تختلف وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) اليوم كثيراً عما كانت عليه في ستينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من اعتقاد البعض أنّ تلك الفترة شكّلت عصر الوكالة الذهبي، إلاّ أنّنا من جهتنا نرى أنّ الابتكار والتأثير اللذين بلغتهما ناسا اليوم أعظم بكثير.
منذ برنامج أبولو، تواجه ناسا تراجعاً في التمويل ومنافسة متزايدة من دول أخرى على قيادة الفضاء. كما خضعت الوكالة لإعادة هيكلة جذرية لبيئتها التشغيلية بعد غزو التجارة لهذا القطاع. وبالتالي، أُجبرت الوكالة على تغيير أساليبها في التفكير والعمل.
وعلى مدى العقود القليلة الماضية، لم تقدم ناسا للمجتمع تقنيات مهمة فحسب، مثل أنظمة تنقية المياه، والبحث والإنقاذ الموجهين بالأقمار الصناعية وتقنية وقاية النظارات من الأشعة فوق البنفسجية، بل أجرت عملية تحول أيضاً لمنطق الهيمنة لديها ونموذج عملها. فانتقلت من نظام هرمي مغلق يطوّر تقنياته داخلياً، إلى منظمة ذات شبكة مفتوحة تحتضن الابتكار المفتوح والمرونة والتعاون.
تثبت عملية التجديد إمكانية إجراء تغيير جوهري داخل المؤسسة على الرغم من وجود عراقيل مثل القوانين التنظيمية والسياسة. وتقدم أيضاً نموذجاً على ما نسمّيه "المرونة الاستراتيجية" أو "الرشاقة الاستراتيجية" (strategic agility) التي تعني القدرة على التكيّف الفعال (والمستمر) لعمل المؤسسة وانخراطها في المنافسة. وليس ذلك أمر يحركه قائد واحد بل مجموعة رواد يدفعون المبادرات التي تحدث التغيير ببطء.
التحديات التي تواجهها ناسا
خلال برنامج أبولو وصل تمويل ناسا إلى أوجه، حين بلغ 4.5% من الموازنة الفيدرالية (5.250 مليون دولار) في العام 1966. غير أنّه بُعيد وصول أول بعثة إلى القمر في العام 1969، تراجعت ميزانية الوكالة لتصل اليوم إلى 0.5% فقط من الموازنة الفيدرالية.
وفي هذا الوقت، أصبحت طموحات الوكالة أكثر جرأة. فقانون الإطلاق الفضائي التجاري لعام 1984 (وتعديلاته عامي 1988 و2004) دعا المؤسسات الحكومية مثل ناسا إلى دعم تطوير الاستغلال التجاري للفضاء وتنميته. لم يحتّم ذلك فقط اعتماد طريقة أكثر تعاونية في العمل، بل أيضاً جعل الوكالة تميّز بين مهامها. فمع بدء مؤسسات الفضاء التجارية إطلاق نشاطات مدار أرضي أكثر انخفاضاً (حتى ارتفاع 2,000 كيلومتر عن الأرض)، كان على ناسا أن توجّه جهودها نحو استكشاف الفضاء السحيق، حيث أطلقت المزيد من البعثات المأهولة، وبنت منشآت دائمة على القمر كبوابة لبعثات إلى المريخ وأبعد منه.
وجاء ظهور الفضاء التجاري بالتوزاي مع التطور التكنولوجي المتسارع. لذلك لم يكن ممكناً لمؤسسة واحدة أن تطور بمفردها كل التقنيات الضرورية لارتياد ناجح للفضاء لا سيما البعثات المأهولة التي تذهب أبعد من المدار الأرضي المنخفض. وبذلك، كان على ناسا أن تنفتح أكثر نحو الخارج وتعتمد على الشبكة الأوسع لتطوير وحيازة التقنيات التي تحتاجها.
وبالتوازي مع ذلك، وسّعت الدول المتنافسة جهودها لاستكشاف الفضاء. فأصبح هذا القطاع عالمياً ومتعدد الأوجه يتعدد فيه أصحاب المصالح وتحصد الأنشطة التجارية حصة الأسد من قيمته. فثلاثة أرباع عائدات قطاع الفضاء العالمي التي تبلغ 350 مليار دولار، تأتي من منتجات تجارية وخدمات وبنى تحتية وقطاعات دعم. لذلك، استدعى تحقيق الاستدامة في ناسا وقيادة القطاع الفضائي في الولايات المتحدة، اعتماد طريقة جديدة للتنظيم وخوض المنافسة.
التكيّف مع التغيير
يتطلب تجديد ناسا عملية تطوير من ثلاث مراحل تركز كل واحدة منها على تحقيق أهداف مختلفة، وتعتمد استراتيجيات تكنولوجية وقيم ثقافية خاصة وأساليب معينة للعمل مع أطراف خارجية.
النموذج التقليدي (من ستينيات القرن الماضي حتى التسعينيات): في بداياتها قامت ناسا بدور المتعهد الرئيسي للتقنيات الفضائية والمستهلك الحصري لها، وشكل ذلك نموذجاً ناجحاً لثلاثة أسباب. أولاً: التكنولوجيا الرائدة التي احتاجتها ناسا لم تكن متوفرة في السوق، لذلك، كان عليها أن تطورها من الصفر بالتعاقد مع متخصصين. ثانياً: تطلبت الحرب الباردة والسباق الفضائي من ناسا أن تتحكم بالتكنولوجيا الناتجة عنهما بدلاً من التكنولوجيا التي تطورها وتوزعها في السوق شركات متعاقدة. ثالثاً: الإرث العسكري لناسا، وأوسع من ذلك: إنّ عمليات إمداد الوكالات الحكومية في ذلك الوقت، جعلت ناسا تعمل وفق عقود تكلفة إضافية وتمتلك التكنولوجيا الناتجة عنها.
لنأخذ برنامج أبولو في ستينيات القرن الماضي كمثال. أعطت ناسا مواصفات مفصلة للشركات المتعاقدة (مثل نورث أميركان أفييشن North American Aviation التي بنت وحدة القيادة والخدمة في مركبة أبولو وشركة فورد للفضاء Ford Aerospace التي بنت وحدة التحكم في البعثة) التي تحدد ما الذي يجب فعله وكيف. وتحملت ناسا الممولة كلياً من الحكومة، كافة التكاليف وتحولت إلى مالكة التكنولوجيا التي طورتها هذه الشركات.
في هذا النموذج، كانت المقاربة العلائقية تقوم على السلطة الموضعية والهرمية. فركزت ناسا على تطوير المواصفات الهندسية المحددة ومراقبتها. وكان لمهندسي ناسا حيزاً كبيراً من التحكم بعمل الشركات المتعاقدة. وركزت استراتيجيات التكنولوجيا على استثمارات تجذبها الوكالة وعلى تحكم وثيق بالتقنيات المطورة داخلياً. وكان هناك شعور بالتفوق التكنولوجي وبالاستثنائية اللذين كانا وليدة جهود الحكومة لجذب ألمع العلماء.
النموذج الانتقالي (من عام 1993 حتى 2006): انطلقت هذه المرحلة مع مشروع محطة الفضاء الدولية (International Space ISS Station). ففي العام 1993، تلقت ناسا توجيهاً من البيت الأبيض للتعاون مع دول أخرى لتصميم وبناء محطة الفضاء الدولية. وشاركت وكالات عدة في المشروع (وكالة الفضاء الأوروبية European Space Agency ES، ووكالة استكشاف الفضاء اليابانية Japan Aerospace Exploration Agency JAX، ووكالة الفضاء الكندية Canadian Space Agency CSA، ووكالة الفضاء الروسية الفيدرالية روسكوسموس Roscosmos).
كانت محطة الفضاء الدولية خطوة ضرورية لتحقيق الهدف الكبير لإطلاق بعثات مأهولة إلى الفضاء السحيق، مثل استكشاف المريخ، وهو أحد الطموحات الرئيسية لناسا منذ عقود. فالرحلة المأهولة إلى المريخ ومنه، تستغرق 21 شهراً وفقاً لعوامل عدة. فناسا تحتاج أن تفهم ما الذي قد يحدث للجسم البشري أثناء البعثات الطويلة في الفضاء، ومن شأن محطة الفضاء الدولية أن تقدم طريقة لجمع هذه المعرفة من خلال وضع رواد فضاء في المحطة لفترات طويلة. غير أنّ محطة الفضاء الدولية قد تكون مكلفة جداً إذا كان على دولة واحدة أن تبنيها لوحدها.
تعلّمت ناسا خلال هذه المرحلة الانتقالية كيف تعمل ضمن مجموعة من الشركاء وألاّ تكون هي الجهة المسيطرة في علاقة المورد/المشتري. وتطلب ذلك تغييرات في القيم الثقافية والمقاربات العلائقية والاستراتيجيات الخاصة بالتكنولوجيا.
على صعيد الثقافة، بقي الشعور بالتفوق التكنولوجي الذي تطور خلال برنامج أبولو سائداً ولكن مع فارق أنّ عدد اللاعبين الذين يملكون ثقافة وتكنولوجيا ونموذج عمل خاصة بهم، ازداد. وكان على ناسا أن تتعلم كيفية التعاون مع هؤلاء اللاعبين. بالإضافة إلى ذلك، تطور لدى الوكالة وعي أكبر تجاه الكلفة، فبدأ الرأي العام الأميركي والسياسيين التساؤل عن كمية الموارد التي تحتاجها الوكالة. وعلى عكس فترة أبولو، حين لم تكن الموارد عقبة في وجه الجهود للفوز في سباق الفضاء، كان على ناسا في الفترة الجديدة أن تنجز مهامها بأكبر فعالية ممكنة وأن تكون أكثر وضوحاً حيال القيمة الإضافية التي تقدمها للمجتمع. واستثمرت أكثر في التواصل الخارجي.
على صعيد العلاقات مع اللاعبين الآخرين، كان ترتيب التسلسل الهرمي في إطار النموذج التقليدي، يستوعب مجموعة من المؤسسات الحكومية الدولية. وقد تفاوضت ناسا مع شبكة من وكالات الفضاء الدولية ونسقت معها وقادتها من أجل إنجاز واحدة من أكثر المهام تعقيداً للبشرية، وهي تصميم وبناء محطة الفضاء الدولية. وتم توزيع العمل حيث، قاد مدراء برنامج المحطة في ناسا الجهود على المستوى التشغيلي وعملوا مع نظرائهم الدوليين لتنفيذ البرنامج. وكان ثمة 15 مركزاً حول العالم تركز على محطة الفضاء الدولية. وفي الولايات المتحدة، جرى الجزء الأكبر من التدريب الخاص بالمحطة وإدارة برنامجها في مركز جونسون للفضاء في هيوستن.
وتطورت استراتيجيات التكنولوجيا في ناسا للاستفادة قدر الإمكان من استثمارات الدول الشريكة ومشاركة المسؤولية. وعملت الوكالة مع شركائها على تطوير واجهات تقنية مشتركة ومعايير وبروتوكولات مشتركة وتعلم كيفية العمل في إطار شراكات بين قطاعين عامين.
نموذج الشبكة (منذ 2006 حتى اليوم): بدأ نموذج الشبكة مع برنامج خدمات إعادة الإمداد التجارية (Commercial Resupply Services) الذي انطلق في العام 2006 لنقل الإمدادات إلى محطة الفضاء الدولية بعد إحالة المكوك الفضائي إلى التقاعد. واضطر تقاعد المكوك الفضائي، ناسا للعثور على طرق أخرى لإعادة إمداد محطة الفضاء الدولية، وكان من الواجب أن تكون هذه الطرق موثوقة وأقل كلفة من حيث الموارد من المكوك الفضائي. إنّ هذا الأمر بالإضافة إلى عناصر أخرى من بينها ضغوط الموازنة واهتمام الحكومة بتعزيز الاستغلال التجاري للفضاء والخبرات التجارية المتنامية في الفضاء، قادت ناسا إلى البحث عن شركاء تجاريين مناسبين.
أرادت ناسا استخدام جزء من ميزانيتها ليس لشراء الخدمات التي تحتاجها فحسب مثل إعادة إمداد المحطة الدولية، بل لتحفيز تنمية الفضاء التجاري. وبحثت ناسا عن شركاء خارجيين لإدراكها أنّ الخبرة موجودة اليوم في السوق المفتوحة لتقديم قدرات متطورة بكلفة أقل مقارنة بالكلفة التي كانت ستتحملها لو أنّ ناسا هي التي طورتها. وفي العام 2008، منحت ناسا عقوداً لسبيس إكس (Space X) وأوربيتال ساينسيز (Orbital Sciences) لنقل الإمدادات إلى محطة الفضاء الدولية. ونقلت الأولى أول حمولة عام 2012 والثانية عام 2013.
غيّر هذا النموذج استراتيجيات ناسا التكنولوجية. فأصبحت الآن تشمل عقوداً محددة الأسعار ضمن شراكات بين القطاعين الخاص والعام، حيث لا تملك ناسا حصرياً التكنولوجيا الناتجة. ويمكن للشركاء التجاريين أن يبيعوا خدماتهم وتقنياتهم لعملاء آخرين. وفي هذه الحالة يتم تحمل التكاليف بشكل مشترك وتدفع ناسا ثمن الإنجازات المحققة. وبدلاً من تقديم المواصفات المفصلة لما يجب إنجازه وكيفية تحقيق ذلك، تحدد ناسا الأهداف العالية المستوى (ما الذي يجب إنجازه)، تاركة الكيفية للشركاء التجاريين. ويمكن للمبتكرين عندها استغلال هذه التقنيات تجارياً في المكان الذي يرونه مناسباً، بدلاً من دعم تطوير تقنيات الفضاء وتعزيز قيمة القطاع بشكل عام.
علّم برنامج إعادة الإمداد التجاري ناسا كيفية العمل بشكل فعال مع القطاع التجاري وإدارة الشركات المستمرة بين القطاعين العام والخاص. وقاد ذلك على صعيد الثقافة، الوكالة إلى اعتماد مقاربة أكثر تقدمية تعترف بالقدرات الإبداعية للسوق. كما عزز التعامل مع اللاعبين التجاريين الوعي التجاري لدى ناسا، وبمعنى آخر، سمح بالتركيز على إنجاز الأمور بأكبر فعالية ممكنة وإدراك أهمية التكاليف الخاصة بأية أنشطة وهو ما يختلف كثيراً عن تخصيص موارد لا متناهية لبرنامج أبولو.
وتم تأسيس مكاتب جديدة مثل برنامج الطاقم التجاري والشحن داخل ناسا لإدارة الشراكات التجارية وتعزيزها. واعتمد القادة الذين يديرون هذه الشراكات عقلية تقوم على اعتبار ناسا أحد الأطراف العديدة المشاركة في تطوير تقنية الفضاء وأيّدوا إرساء هيكلية هندسية منفتحة تسهّل التعاون التجاري.
في هذا النموذج المعتمد على الشبكة، احتضنت ناسا الإبتكار المفتوح. واليوم تعرض الوكالة تحديات الابتكار على الإنترنت في إطار مسابقات مفتوحة وحلول تعتمد المصادر والحلول الجماعية كامتداد لجهود الابتكار الداخلية. ومن بين المبادرات الناجحة مسابقة لتصميم قفازات مضغوطة إلا أنها مرنة لرواد الفضاء، ومسابقة أخرى لقياس الضغط على المواد المستخدمة في الفضاء مثل أشرطة كيفلار (Kevlar) وأفضل الأساليب لتوقع أي توهجات شمسية مدمرة محتملة.
وبناء على التوجيه الأخير الذي طلبت فيها الحكومة من ناسا إعادة البعثات المأهولة إلى القمر وأبعد منه، تصبح القدرات الجديدة للوكالة وبنيتها أكثر أهمية. فناسا تستطيع اليوم استخدام الابتكارات متى ما ظهرت ضمن شبكاتها، بما يتيح لها تحقيق أهدافها مثل استكشاف الفضاء السحيق، والبحث عن حياة خارج الأرض، والقيام بالرحلة المأهولة إلى المريخ.