تستلزم مباشرة الأعمال المستدامة في الشركات تدخل مجالس إداراتها، حيث تشير الأدلة إلى أن الاستدامة باتت على جداول أعمال مجالس الإدارة بصورة متزايدة. ولدى العديد من أعضاء مجالس الإدارة اليوم النظرة الصحيحة حيال الاستدامة، غير أن ثمة فجوة كبيرة بين تلك التطلعات وبين قدرة تلك المجالس والشركات على إنجاز هذه التطلعات.
وقد أجرينا مقابلات مع 25 مديراً غير تنفيذي من ذوي الخبرة في القارة الأوروبية، يمثلون 50 شركة من كبرى الشركات المعروفة، بهدف الحصول على فهم أفضل لمدى هذه الفجوة وتواتر المناقشات المتصلة بالاستدامة ضمن اجتماعات مجلس الإدارة وعمقها، والذين قدموا بدورهم ملاحظات صريحة ومثيرة للاهتمام في مقابل وعدنا بعدم الكشف عن هوياتهم.
وكان من الطبيعي مواجهتنا لطيف واسع من المواقف حيال تلك المسألة يبدأ بالشك في أهمية المعايير المتعلقة بالقضايا البيئية والاجتماعية والإدارية وصولاً إلى الإيمان الشديد بها. غير أنه عندما قررنا إلقاء نظرة معمّقة، اكتشفنا وجود خمسة أنماط تحدد طريقة تعاطي أعضاء مجلس الإدارة مع موضوع الاستدامة. وقمنا بدورنا بمحاولة تحديد تلك الأنماط، مع قيامنا في الوقت ذاته بتحديد استراتيجيات تساعد المدراء على التغلب على مقاومة أعضاء مجلس الإدارة للمعايير المتعلقة بالقضايا البيئة والاجتماعية والإدارية.
المنكرون
المنكرون هم أعضاء مجلس الإدارة، ممن يرون أن الاستدامة ليست سوى كلمة رنانة أو بدعة. وموضوع الاستدامة لدى الشركات التي يشكّل فيها المنكرون القوة المهيمنة موضوع لا يتجاوز الصفحة (بأي حال من الأحوال) ضمن تقريرها السنوي. ولا تكون هذه العداوة للاستدامة واضحة دائماً، على اعتبار أن معاداة الاستدامة في أيامنا هذه تعد أمراً غير مقبول إلى حد بعيد. كما قد لا يكون لديهم في الواقع اطلاع كافٍ على القضايا البيئية والاجتماعية.
إذ لخص أحد المدراء الذين قابلناهم موقف شركته من الاستدامة بقوله: إنه "ذي نهج تكنوقراطي" معترفاً في الوقت نفسه أن الشركة "مدرجة ضمن مرتبة أعلى من ذلك بكثير في مؤشر "داو جونز للاستدامة" (DJSI) مقارنةً بما تستحق أن تكون عليه"، ويعود السبب في ذلك كما يقول إلى "مهارتنا على ما يبدو في ملء الاستبيان المؤلف من 300 صفحة الخاص بذلك".
ولدى المنكرين براعة في "ادعاء الصداقة مع البيئة" مستخدمين عمليات التواصل الخاصة بالشركة أو أقسام العلاقات العامة فيها لتوصيل الفوائد البيئية التي تحققها الشركة بشكل مبالغ فيه، أو التقليل من أضرار منتجات الشركة وخدماتها على البيئة.
التغلب على الإنكار.
ومن الضروري هنا محاولة مخاطبة المنكرين بالطريقة المألوفة لهم، سواء أكنت تعمل في مجلس إدارة يتألف منهم، أم كنت تقوم فقط بتقديم التقارير إليهم. حاول أن تتحدث عن الاستدامة، حديثاً غير مباشر إذا لزم الأمر، مستخدماً مفاهيم واقعية محددة، مثل أنها تقلل التكلفة، أو توفر فرصة عمل، أو أنها مطلوبة من المستخدمين، أو أنها قد تعرّض الشركة للخطر. وتجنّب استخدام مفاهيم مجردة مثل "كوكب الأرض" أو "الأجيال القادمة".
واختر هذه اللحظات بحكمة، ولا تثر القضية أبداً في أوقات الأزمات، كما أن عليك التحلي بالصبر إلى حد بعيد. وقد أجمعت عينة المدراء التي تحدثنا معها على أن المحادثات الفردية حول الاستدامة كانت أفضل من التحدث إلى مجلس الإدارة بشكل جماعي.
العنيدون
أما بالنسبة لأعضاء مجلس الإدارة العنيدين، فتعتبر الاستدامة أحد العوامل التي تؤثر على أعمالهم، غير أنهم يميلون إلى التقليل من أهميتها الاستراتيجية. كيف يمكن التقليل من التكاليف؟ هل هناك فرص في السوق؟ ويسود أعضاء مجلس الإدارة العنيدين بشكل خاص في المؤسسات التي لديها "جانب مظلم" فيما يتعلق بالاستدامة، كما في حالة شركات النفط والغاز والنقل وتصنيع الحلوى والكيماويات الزراعية التي تولي كلها اهتماماً كبيراً لا غرابة فيه للأثر البيئي والبشري لعملياتها، كما هو الحال مع الشركات التي تشكل قضيتا الصحة والسلامة مصدري قلق كبيرين لها.
ويميل المدراء ذوو التفكير العنيد إلى إثارة اعتبارات أخلاقية معقدة للغاية لدعم عدم قدرتهم على القيام بشيء، على غرار العبارة التي قالها أحد من قابلناهم: "من نحن لنقول إن الغابات المطيرة هي غابات مطيرة، وإن رخاء السكان المحليين يأتي من زيت النخيل؟".
إقناع العنيدين.
ومن جديد، يعتبر من الضروري محادثة أعضاء مجالس الإدارة العنيدين باستخدام اللغة المألوفة لديهم، حيث يجب أن يتم تشجيعهم على دفع شركتهم كي تكون "الأفضل في فئتها" أو اختيار مسار أكثر قبولاً من الناحية الأخلاقية غير بعيد جداً عن الممارسة الحالية. ونقترح تعيين مدير مخصص للاستدامة أو مدراء إضافيين غير تنفيذيين من صناعات أخرى لإثراء التنوع الفكري.
كما يجب البدء بالمجالات التي تكون فيها الأمثلة حول القضية واضحة والنتائج ملموسة. ويجب عليك النظر في جعل الاستدامة جزءاً من أعمال لجنة المخاطر أو لجنة الاستراتيجية لإعطائها المزيد من الأهمية في أعمال الشركة. ولكن من المهم أيضاً أن تنال الأفكار الناتجة بعض الاهتمام من كامل أعضاء المجلس.
السطحيون
يكون لأعضاء مجلس الإدارة السطحيين معرفة بالقضية، غير أنهم غالباً ما يكونون خائفين من تولي زمام المبادرة، وقد يكونون أكثر اهتماماً بأن يُنظر إليهم على أنهم يقومون بالعمل الصحيح أكثر من القيام به فعلياً. ويكون لدى أعضاء مجلس الإدارة السطحيين فهم ضحل حول الحاجة إلى الاستدامة، حيث تدور المحادثات حول الاستدامة في حلقة مفرغة، بدلاً من أن تجري في السياق التقليدي لتكون النتيجة في كثير من الأحيان مراوحة مجلس الإدارة في مكانه بدل قيامه بالفحص النافي للجهالة.
ويعتبر أسوأ أنواع مجالس الإدارة هي تلك التي تحاول الترويج لنفسها على أنها تقوم بعمل مميز في المجال البيئي، إذ إنه من خلال تقديمها تلك الخطابات، فإنها تشجع المدراء التنفيذيين على أداء الأمر ذاته وتفشل في وضع الإطار الإستراتيجي التنفيذي اللازم لاتخاذ إجراءات حقيقية.
تحويل النوايا الحسنة إلى نتائج حسنة
وتتمثل طريقة التعامل مع أعضاء مجلس الإدارة هؤلاء في اللعب على حسن نواياهم، بمعنى آخر، تقديم الاقتراحات الإيجابية واختيارها بحكمة على اعتبار أنهم لا يعرفون في الغالب من أين يبدؤون. قم بعزل القضايا التي هي قريبة من مهمة المؤسسة، وقم بالدعوة إلى إنشاء لجنة مخصصة بالاستدامة، ستشكل بدورها مساحة انتقالية يمكن لأعضاء مجلس الإدارة فيها ذكر القضايا واقتراح إجراءات ملموسة لكي يقوم كامل أعضاء المجلس بالتصديق عليها.
القانعون
لسوء الحظ، لم يقم العديد من متبني المبادرات البيئة الأوائل بآخر التطورات المتصلة بمجال الاستدامة وذلك رغم حبهم لتقارير المسؤولية الاجتماعية للشركات، وخطوط المنتجات الصديقة للبيئة، وسلاسل التوريد المسؤولة، ويستغل أعضاء مجلس الإدارة المنتمين إلى هذه الفئة انتصاراتهم السابقة في مجال الاستدامة لإنهاء أي محادثة حالية حولها. كما أنهم يقومون دائماً بوضع الممارسات الجيدة كحجر عثرة أمام الممارسات الأفضل. الأمر الذي يتسبب في قيامهم بتصرفات أسوأ حتى من تلك التي يقوم بها أعضاء مجلس الإدارة السطحيون.
تحفيز أعضاء مجلس الإدارة القانعين
عند التعامل مع أعضاء مجالس الإدارات القانعين، عليك التصرف وفقاً لتعبير أحد المدراء الذي قال: "لا تتحدث بالسوء عن أشخاص أو سياسات أو قرارات حصلت على مدار السنوات العشرين الماضية". اعترف بالنجاحات السابقة، مع تسليط الضوء على أوجه القصور الحالية، وابحث عن مدراء منفتحي التفكير، وأنشئ التحالفات. وحاول دفع النقاش إلى الأمام من خلال التركيز على الإجراءات الصغيرة، بدلاً من إجراء مراجعة استراتيجية شاملة. وإذا كنت تستقطب مديراً تنفيذياً جديداً، فجرب وضع شروط خاصة متصلة بمجال الاستدامة في مهامه الوظيفية.
المؤمنون الحقيقيون
يتميز أعضاء مجالس الإدارة هؤلاء بطريقة فهمهم لمصطلح "الاستدامة"، حيث يرون أن الجدوى الاقتصادية طويلة الأجل لمؤسستهم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بذلك وتعتمد على المسؤولية الاجتماعية والبيئية.
كما يقوم المؤمنون الحقيقيون بإجراء جرد دقيق للفوائد التجارية والعيوب مع نهج إداري طويل الأجل. فضلاً عن معرفتهم بالتغييرات الأساسية اللازمة لكي تصبح الشواغل البيئية والبشرية المحرك الفطري للشركة، وأمراً متكاملاً بعمق في استراتيجيتها.
وكما ذكر أحد من قابلناهم ممن يعملون لدى مجلس إدارة مؤلف من مؤمنين حقيقيين: "لم تعد الاستدامة حول البيئة فحسب، إذ تطورت إلى نظرة أكثر شمولاً وأوسع نطاقاً يمكن أن نسميها خلق قيمة طويلة الأجل، حيث يكون السؤال المطروح دائماً هو: هل منتجاتنا ونماذج أعمالنا محمية مما يخبئه لنا المستقبل؟" ويدرك هؤلاء بشكل كبير أن الاستدامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأسئلة الأساسية لغاية الشركة، ومنتجات تقنية المعلومات الأساسية، ونماذج الأعمال والابتكار.
كما أن الشركات التي تتكون مجالس إداراتها من مؤمنين حقيقيين يحتمل أن يكون لديها: منتجات مستدامة (مثل "السندات الخضراء" أو الأجهزة الموفرة للطاقة)، وسلاسل توريد أخلاقية، وممارسات توظيف تتجاوز الحد الأدنى التشريعي، ومجلس "ذو خبرة" يضم قسم المسؤولية الاجتماعية للشركات، ويتم وضع الاستدامة كمعيار للتوظيف ولدفع أجور كبار المسؤولين التنفيذيين، ووجود مَرافق ذات طاقة مستدامة وانبعاثات الكربون منخفضة، ووجود التزام قوي لدمج الاستدامة في البحث والتطوير والابتكار.
ويحتاج المؤمنون الحقيقيون للنظر في أفضل طريقة للتعامل مع أعضاء مجلس الإدارة من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم الانجراف بعيداً جداً في دفع الانتباه إلى الاستدامة على حساب القيود الاقتصادية، وإن كان ذلك سيعطي الشركة منفعة من منظور طويل الأجل.
الفجوة بين الطموح والعمل
أبرزت مقابلاتنا العديد من المواقف المختلفة حيال الاستدامة، بين مجالس الإدارة، وبين أعضاء تلك المجالس. وبينما لدى بعض المدراء فهم قد يكون محدوداً لأهمية الاستدامة، فلدى البعض الآخر فهم أعمق وأشمل لمسؤولياتهم، حيث يعتقدون أنهم يفعلون ما يكفي، بينما يعمل البعض الآخر جاهداً لإحداث تأثير أكبر. وفي كلتا الحالتين، ومع نيل الاستدامة ثقلاً أكبر على الصعيد العالمي، ومع استمرار المستثمرين في مكافأة الشركات على قيامها بإدخال تحسينات حيال القضايا البيئة والاجتماعية والإدارية، نؤمن أنها ليست سوى مسألة وقت قبل أن يكتشف أعضاء مجلس الإدارة أن سد الفجوة بين التطلعات والعمل هو شرط واجب، مع كل الالتزامات والمسؤوليات المرافقة له.