يقول المثل الشائع: "تحتاج تربية طفل واحد إلى قرية كاملة"، وبعد التحديات المتنامية التي يواجهها أطفال اليوم، من تهديدات بيئية وصحية ومجتمعية وحتى ثقافية، قد تحتاج تربية طفل اليوم إلى تضافر جهود عالم بأكمله لضمان نمو الأطفال في بيئة آمنة وصحية. ومن هنا انطلقت فكرة مبادرة "ود" العالمية لتنمية الطفولة المبكرة التي تقودها هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة.
مبادرة ود هي مبادرة عالمية، وأطلقت الهيئة النسخة الثانية من مبادرة "ود" عام 2023 وتم اختيار وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي معالي ريم الهاشمي، لرئاسة المبادرة. وجاء الإعلان خلال حفل خاص أقيم في إطار مشاركة الهيئة في مؤتمر الأطراف (كوب 28)، وعبر هذه المبادرة، تجمع دولة الإمارات العربية المتحدة نُخبة من الخبراء والشركاء وصنّاع التغيير العالميين من مختلف التخصصات لقيادة جهود الابتكار والدعم لتحفيز التعاون عبر القطاعات من أجل قطاع تنمية الطفولة المبكرة.
3 تحديات رئيسية على طاولة مبادرة ود هذا العام
تستهدف المبادرة في كل نسخة عدداً من التحديات التي يواجهها الأطفال، سواء المرتبطة بالتربية، أو العلاقات مع دوائرهم المحيطة بهم، أو الصحة الجسدية والصحة النفسية، أو التكنولوجيا، أو قضايا المناخ، وغيرها، وتحاول عبر فعاليات المبادرة مناقشة التحديات مع الأطراف المعنية وإيجاد حلول فعالة لها، ومن ثم محاولة تنفيذها.
فعلى سبيل المثال، تتخذ مبادرة ود هذا العام 3 محاور رئيسية، يحمل كل منها عدداً من التحديات، ويناقش كل محور نخبة من الخبراء العالميين المتخصصين في الموضوعات المتعلقة بالمحور، وهذه المحاور هي:
1. التربية الفعّالة
يهدف المحور إلى دعم الآباء وتمكينهم في رحلتهم لتربية الأطفال الصغار من خلال تعزيز تطورهم تطوراً شمولياً، إذ يوفر دعماً شخصياً يمتد عبر كل مراحل نمو الطفل، إضافة إلى التعمق في تطوير السلوكيات الإيجابية للتربية وتقديم الرعاية مع إعطاء الأولوية لرفاهية الأطفال في البيئات الرقمية والواقعية.
ويواجه الأطفال في هذا الصدد عدداً من التحديات، أبرزها قضاء وقت أقل مع الوالدين في مقابل وقت أطول مع المربيات بسبب بيئات العمل غير المرنة، وأوقات العمل الطويلة، وعدم قدرة الوالدين على خلق التوازن في كثير من الأحيان، فعلى سبيل المثال، تفيد دراسات أجرتها هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة أن متوسط الوقت الذي قضاه أطفال أبوظبي مع المربيات في 2022 يتراوح بين 60% و70% من الأسبوع، كما بيّن مسح أجرته دائرة تنمية المجتمع أن 48% من المشاركين يقضون وقتاً قصيراً وقصيراً جداً مع أسرهم، ما قد يؤثر سلباً على سلوكياتهم وتطورهم المعرفي مقارنة بالأطفال الذين يقضون وقتاً أطول مع والديهم.
أحد التحديات الأخرى التي رصدتها المبادرة في هذا المحور هو السلوكيات السيئة من الأبوين تجاه الأطفال، خاصة خلال تعرضهم للضغوط، فعلى سبيل المثال، أفاد 44% من السكّان بأنهم صرخوا على أطفالهم عدة مرات أسبوعياً في عام 2020، ما قد يتسبب في ضرر يضاهي الآثار النفسية للعنف الجسدي، وفقاً لدراسة حديثة.
2. الثقافة والهوية
يهدف المحور الثاني إلى تمكين الأطفال من الحفاظ على الثقافة والهوية المتجذرة لدولة الإمارات العربية المتحدة والاحتفاء بها، إذ يؤكد أهمية تعزيز التماسك الاجتماعي وترسيخ الشعور بالانتماء لدى الأطفال، بالإضافة إلى التركيز على القيم المشتركة، وتقبّل التنوّع الثقافي، وتعزيز هوية دولة الإمارات العربية المتحدة على نطاق عالمي، ولا سيّما أن المبادرة استعانت بإحصائية تفيد بأن نسبة تتراوح من 17% إلى 19% من الأطفال في دولة الإمارات واجهوا معاملة مختلفة بسبب جنسيتهم في 2019، على سبيل المثال.
3. المدن المستدامة والصديقة للأسرة
يهدف المحور الثالث إلى إحداث نقلة نوعية في النهج المتّبع في عملية التخطيط والتصميم الحضري، من خلال وضع الأطفال في قلب هذه العملية، وبالتالي تعزيز التنمية الصحية وتعزيز التماسك الاجتماعي، إذ يؤكد هذا المحور أهمية ربط الأطفال بالطبيعة، ودمج التكنولوجيا دمجاً متناغماً في البيئة، وغرس عادات مستدامة لتقليل انبعاثات الكربون، وبناء القدرة على التكيف مع التغير المناخي.
ويتعدّى التخطيط الحضري الملائم للطفل، تصميم الملاعب أو المرافق الترفيهية والحدائق، إلى تطوير بنية تحتية متكاملة، وشبكة من الشوارع، ووسائل نقل مستقلة، ومساحات طبيعية في النسيج الحضري، ليتمكن الأطفال من التجول بحرية وأمان.
أما في المدن التقليدية، فتزيد نسبة التلوث، وتصبح قدرة الأطفال على الحركة بحرية محدودة، فعلى سبيل المثال، يتعرض الأطفال لمستويات عالية من التلوث، إذ يبلغ تركيز الجسيمات الدقيقة المعروفة بـ (PM2.5) حالياً 18 ضعف القيمة التوجيهية السنوية لمنظمة الصحة العالمية لجودة الهواء، كما أن 17% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عاماً عانوا السمنة المفرطة في دولة الإمارات عام 2020، كما كانت دراسة سابقة قد رصدت أن 9% فقط من الأطفال في أبوظبي يذهبون إلى المدرسة سيراً على الأقدام أو بالدراجة.
كيف ستعالج مبادرة ود هذه التحديات الثلاثة؟
ترتكز المبادرة التي ترأسها، وزيرة دولة لشؤون التعاون الدولي في دولة الإمارات العربية المتحدة، ريم الهاشمي، على أربعة ركائز أساسية لتحقيق أهدافها، وهي خلق المعرفة ونشرها، وتحفيز الابتكار، وتعزيز التواصل، ومجهودات التأثير على صناع القرار.
1. خلق المعرفة ونشرها
تعمد المبادرة إلى جمع البيانات والمعلومات حول الموضوعات المطروحة، إذ إن تحسين عملية جمع البيانات ونشرها عبر مختلف مستويات المنظومة يمكن أن يسهم في تعزيز قطاع تنمية الطفولة المبكرة بأكمله، لذا تخصص مبادرة ود جهودها لتهيئة الظروف المناسبة للتطوير المشترك للمعرفة من أجل التأثير عبر مختلف القطاعات.
وعملت المبادرة على إنشاء مركز معرفي يسعى إلى تنظيم وتوليد تبادل للرؤى بين الخبراء والمعلمين وأصحاب المصلحة في المجتمع يمكن مشاركته عالمياً لكي تتسنى للجميع فرصة التعلم منه.
وتولي هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة أهمية كبيرة إلى توظيف البيانات لتحسين حياة الأطفال، إذ أطلقت برنامجها "منظومة البيانات الشاملة للأطفال" (Child Insights System)، الذي حصد جائزة الإمارات تبتكر 2022 ضمن فئة أفضل ابتكار في الخدمات الاجتماعية، والذي تهدف من خلاله إلى التأثير المباشر على حياة ما يزيد على 350,000 طفل إماراتي ومقيم في أبوظبي، من خلال فهم تحديات الطفولة المبكرة، وإيصالها إلى صناع السياسات لاتخاذ القرارات المناسبة بصورة استباقية وتحقيق رفاه الأطفال.
تركز المبادرة أيضاً على وضع الطفل في قلب عملية صنع القرار عبر عدد من الفعاليات مثل ورشة استكشافية للأطفال، وهي ورشة للتفكير التصميمي يجري خلالها جمع رؤى وبيانات من الأطفال وأولياء أمورهم حول التحديات والمتطلبات الحالية. وقد شارك في الورشة أكثر من 55 طفلاً أطلقوا العنان لخيالهم واستعرضوا قدراتهم على حل المشكلات لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية في العالم الحقيقي.
2. تحفيز الابتكار
تبدأ المرحلة التالية في مبادرة ود، التي تستمر قرابة عام، بمختبر الابتكار المخصص للتفكير التصميمي، والمفترض عقده في يناير/كانون الثاني 2024، وسيعمل المشاركون خلاله على مناقشة التحديات وابتكار الحلول وصياغة استراتيجيات عملية بقيادة نخبة من الخبراء العالميين.
فتضم المبادرة في محور التربية الفعالة، مؤسِّسة شركة تروي توبيا، تينا صويص من الأردن، ورئيس البرامج والتطوير في مركز الأبوة، بارك سين لوك من سنغافورة، والخبيرة في تنمية الطفولة المبكرة في هيئة الطفولة المبكرة، نانسي مرهب من الإمارات العربية المتحدة.
وفي محور الثقافة والهوية، سيتعاون عالم الأنثروبولوجيا والطبيب النفسي الاجتماعي في الشبكة الجامعية للخدمات الصحية والاجتماعية المتكاملة في مونتريال، صامويل فيسيري من كندا، ومؤسس مؤسسة بيكابوند (Peekabond) في أمستردام ورئيسها التنفيذي، أنيكي لاميرز من هولندا، والشريك في شركة بني وآل للثقافة، ريم المنصوري من الإمارات العربية المتحدة.
أما المحور الأخير المتعلق بالمدن المستدامة والصديقة للأسرة، فيشارك في وضع حلول لتحدياته، مؤسِّسة شركة سيتسز فور بلاي (Cities for Play) المهندسة المعمارية ناتاليا كريسياك من أستراليا، وأخصائية التصميم الحضري في دائرة البلديات والنقل، فاطمة العوضي من الإمارات العربية المتحدة، وعالمة الأنثروبولوجيا الحضرية والمديرة في مؤسسة غايل (Gehl)، صوفيا تشوف من الدنمارك.
ومن المقرر أن تخضع النماذج الأولية التي سيجري ابتكارها لمعايير شاملة للتقييم تشمل الابتكار وقابلية التوسع والأهمية الثقافية والتطبيق العملي والأسس القائمة على الأدلة، ثم ستخضع النتائج التي سيقرر اختيارها للتنفيذ والاختبار التجريبي، ليس داخل دولة الإمارات العربية المتحدة فحسب، ولكن أيضاً مع إمكانية التوسع والتأثير العالمي من خلال الشراكات الاستراتيجية.
أما المعرفة التي أنشئت على نحو مشترك نتيجة التعاون مع الخبراء، فستُشارك ضمن تقارير ورؤى على مدار العام في برنامج دعم سنوي لدفع عجلة التغيير الفعال في قطاع تنمية الطفولة المبكرة. وفي النهاية، سيعقد معرض للمخرجات، وهي فعالية مخصصة لعرض التقدم الملموس والمخرجات المؤثرة التي جرى تطويرها من خلال الجهود الجماعية للخبراء المتعددي التخصصات المشاركين في مبادرة ود.
فعلى سبيل المثال، نتيجة للنسخة الأولى من المبادرة، تعمل هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة، وبالشراكة مع جامعة نيويورك أبوظبي، على طرح مخرجين من ضمن سبعة مخرجات رئيسية طُورت بالتعاون مع 16 خبيراً محلياً ودولياً، وهما مختبر "التكنولوجيا من أجل الأطفال" الذي شمل 15,000 أسرة، و"دليل الإرشادات التوجيهية التكنولوجية" الذي يتناول التحديات التكنولوجية التي يواجهها الأطفال الصغار ومقدمو الرعاية.
3. تعزيز التواصل
تبني المبادرة حلقات تواصل بين أصحاب المصلحة، إذ عقدت مجموعات الابتكار المعرفي نحو 110 اجتماعات لفريق مجموعة الابتكار المعرفي، و35 جلسة لمجموعات الابتكار المعرفي، وأكثر من 60 مقابلة رسمية مع أصحاب المصلحة، و10 جلسات لنقل المعرفة بوصفها جزءاً من عملها الذي يهدف إلى إنشاء سلسلة من الحلول المبتكرة التي تعزز التنمية الشاملة والصحية لأطفال أبوظبي.
تركز كل مجموعة ابتكار معرفي على أحد المحاور الثلاثة لهذه النسخة (التربية الفعالة، والثقافة والهويّة، والمدن المستدامة)، ويتألف أعضاء مجموعة الابتكار المعرفي من خبراء عالميين من مؤسسات ذات شهرة عالمية، مثل مؤسسة غايل في الدنمارك، وهايبول في أستراليا، وشركة بيكابوند في هولندا، ومركز الأبوة في سنغافورة.
4. التأثير على السياسات: كوب 28 نموذجاً
تمتاز مبادرة ود العالمية لتنمية الطفولة المبكرة بما يؤهلها لكي تكون مساراً تنفيذياً لدعم قطاع تنمية الطفولة المبكرة في مؤتمر الأطراف (COP28)، وذلك من أجل مواصلة التأثير على السياسات ووجهات النظر، وحشد الدعم المالي، ودفع العمل النوعي للتخفيف من آثار التغير المناخي على الأطفال الصغار.
ونظمت هيئة أبوظبي عدداً من الجلسات في مركز وزارة التربية والتعليم تناولت خلالها عدداً من الموضوعات المهمة التي تتعلق بالتغير المناخي، مثل العلوم البيئية، وصنع السياسات، والتعليم الأخضر، والعادات الصحية، ورفاه الأطفال الصغار، والتخطيط الحضري، والتنمية. وعقدت هذه الجلسات بالتعاون مع نخبة من شركاء هيئة أبوظبي للطفولة المبكرة الاستراتيجيين، بما في ذلك مؤسسة كابيتا (Capita)، ومؤسسة آروب (ARUP) )، ومختبر الأطفال والمدن والعمل المناخي في مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة.
يحتاج الأطفال في جميع أنحاء العالم أكثر من أي وقت مضى إلى تضافر الجهود كافة لتحسين حياتهم ورفاههم، وحمايتهم من التحديات التي تحيط بهم، وستكون المعرفة والابتكار والتعاون نقاط الارتكاز لأي جهود فاعلة.