ماذا يحصل عندما تتحول مهنتك إلى هوية جديدة ملاصقة لشخصيتك؟

6 دقائق

كان من المنتظر أن يتجه إبراهيم*، وهو شريك في شركة استشارات قانونية تتخذ من بوسطن مقراً لها، إلى مكتبه، لكنه بدلاً من ذلك، كان مستلقياً على أرضية دورة المياه في منزله، مرتدياً ملابس النوم ولم يحلق شعر ذقنه بعد ودموعه تبلل المنشفة التي يحملها.

بدأ الأمر شيئاً فشيئاً، في أحد الاجتماعات التي عُقدت مع عميل على درجة كبيرة من الإلحاح، عندما تصاعدت فكرة في ذهنه مفادها "ما سبب اختياري هذا المجال أساساً؟" ومنذ تلك اللحظة، لاحظ إبراهيم أن نفاد صبره وسخطه وإحباطه إزاء وظيفته صار أكثر عمقاً، إلى أن أدرك دفعة واحدة أنه لم يجد السعادة أو الشعور بالرضا في عمله، وربما لم يحظ بهما قط.

وبالنسبة إلى شخص أسس فكرته برمتها حول نفسه على حياته المهنية، فقد تسببت هذه الأفكار لإبراهيم بأزمة وجودية، فما هي هويته إذا لم يكن محامياً رفيع المستوى؟ وهل أضاع الكثير من سنوات عمره هباء؟ وهل كان سيحظى بالمزيد من الأصدقاء وبعائلة أسعد حالاً لو أنه لم يقض كل هذه الليالي يعمل في المكتب؟

قصة إبراهيم ليست فريدة من نوعها. إذ إن الكثير من الأشخاص الذين يعملون في وظائف مليئة بالضغوط يجدون أنفسهم غير راضين عن حياتهم المهنية، على الرغم من عملهم الدؤوب طول حياتهم للوصول إلى الوظيفة الحالية التي يشغلونها. كرهك لوظيفتك هو أمر لذاته، لكن ماذا سيحدث إذا كنت تُمعن في الانتماء إلى عملك لدرجة أن كرهك لوظيفتك يعني كرهك لنفسك؟

يستخدم علماء النفس مصطلح "فرط الارتباط" لوصف الحالة التي تصبح فيها الحدود الفاصلة بين الأشخاص غير واضحة وتفقد فيها الهويات الفردية أهميتها. ويحول "فرط الارتباط" دون تطوير شعور مستقر ومستقل بالذات. أفرط إبراهيم - على غرار الكثير من الأشخاص الذين يعملون في وظائف مليئة بالضغوط - في الارتباط ليس مع شخص آخر، بل مع حياته المهنية.

وبصفتي عالم نفسي، فإنني متخصص في مشكلات الصحة النفسية المرتبطة بالمهن المليئة بالضغوط، حيث يحضر الأشخاص الذين يعانون من حالة إبراهيم إلى مكتبي كل يوم مراراً، ما اضطرني، في الواقع، إلى تأسيس شركة "أزيموث سايكولوجيكال" (Azimuth Psychological) للتركيز على تلبية احتياجاتهم. وقد أوقعت مجموعة معينة من الإنجازات الرفيعة واحتدام المنافسة وثقافة العمل المفرط الكثيرين في براثن فرط الارتباط بالوظيفة والاحتراق الوظيفي. وعلى مر السنوات، وجدنا أن هذه المشكلات تتفاعل بطرق معقدة مع هويات الأشخاص وشخصياتهم وعواطفهم لدرجة أن الأمر يتطلب في الغالب علاجاً نفسياً كاملاً للنجاح في معالجتها.

إذاً، ما خطب الوظائف المليئة بالضغوط الذي يجعلها تؤدي غالباً إلى مشكلات في الصحة النفسية مثل التي تعرض لها إبراهيم؟

ثقافة العمل في الكثير من المجالات المليئة بالضغوط تكافئ غالباً العمل لساعات أطول بالزيادات في الرواتب والمكانة والترقيات. وجد إبراهيم أن قضاء المزيد من الوقت في المكتب (أو التعلق بهاتفه الخاص بأعمال الشركة) كان يمثل الثمن الذي يجب أن يدفعه مقابل صعوده السريع في الشركة. لكن عندما تنشغل في أي نشاط مكثف طوال الغالبية العظمى من ساعات استيقاظك، غالباً ما سيصبح ذلك النشاط أكثر أهمية لهويتك، لا لشيء إلا لأنه أزاح الأنشطة والعلاقات الأخرى التي يمكن أن تحدد هويتك.

بعض الوظائف أو الإنجازات المهنية غالباً ما تحظى بتقدير كبير في عائلة المرء أو مجتمعه. كان والدا إبراهيم كلاهما محاميين، وفي حين أنهما لم يدفعاه بشكل صريح إلى امتهان المجال القانوني، إلا أنهما علّقا آمالاً عريضة على إنجازاته المهنية والمالية. وعندما يُنظر إلى النجاح المهني باعتباره الغاية القصوى في الحياة، يمكن أن يشعر الأشخاص بالانفصال عن عائلاتهم وأقرانهم إذا فشلوا في تحقيق مستوى معين من النجاح المهني (أو إذا اختاروا، ببساطة، عدم تحقيقه). يدفع هذا الخوف من الفشل والانعزال الأشخاص إلى جعل حياتهم تتمحور حول تحقيق ما هو متوقع منهم. لكن هذا التركيز الشديد والدافع القوي يرغم هوياتهم على أن تقترن، في نهاية المطاف، بعملهم.

عندما تقترن الوظائف المليئة بالضغوط بمقابل مادي كبير، يمكن أن يجد الأشخاص أنفسهم يدخلون غمار طبقة اجتماعية واقتصادية جديدة. لم يكن ما شق على إبراهيم، فجأة، أن يعيش بدونه يتمثل فحسب في المنزل والسيارات والعطلات والأجهزة الذكية، بل كان يتمثل في الأصدقاء وحفلات العشاء والحفلات الخيرية. تتأثر هوياتنا بشدة بالكيفية التي نقدم بها أنفسنا إلى الآخرين. عندما يكتسب شخص هويته بالتركيز على الصحة والإنجاز والتأثير، فإنه يربط نفسه بالوظيفة ذات الراتب المجزي التي حققت له هذه التطلعات.

وحتى بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يعانون من الاحتراق الوظيفي، فإن بناء المرء لهويته متمحورة حول حياته المهنية يعتبر خطوة محفوفة بالمخاطر. إذ إن شركات وقطاعات بأكملها تواجه صعوبات وتتعرض للإفلاس. ويمكن للتمييز القائم على أساس السن أن يجعل من الصعوبة بمكان لأولئك الأشخاص الذين يعتبرون في منتصف حياتهم المهنية أو في أواخرها أن يجدوا دوراً وظيفياً مناسباً في مجالهم عقب تسريحهم. وبصرف النظر عن الطريقة التي سيحدث بها الأمر، فإن الانفصال عن وظيفة تشكل أساس هويتك يمكن أن يؤدي إلى مشكلات أكبر مثل الاكتئاب والقلق وتعاطي المخدرات والعزلة.

إذاً، كيف تعرف ما إذا كانت هويتك قد أفرطت في الارتباط بحياتك المهنية؟ تتمثل الإجابة في دراسة الأسئلة التالية:

  1. ما مقدار تفكيرك في وظيفتك خارج المكتب؟ وهل تسيطر على عقلك الأفكار المتعلقة بالعمل بصورة متكررة؟ وهل من الصعب المشاركة في محادثات مع الآخرين لا تتعلق بعملك؟
  2. كيف تصف نفسك؟ وما المقدار الذي يرتبط بوظيفتك أو مسماك الوظيفي أو شركتك، من هذا الوصف؟ وهل ثمة سبل أخرى يمكن أن تصف بها نفسك؟ وما مدى السرعة التي تخبر بها أشخاصاً قابلتهم للتو بشأن وظيفتك؟
  3. أين تقضي معظم وقتك؟ وهل سبق لأي أحد أن اشتكى لك بأنك تقضي وقتاً أكثر من اللازم في المكتب؟
  4. هل لديك هوايات خارج العمل لا تتضمن بشكل مباشر المهارات والقدرات المتعلقة بالعمل؟ وهل تتمتع بالقدرة على قضاء وقتك باستمرار في تدريب الأجزاء الأخرى من دماغك؟
  5. ما الشعور الذي سيعتريك إذا لم يعد بإمكانك الاستمرار في مهنتك؟ وما مدى الحزن الذي سيسببه لك ذلك؟

إذا دفعتك هذه الأسئلة إلى القلق حيال درجة تأثير وظيفتك على هويتك، فثمة أشياء يمكنك القيام بها للبدء في تغيير هذا الوضع. ويمكنك القيام بهذه الأشياء بمفردك أو بمساعدة معالج نفسي يتفهم الصعوبات التي يواجهها الأشخاص الذين يعملون في وظائف مليئة بالضغوط.

إتاحة قدر من الوقت لنفسك. قم بتفويض بعض المهام في العمل لتتيح لنفسك قدراً من الوقت، ومن الأهمية بمكان أن تشغل هذا الوقت بأنشطة ليست ذات صلة بالعمل. يمكن أن يعني ذلك الاعتماد بشكل أكبر على زملائك أو تعيين مساعد فعلي أو طلب متدرب أو زميل إضافي للمساعدة في إنجاز المهام. ويتطلب التفويض الفعال التخلي عن بعض السيطرة على كيفية أداء العمل بالضبط، والذي يعتبر في حد ذاته عملية صحية في التواصل والقبول.

ابدأ بأشياء صغيرة. ابدأ، بالنسبة إلى أنشطتك الجديدة خارج العمل، بأشياء صغيرة وجرب بعض الهوايات التي كانت تستهويك. ولا يجب عليك الالتزام بأي شيء طويل الأجل، فالفكرة تتمثل في بدء استكشاف أشياء جديدة يمكن أن ترغب في إدماجها في حياتك وهويتك. على سبيل المثال، إذا أردت أن تمارس قدراً أكبر من التمارين الرياضية، لا تشترك في ماراثون، بل ابدأ ممارسة المشي إلى العمل أو الذهاب إلى الصالة الرياضية خلال فترة الغداء مرة أو مرتين في الأسبوع. من السهل الالتزام بالتغييرات الصغيرة مثل هذه الأنشطة، ويمكنها، بمرور الوقت، أن تسفر عن دورة إيجابية من التحسين والالتزام.

إعادة بناء شبكة علاقاتك. تواصل مع أصدقائك وعائلتك لإعادة الحيوية لأوساطك الاجتماعية. سينتهي بك المطاف بقضاء وقت ممتع وفي الوقت نفسه أيضاً بناء شبكة دعم لنفسك. يمكن حتى للتواصل عبر الرسائل النصية والبريد الإلكتروني والهاتف للتواصل مع الأشخاص الذين لم تتحدث معهم منذ فترة أن يساعد في تعزيز العلاقات. والأمر لا يتطلب الكثير، فقد أوضح بحث جديد حول الصداقات بين الكبار أن امتلاك المرء لثلاثة أصدقاء إلى خمسة أصدقاء مقربين يرتبط بأعلى مستويات الرضا عن الحياة.

حدد ما المهم بالنسبة إليك. أرسي مبادئك وقيمك وقم بمراجعتها. ما الأمور التي تعتبر أكثر أهمية بالنسبة إليك؟ فكّر في الأمور التي تهتم بشأنها في الحياة، ودع هذه الأولويات ترشدك صوب الخطوة المقبلة. وغالباً ما يستخدم المعالجون النفسيون عملية تسمى "توضيح القيم" لمساعدة طالبي الاستشارات على التفكير في الأمور الأكثر أهمية بالنسبة إليهم. وتتضمن هذه العملية التفكير في الاتجاه الذي تنشده في مجالات مثل العلاقات والمجتمع والوظائف والأبوة، ومن ثم ترتيبها من حيث أهميتها بالنسبة إليك. وفي حين أن صحائف العمل الرسمية يمكن أن تكون مفيدة، إلا أنه يمكنك البدء بوضع قائمة مستمرة وتحديثها على هاتفك بينما تفكر في الأمور الأكثر أهمية بالنسبة إليك.

تطلع إلى ما وراء لقبك الوظيفي. فكر في إعادة صياغة علاقتك بحياتك المهنية، ليس من حيث الشركة التي تعمل فيها أو اللقب الوظيفي الذي تحمله فحسب، بل أيضاً من حيث مهاراتك التي يمكن استخدامها في سياقات مختلفة. على سبيل المثال، يجد الكثير من المعالجين الذين يقابلون طالبي الاستشارات أن مهاراتهم تتكيف جيداً مع إدارةالموارد البشرية أو الإرشاد التوجيهي.

في حين أن الارتباط الوثيق بحياتك المهنية ليس أمراً سيئاً بالضرورة، إلا أنه يجعلك عرضة لأزمة هوية مؤلمة إذا كنت تعاني من الاحتراق الوظيفي أو تعرضت للتسريح من الوظيفة أو تقاعدت عن العمل. وكثيراً ما يعاني الأشخاص في هذه الحالات من القلق والاكتئاب واليأس. يمكنك، باستعادة بعض الوقت لنفسك وتنويع أنشطتك وعلاقاتك، بناء هوية أكثر توازناً وقوة بما يتماشى مع قيمك.

*جرى تغيير الاسم لحماية الخصوصية

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي