تتزايد أعداد الشركات التي تدرك وتقر بأهمية وجود توازن ما بين عمل الإنسان وحياته الشخصية، على الأقل وفقاً لما تقوله السياسات الرسمية في هذه الشركات، فلماذا لا نشعر أنه تم إحراز الكثير من التقدم في هذا المجال؟ وكيف يمكن موازنة العمل والحياة الشخصية بالاعتماد على الثقافة المؤسسية؟
يعود سبب ذلك إلى أن هذه السياسات، ولسوء الحظ، تعتبر عديمة القيمة في غياب الثقافة الداعمة. إذ تظهر البحوث أن ثقافة الموازنة بين العمل والحياة الشخصية ضمن مؤسسة ما –أي جميع المعايير والتوقعات غير المدونة والمفهومة جيداً والمتعلقة بالطريقة التي يتعيّن على الناس العمل وفقها، وما يعنيه أن يكون الموظف موظفاً جيداً– تمارس نفوذاً هائلاً على السلوك، فالثقافة هي التي تحدد فعلياً حجم الهامش المتاح للأشخاص في التعامل مع المطالب المتعلقة بعملهم والأمور الأخرى التي لا تخص عملهم، وما إذا كانت سياسة المؤسسة تنطوي على مرونة في إدارة وقت العمل أم لا.
ترسيخ ثقافة مؤسسية تضمن التوازن بين العمل والحياة الشخصية
كيف يمكن للقادة في قطاع الأعمال ترسيخ ثقافة أفضل داخل مؤسساتهم تضمن التوازن بين العمل والحياة الشخصية للموظف؟ يبدو أن الأدوات المتاحة حالياً لتحقيق ذلك تتمثل في التواصل، والأهم منه تقديم المدراء التنفيذيين والمدراء الآخرين في المراتب الدنيا نموذجاً يحتذى من خلال سلوكهم. فعلى سبيل المثال، يعتقد ديف غولدبيرغ (Dave Goldberg)، الرئيس التنفيذي لـ"مؤسسة سيرفاي مونكي" (Servi Monkey Foundation)، أن خلق ثقافة ضمن الشركة تشجع الناس على عيش حياتهم بكل تجلياتها، أمر أساسي لتفوق المؤسسة في توظيف القادة والاحتفاظ بالأشخاص الموهوبين ضمن صفوفها، ويثبت كلامه هذا بمغادرته مكتبه كل يوم عند الساعة الخامسة والنصف مساء. أما سابين بارسونز (Sabine Parsons)، الرئيسة التنفيذية لشركة "بالو آلتو للبرمجيات" (Palo Alto Software)، فتبذل جهدها للتأكد من أن موظفيها يعلمون أنه بوسعهم إحضار أطفالهم إلى مقر الشركة في أي وقت يحتاجون فيه إلى ذلك. أما مدير شركة الكهرباء الفرنسية الذي عملت معه فإنه يستعمل أرفع 40 مديراً ضمن مؤسسته بمثابة مجموعة تجريبية رئيسية لتحقيق التوازن ما بين العمل والحياة الشخصية، بحيث يتأكد شخصياً من أنهم يطبّقون سياسة التوازن ما بين العمل والحياة الشخصية والتي وضعتها الشركة، كما أنه يجتمع معهم دورياً ليناقشهم حول أفضل السبل ليساعدوا على دعم هذه الرؤية القائمة على الموازنة بين العمل والحياة الشخصية للموظفين.
صحيح أن ذكر الأمثلة السابقة أمر سهل جداً ومثير، لكن المدهش في الأمر هو صعوبة تغيير الثقافة السائدة في مؤسسة حالية. فالأمر يحتاج إلى مستوى رفيع من العمل الدائم على طريقة التواصل وتقديم الجوائز وسلوك كبار المدراء التنفيذيين. فتوجيه كل هذه العناصر في الاتجاه الإيجابي ذاته، يتطلّب من وجهة نظري وجود رؤية للموازنة بين العمل والحياة الشخصية.
إن وجود رؤية للموازنة بين العمل والحياة الشخصية يعني قدرة المرء على تقديم وجهة نظر شاملة تجذب انتباه الناس وتوجههم في سلوكياتهم وقراراتهم وممارساتهم اليومية. إليكم فيما يلي رؤية للموازنة بين العمل والحياة الشخصية قد تكون مفيدة لكم: "أفضل المدراء في مؤسستنا هم الأفضل قدرة على إدارة طاقة فرقهم".
فالطاقة هي شيء نقرّ جميعاً بأنه مورد ثمين، وهو مورد قيّم فقط عند استخدامه، ومع ذلك لا يجب المبالغة في استغلال هذا المورد وينبغي ألا نهدره أيضاً. ففي أي مؤسسة، تعتبر الطاقة "المورد البشري" الأساسي الذي يجب توجيهه – فكل ذرة من ذرات هذه الطاقة هي بأهمية الموارد المالية، إن لم تكن أهم منها حتى.
اطرح هذه الرؤية للموازنة بين العمل والحياة الشخصية على المدراء لأنها تشكل طريقة دائمة لهم للتفكير في الأوضاع التي تتطلب منهم اتخاذ قرار يخص الموازنة بين العمل والحياة الشخصية: ما يجب عليهم موازنته ليس الرغبات المتناقضة لرب العمل الذي يرغب في الإنتاجية والموظف الذي يرغب في قضاء وقته بعيداً عن مكان العمل، وإنما تكون الموازنة بين وجهي العملة اللذين يرغب كلا الطرفين في الحصول عليهما: العمل الجيد المنجز اليوم، من خلال حرق الطاقة، والعمل الجيد المنجز غداً، من خلال الحفاظ على الطاقة وتجديد ما فُقِد منها.
اقرأ أيضاً: