في استطلاع للرأي أجرته شركة ديلويت مؤخراً حول نجاح مشروع الذكاء الاصطناعي، وأولئك "الذين يستخدمون التقنيات المعرفية استخداماً صارماً"، وُجد أنّ 76% ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أنهم سيقومون بتحويل شركاتهم بشكل جوهري في غضون السنوات الثلاث المقبلة. ربما لم يكن هناك ذلك القدر الهائل من الإثارة حول تقنية جديدة منذ سنوات طفرة الدوت كوم (Dot-Com Boom) في أواخر التسعينيات مثلما يحدث حالياً.
ولعل الإمكانات المتاحة قد تبرر هذا الكم الهائل من الصخب حول موضوع الذكاء الاصطناعي فهو، أي الذكاء الاصطناعي، ليس مجرد تقنية واحدة، إنما هو مجموعة كبيرة من الأدوات تشمل عدداً من الأساليب الخوارزمية المختلفة وكماً هائلاً من مصادر البيانات الجديدة، مع تقدم وتطور في الأجهزة والمعدات. في المستقبل، سوف نرى معماريات حوسبة جديدة، مثل الحوسبة الكمية والرقائق العصبية البنائية، تدفع بإمكانات الذكاء الاصطناعي إلى آفاق أرحب.
ومع ذلك، ما تزال هناك فجوة كبيرة بين ما نطمح إليه وبين الواقع. تقدر مؤسسة غارتنر (Gartner) أن 85% من مشاريع البيانات الضخمة يصاحبها الفشل. كما كانت هناك مواقف وحالات مربكة، مثلما حدث عندما أفاد مؤشر داو جونز (Dow Jones) أن جوجل كانت تشتري شركة آبل مقابل 9 مليارات دولار، وترتب على ذلك تصديق الروبوتات لذلك، أو عندما جن جنون المتحدث الآلي (Chatbot) الذي أنتجته شركة مايكروسوفت وأطلقت عليه اسم تاي (Tay) على تويتر.
نجاح استثمارات الذكاء الاصطناعي في الشركات
ولذا، كيف تتأكد أنّ مؤسستك ستحقق نتائج أكثر نجاحاً من استثماراتها في الذكاء الاصطناعي؟
أولاً، ينبغي عليك توضيح غرضك من استخدام الذكاء الاصطناعي. فالذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يوجد في فراغ وإنما في سياق نموذج العمل والعمليات والثقافة الخاصة بمؤسستك. وكما أنك لن توظف موظفاً دون فهم مدى تناسبه مع مؤسستك وحاجتها إليه، إذن فمن اللازم أن تفكر بوضوح في كيفية قيام تطبيق للذكاء الاصطناعي بتحفيز نتائج أعمالك الفعلية ودفعها للأمام.
لقد نصحني رومان ستانيك، الرئيس التنفيذي لشركة جود داتا (GoodData) قائلاً: "يجب أن يكون السؤال الأول الذي تطرحه هو: ما هي نتائج الأعمال التي أحاول دفعها وتحفيزها؟" في كثير من الأحيان، تبدأ مشاريع الذكاء الاصطناعي بمحاولة تطبيق نهج تقني معين؛ بيد أنّ المدراء والموظفين في الصفوف الأمامية لا يجدون ذلك النهج مفيداً أو نافعاً، وليس هذا بمستغرب ولذلك ليست هناك استفادة حقيقية ولا عوائد على الاستثمار في هذه التقنية".
وبينما يأتي التغيير في الغالب مدفوعاً من قمة المؤسسة، إلا أنّ التنفيذ دائماً ما يكون مدفوعاً من الطبقة التي تليها. ولذلك فمن المهم توصيل رسالة الشركة في هذا الصدد بكل وضوح إلى المستويات الأدنى في المؤسسة والمناط بها تنفيذ التغيير. إذا كان المدراء والموظفون في الخطوط الأمامية يعتقدون أنّ الذكاء الاصطناعي سيساعدهم على أداء وظائفهم وأعمالهم بشكل أفضل، فإنهم سيكونون أكثر حماسة بكثير بشأنه، وأكثر فاعلية في إنجاح المشروع.
أخبرني جوش سوتون، الرئيس التنفيذي لشركة أجوراي (Agorai.ai) قائلاً: "إنّ أولئك القادرين على التركيز على نتائج الأعمال يكتشفون أنّ الذكاء الاصطناعي يدفع النتائج النهائية بمعدل لم يكن يتوقعه إلا القليل". ويشير إلى دراسة حديثة لشركة ماكنزي جاء فيها أنّ القيمة الاقتصادية المحتملة للأدوات المعرفية تتراوح ما بين 3.5 تريليون و5.8 تريليون دولار في إشارة واحدة فقط إلى التأثير المحتمل.
ثانياً، اختر المهام التي تريد إدارتها آلياً بحكمة ودقة. في حين يساور الكثيرون القلق من أنّ التقنيات المعرفية ستستحوذ على الوظائف البشرية، إلا أنّ ديفيد أوتور، الخبير الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، يرى أنّ التحول الأساسي يحدث بين العمل الروتيني وغير الروتيني. وبعبارة أخرى، فإنّ الذكاء الاصطناعي يقوم سريعاً بأتمتة العمليات المعرفية الروتينية تماماً مثلما قامت آلات عصر الصناعة بأتمتة العمل المادي والجسدي.
حتى تفهم كيفية عمل ذلك، ما عليك سوى الذهاب إلى متجر من متاجر آبل. فشركة آبل تفهم تماماً وبكل وضوح كيفية أتمتة عملياتها، ولكن أول شيء تراه عند دخولك أي متجر من متاجرها هو عدد الموظفين الواقفين بانتظار تقديم الخدمة ومساعدتك. ويرجع ذلك إلى أنّ آبل اختارت أتمتة المهام الخلفية، ولكنها لم تقم بأتمتة التعامل مع العملاء.
بيد أنّ الذكاء الاصطناعي يمكنه زيادة فعالية الموظفين البشريين بشكل كبير. على سبيل المثال، جاء في دراسة استشهد بها تقرير للبيت الأبيض خلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أنه في حين أنّ معدل خطأ الآلات في قراءة صور الأشعة كان بنسبة 7.5%، كان معدل الخطأ البشري 3.5%. وعندما قام الأفراد بدمج الآلات في عملهم انخفض معدل الخطأ إلى 0.5%.
قد يكون الأكثر أهمية هو تمكن هذا النهج فعلياً من تحسين الروح المعنوية للعاملين. وقد حدث ذلك على سبيل المثال عندما تعاون بعض عمال المصانع بنشاط وفاعلية مع الروبوتات التي قاموا هم أنفسهم ببرمجتها لتقوم بمهام وضيعة المستوى. وفي بعض الحالات، يقوم الجنود ببناء علاقات قوية مع الروبوتات التي تقوم بأعمال خطرة، لدرجة أنّ هؤلاء الجنود يقيمون جنازات لتلك الروبوتات عند "تحطمها"!
ثالثًا، اختر بياناتك بحكمة. على مدار فترة طويلة كانت كثرة البيانات تعتبر شيئاً مفضلاً. ففي هذه الحالة يكون بمقدور الشركات أن تأخذ منها أكبر قدر ممكن ثم تقوم بإدخالها إلى خوارزميات متطورة لإنشاء نماذج تنبؤية تتسم بدرجة عالية من الدقة، إلا أنه بات من الواضح أنّ هذا النهج ليس نهجاً جيداً. وكما تشرح كاثي أونيل في كتابها "أسلحة الدمار الشامل" (Weapons of Math Destruction) فإننا في الغالب لا نفهم البيانات التي ندخلها إلى أنظمتنا، كما أنّ التحيز في انتقاء البيانات أصبح مشكلة كبيرة. وهناك مشكلة ذات صلة تتمثل في "فرط مطابقة" البيانات (Overfitting). ربما يبدو من المثير للإعجاب أن يكون لديك نموذج تبلغ دقته نسبة 99%، ولكن إذا لم يكن هذا النموذج قوياً وراسخاً بحيث يمكنه الثبات أمام الظروف المتغيرة، فقد يكون من الأفضل أن يكون لديك نموذج معدل دقته 70% ويكون أكثر بساطة.
وفي النهاية، مع تنفيذ النظام الأوروبي لحماية البيانات العامة (GDPR)، واحتمالية صدور تشريعات مماثلة في أماكن أخرى، صارت البيانات مسؤولية والتزاماً فضلاً عن كونها أصلاً من أصول المؤسسة. لذلك يتعين عليك أن تفكر في مصادر البيانات التي تستخدمها وأن تنشئ نماذج يمكن للبشر فهمها والتحقق منها.
وفي الختام، حوّل الموظفين البشريين إلى مهام ذات طبيعة اجتماعية يكون لمردودها قيمة أعلى. فمن الحقائق المتعلقة بالأتمتة والتي يتم تجاهلها غالباً هي حقيقة أنه بمجرد أن تقوم بأتمتة مهمة ما، فإنها تتحول إلى سلعة أساسية إلى حد كبير وتتحول القيمة إلى مكان آخر. ولذلك إذا كنت تبحث فقط عن استخدام التقنيات المعرفية لتحل محل العمالة البشرية وخفض التكاليف، فأنت على الأرجح تسلك المسار الخطأ.
يأتي أحد الأمثلة المثيرة للدهشة على هذا المبدأ من علم المواد ـ وهو مجال عالي التقنية. منذ عام مضى، كنت أتحدث إلى جيم وارين الذي يعمل ضمن "مبادرة جينوم للمواد" (Materials Genome Initiative) حول تلك الإمكانية المثيرة لتطبيق خوارزميات التعلم الآلي على أبحاث المواد. وقد أخبرني في الآونة الأخيرة أنّ هذا النهج أصبح بشكل متزايد محور أبحاث المواد.
ويمثل هذا تحولاً غير عادي في عام واحد. ولذلك هل سنتوقع أن نرى الكثير من علماء المواد وقد فقدوا وظائفهم وراحوا يبحثون عن وظائف وفرص عمل؟ من غير المحتمل. في الواقع، نظراً لأن الكثير من أعمال البحث الشاقة يتم الاستعانة في تنفيذها بالخوارزميات، فإنّ العلماء أنفسهم قادرون على التعاون بشكل أكثر فعالية. وكما أخبرني جورج كرابتري، مدير "المركز المشترك لبحوث تخزين الطاقة" (Joint Center for Energy Storage Research)، والذي كان رائداً في مجال أتمتة أبحاث المواد: "لقد اعتدنا على التقدم بسرعة في نشر الكتب والمطبوعات، أما الآن فإننا نتقدم بسرعة فائقة بحيث ننتظر إحراز تقدم أثناء احتساء فنجان القهوة".
وهذا هو المدخل لفهم كيفية تنفيذ التقنيات المعرفية بفعالية من أجل نجاح مشروع الذكاء الاصطناعي. فالروبوتات لا تأخذ وظائفنا وتحرمنا منها، إنما هي تتولى المهام نيابة عنا. وهذا يعني أننا سنشهد تحولاً في القيمة من المهارات المعرفية إلى المهارات الاجتماعية على نحو متزايد. كما أنّ مستقبل الذكاء الاصطناعي ـ حسبما يبدو ـ سوف يصطبغ بالطابع الإنساني إلى أبعد مدى.
اقرأ أيضاً: