الموظفين. وتقترح رؤى البحث مجموعة من الإجراءات التي تعالج عوامل الضغط في مكان العمل والتي تزيد من سوء الحالة الصحية وتعزيز عوامل التمكين في مكان العمل لمساعدة الموظفين في تحقيق النجاح.
ولعوامل بيئة العمل على مستوى الفرد وفريق العمل والوظيفة تأثيرها الأقوى في الصحة الشاملة. وفي نموذجنا، تتوقع عوامل مكان العمل على المستوى الفردي وجود 28% من الاختلافات بين الموظفين فيما يتعلق بالصحة الشاملة، في حين تتوقع العوامل على المستوى الوظيفي نسبة اختلاف 21%، وهي على مستوى الفريق 39%، وعلى مستوى الشركة 12%.
وبالمقارنة، عند النظر إلى أعراض الاحتراق الوظيفي لدى الموظفين، في نموذجنا، تتنبأ عوامل مكان العمل على المستوى الفردي بنسبة 3% من الفوارق بين الموظفين بشأن الاحتراق الوظيفي، ويحتل التوقع على المستوى الوظيفي 62%، والفريق نسبة 32%، والتوقع على مستوى الشركة 1%. وسبب 95% من التباين الموضح هو عوامل على مستوى الوظيفة والفريق.
والموظف الذي يجد المعنى في عمله يذكر في كثير من الأحيان أنه يتمتع بصحة شاملة أفضل، حتى عندما يتسامح مع السلوكيات السامة في مكان العمل. ولكن هناك حدود. ففي حين أنه يمكن الحفاظ على الصحة الشاملة في بيئة عمل شديدة السمية إذا وجد الموظف أن عمله مفيد، فإن العمل الهادف هذا لا يحمي من أعراض الاحتراق الوظيفي في البيئات الشديدة السمية (الشكل 6). وعلاوة على ذلك، عندما يواجه الموظف سلوكاً ساماً في العمل، فإن درجاته الصحية الشاملة تكون أقل بنسبة 7%، كما يُبلغ عن ارتفاع معدل أعراض الاحتراق الوظيفي بنسبة 62%.
وبعبارات أبسط نقول إذا أرادت الشركة تحسين مستوى الصحة الشاملة، فإن عليها التدخل على جميع المستويات الأربعة (الفرد، والوظيفة، والفريق، والشركة). وإذا أرادت الشركة الحد من تأثير النتائج السلبية المباشرة مثل الاحتراق الوظيفي، فإن التركيز على مستوى الوظيفة والفريق هو أفضل بداية للتدخل.
ولنأخذ على سبيل المثال موظفة يمكن وصفها بأنها "تتأقلم مع شتى الظروف" أو "تنفذ كل ما نلقي عليها من مهام". يمكن أن تتجلى هاتان الصفتان في كفاءة ذاتية وقدرة على التكيف العاطفي، وكلاهما محرك رئيسي للصحة الشاملة؛ مما يعني أنها عوامل متميزة في مكان العمل يمكنها تحسين الصحة الشاملة بطريقة مستهدفة. فعندما تتمتع الموظفة بالكفاءة الذاتية، فإنها تشعر بالثقة في قدرتها على التعامل بكفاءة مع الأحداث غير المتوقعة أو التعامل مع المواقف غير المتوقعة بفضل براعتها. وتشعر أنها تستطيع الحفاظ على هدوئها عند مواجهة الصعاب لأنها تعتمد على قدرتها على التأقلم.
فيمكن للموظفين ذوي القدرة على التكيف أن يحافظوا على هدوئهم حتى لو اضطروا إلى تغيير خططهم، وأن يستمدوا الطاقة من التغييرات غير المتوقعة، وحسن الاستمتاع بها عندما يتغير الموقف، بل والاستمتاع بالتعامل مع الأحداث غير المتوقعة. فلا ينبغي أن يكون مفاجئاً أنه عندما تنشأ التحديات أو تسود حالة من عدم اليقين، يكون الأداء الصحي لهؤلاء الموظفين أفضل؛ وهو التأثير الذي رأيناه أيضاً في بحثنا السابق حول الاحتراق الوظيفي. وأفاد الموظفون الذين يتمتعون بمهارات الكفاءة الذاتية أو القدرة على التكيف بصحة شاملة أفضل، بغض النظر عن عوامل الضغط التي تواجههم (ومنها على سبيل المثال غموض الدور الوظيفي)، ربما لأنهم أكثر قدرة على تحويل المواقف الصعبة إلى فرص واعدة. وهي مهارات يمكن اكتسابها وصقلها.
وفي حين تساعد الكفاءة الذاتية في الحفاظ على إحساس الموظف بالصحة الشاملة في بيئة منهكة، إلا أن هناك حداً لحماية صحة الموظف في تلك المواقف. ومع أن ثقة الموظف في قدرته على الأداء يمكن أن تحمي إحساسه بالصحة الشاملة، إلا أنها لا تحميه من التعرض لأعراض الاحتراق الوظيفي في بيئات العمل شديدة التوتر (الشكل 7). وتشير هذه النتائج إلى أن أفضل بداية للشركات هي معالجة عوامل الضغط وبناء عوامل التمكين للموظفين على مستوى الفريق والوظيفة في الآن نفسه.
ومن المهم أن نعلم أن الشد والجذب بين عوامل الضغط وعوامل التمكين حتمي داخل الشركة. فعند الالتزام بالتغيير الطويل الأمد، فمن المعقول أن تشهد الشركة عوامل ضغط عرضية؛ فعلى سبيل المثال، قد يؤدي الإقبال الموسمي على متجر إلى مزيد من عوامل الضغط القصيرة الأمد في الشركة. وقد تشهد شركات أخرى اتحاد زملاء في فريق عمل لتنفيذ مهام مؤقتة. يضع إطار الصحة الشاملة الذي يقترحه المركز ذلك الأمر في الاعتبار، ويستكشف كيف يمكن لمستويات التأثير المتعددة أن تشجع العمل الإيجابي على تعزيز صحة الموظفين ورفاههم؛ على مستويات الشركة والفريق والوظيفة والفرد، ويؤكد أن التركيز المبالغ فيه على عوامل الضغط أو تعزيز عوامل التمكين فقط، يؤثر على المدى البعيد في صحة الموظف.
ضرورة التزام الشركات بدعم موظفيها للتحول من الحالة الصحية السيئة إلى جودة الصحة الشاملة
قدّم مركز ماكنزي للصحة في هذا المقال طرحاً منطقياً للشركات حتى تقلل من أعراض الاحتراق الوظيفي وتعزز الصحة الشاملة لموظفيها. ويشير بحثنا إلى أن عوامل الضغط وعوامل التمكين على مستوى الفريق والوظيفة هي المنطلق الأنسب في السعي لتحسين صحة الموظفين داخل الشركات. وبينما تطور الشركات استراتيجيات تعزيز صحة الموظفين ورفاههم، إلى جانب التركيز على معالجة تدني الصحة النفسية في بيئة اقتصاد كلي صعبة، يفيدنا أن ندرس كيفية دعم الصحة على أربعة مستويات مختلفة داخل الشركة:
- الشركة: غالباً ما تكون هناك حاجة إلى توفير الشركة الموارد المطلوبة لدعم التدخلات على مستوى فرق العمل والوظائف والأفراد، ويجب على المدراء التنفيذيين دعم الاستثمار في الصحة الشاملة حتى يكون له تأثير. فعلى سبيل المثال، قد تفشل التدخلات التي تشجع أعضاء الفريق على التصرف تصرفاً إيجابياً بعضهم تجاه بعض إذا كانت ثقافة الشركة ونظام الأداء يؤديان إلى تطبيع إساءة معاملة الزملاء.
ثانياً، بداية إعادة تصميم الوظائف تكون من أعلى؛ فبينما يستطيع المدراء مساعدة الموظفين في صياغة الوظائف ومهامها، فإن الشركات التي لا تدعم سياساتها التناوب أو التنقل الرأسي داخلها تقوّض آثار مثل هذه التدخلات. وأخيراً، في حين ينبغي تصميم الوظائف مع وضع التعويضات والمزايا الكافية في الاعتبار، فإن المنظمات هي المسؤولة في نهاية المطاف عن تمويل مزايا الموظفين هذه وتقديمها.
ومن الأمثلة على إجراءات تتخذها الشركات التسجيل في برامج الأجور المعيشية، والتعهد بضمان أن يكون الأجر الأساسي كافياً لتغطية الاحتياجات الأساسية لجميع الموظفين، [22] وتقديم برامج مالية يمكن للموظفين من خلالها الحصول على جزء من رواتبهم قبل موعد صرف الرواتب، وإتاحة خدمات التطبيب عن بُعد، أو تقديم دعم إضافي أو وقت إجازة للآباء ومزودي الرعاية.
- فريق العمل: يسلط البحث الضوء على الدور المهم الذي تلعبه ديناميكيات فرق العمل في تعزيز الصحة والرفاه، وغالباً ما يكون ذلك مسؤولية المدراء وقادة الفرق. وينبغي تدريب قادة الفرق تدريباً مناسباً وتمكينهم من إنشاء أماكن عمل أكثر صحة. وفي المقابل، يجب أن يتحملوا المسؤولية عن الطرق التي يتفاعلون بها مع الآخرين في فريقهم وداخل الشركة، والطريقة التي يتفاعل بها أعضاء فريقهم بعضهم مع بعض، ويجب عليهم التدخل عندما يعامل الموظفون بعضهم معاملة سلبية.
وتساعد التدخلات التي تعزز السلوكيات الإيجابية وتحد من السلوكيات السلبية في بناء فريق عمل ومناخ بالشركة يعزز الصحة الشاملة. ومن هذه التدخلات، على سبيل المثال لا الحصر، تدريبات المدراء على توفير بيئات آمنة نفسياً وصقل مهارات حل الخلافات، وتنفيذ أنظمة تكفل التواصل مع إدارة الموارد البشرية بالإبلاغ دون الكشف عن البيانات الشخصية للمُبلغ، وتطبيق آليات إبداء الرأي في سلوكيات القيادة والفريق بوصفها مدخلات لمراجعات الأداء والترقيات، دون الكشف عن البيانات الشخصية.
- الوظيفة: إعادة تصميم الوظيفة ومتطلباتها أو الضبط الدقيق للعمل المستدام من أكثر الطرق المباشرة للحد من عوامل الضغط على مستوى الوظيفة، إذ تعيد الشركات ترتيب المهام بهدف مساعدة الموظفين في الحفاظ على كفاءتهم وصحتهم بمرور الوقت. وغالباً ما يكون تنفيذ ذلك والإشراف عليه من الإدارة العليا.
وتساعد مجموعة واسعة من التدخلات الإضافية الشركة في وضع معايير عمل مستدامة. ويتضمن ذلك تحديد الحد الأقصى لساعات العمل (في اليوم، في الأسبوع)، [26] وقصر اتصالات شؤون العمل على ساعات معينة من اليوم، وتوفير خيار تحديد وقت بدء العمل أو خيارات الجدولة الذاتية لساعات العمل للعاملين في المناوبات. فعلى سبيل المثال، ألغت شركة شوبيفاي (Shopify) مؤخراً جميع الاجتماعات المتكررة لثلاثة أشخاص أو أكثر في سبيل ضمان جدية الاجتماعات المتكررة وتوفير مزيد من الوقت للتركيز في العمل.
وهناك ما ينبغي وضعه في الاعتبار عند تصميم الوظائف وهو إذا ما كان أولئك الذين يؤدون أدواراً معينة يحصلون على أجور ومزايا كافية لتغطية احتياجاتهم الأساسية أم لا. ويُظهر البحث أن من لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية برواتبهم يشعرون بعدم الأمان المالي ويكونون أقل صحة من أولئك الذين يشعرون أنهم يحصلون على أجر كافٍ. كما يمكن للشركة مراجعة تغطية التأمين الصحي للموظفين، سواء كان عاماً أو خاصاً، وما يتكبده الموظف من مصاريف نثرية في هذا الصدد.
- الفرد: يتبين من البحث الذي أجراه المركز أن الحصول على عمل هادف هو أحد المحفزات الرئيسية للصحة الشاملة. فيمكن للشركة دعم موظفيها لتحقيق ذاتهم في عملهم بالتركيز على المهمة ودمج هدفهم الشخصي في استراتيجية الشركة وفي جميع إداراتها. ونجد على سبيل المثال أن شركة مثل باتاغونيا (Patagonia) تستهدف توظيف الأفراد المتحمسين لرسالتها "باتاغونيا تعمل على إنقاذ كوكبنا".
علاوة على ذلك، وجدنا أن إشراك الموظفين في صياغة التوصيف الوظيفي وتحديد أدوارهم وسيلة قوية لتحفيزهم وبناء قدراتهم ومساعدتهم في تحقيق ذاتهم في عملهم. ومن الأمثلة الأخرى تدريبات رفع القدرات للمساعدة في صقل مهارات الثقة بالنفس والقدرة على التكيف. وأخيراً، وليس آخراً، على المدراء دور محوري متزايد في نجاح الشركة، وتهيئتها بدرجة أفضل لعالم الأعمال الجديد؛ ونحن هنا نعني مدراء الإدارة الوسطى وقادة فرق العمل، فهم قادرون على دعم ثقافة نمو تبني الصحة الشاملة للموظفين.
تمتلك الشركات قدرات أكبر مما تتصور نحو تحقيق النتائج الإيجابية المأمولة
لم يعد تمكين موظفين أصحاء ترفاً، بل ضرورة استراتيجية لكل شركة ترغب في تجاوز الفترات المضطربة في مجتمع أصبح أشد تعقيداً من أي وقت مضى. ولاغتنام الفرص التي توفرها صحة الموظفين ورفاههم، يجب على الشركة الاعتراف بدورهم. وبالموافقة على تهيئة أماكن عمل مواتية لنجاح موظفيها، تعطي الشركة الأولوية للصحة الشاملة بوصفها أحد المخرجات المهمة التي تتوافق مع الإطار البيئي والاجتماعي والمؤسسي (ESG) الأوسع نطاقاً. وللشركة اتخاذ الإجراءات اللازمة من خلال الإحاطة بكيفية تأثير عوامل الضغط وعوامل التمكين في الموظفين على مختلف المستويات؛ سواء كانت تنظيمية أو فرق العمل أو الوظائف أو الفردية. ولأن المستثمرين يعتمدون بصورة متزايدة اليوم على مقاييس (ESG) عند اتخاذ القرار الاستثماري، نتوقع مزيداً من الأبحاث حول مدى ارتباط عافية الموظفين بالأداء المالي للشركات.
وحتى تحيط الشركة تمام الإحاطة بالمؤثرات الفعلية في صحة موظفيها، يجب عليها تبني نهج يأخذ في الاعتبار عوامل الضغط على الموظفين وعوامل تمكينهم، وكذلك كيفية تصميم تدخلات على مستويات التنظيم وفرق العمل والوظائف وعلى مستوى كل موظف على حدة. وهكذا، لم تعد صحة الموظفين مقياساً بسيطاً، وأصبح من الواجب على كل مدير أن يعتبر صحة الموظفين جزءاً من نموذج القيادة الذي تقدمه الشركة لهم لكي يحتذوا حذوه، بأن يؤكدوا للموظفين أن الصحة الأفضل وممارسات الأعمال الأكفأ هما سبيل الجميع إلى النجاح.