عندما كانت توبي جونسون في الرابعة والعشرين من عمرها، كانت قائدة في الجيش ومسؤولة عن ثماني مروحيات من طراز أباتشي قيمة الواحدة منها 30 مليون دولار، فضلاً عن طاقم إدارتها المؤلف من 30 شخصاً، وهو ما كان يتجاوز مهام أي من صديقاتها في القطاع الخاص. ولكن عندما قررت ترك الجيش والحصول على وظيفة مدنية، أدركت مقدار التحديات التي عليها مواجهتها، إذ كان معظم مدراء التوظيف بلا خبرة عسكرية، وعانى أغلبهم من محاولة فهم كيف يمكنها ترجمة خبرتها العسكرية تلك في سوق العمل.
يمكن أن يكون الانتقال من سيرة مهنية عسكرية إلى أخرى مدنية عملية صعبة جداً للمسرّحين من الجيش في الولايات المتحدة ممن يبلغ عددهم 360 ألف شخص سنوياً. فبالإضافة إلى محاولتهم شق طريقهم ضمن مجالات مهنية جديدة وتعلم أعراف ثقافية جديدة، عليهم أيضاً الإجابة عن أسئلة أساسية مثل: ما هي الوظيفة التي ستناسبهم أكثر؟ وبمجرد الإجابة عن هذا السؤال، عليهم معرفة كيفية إقناع مدراء التوظيف بأنّ مهاراتهم السابقة مفيدة ضمن عملهم الجديد، وبخاصة إن كانوا هم أنفسهم غير متأكدين تماماً من أنها ستكون كذلك حقاً.
قمت، ومنذ العام 2013، بتقديم عدة خطابات أمام مجموعات من المسرّحين من الجيش، وصلت إلى 20 خطاباً، وذلك ضمن برنامج "كور ليدرشيب CORE Leadership الخاص بشركة ديلويت". وكان البرنامج يهدف إلى مساعدة المسرّحين من الجيش على تطوير سيرة مهنية جديدة لهم في القطاع المدني. وتعرفت خلال ذلك على المئات من المسرّحين من الجيش واستمعت إلى قصصهم حول دخولهم عالم الشركات، بما في ذلك ما تمنوا لو أنهم كانوا يعرفونه قبل بدء رحلتهم هذه.
وكان أول درس تشاركوه معي هو "تحكم في روايتك"، وهو الدرس الذي تعلمته من توبي جونسون التي أجريت معها مقابلة لكتابي "إعادة الاختراع" (Reinventing)، حيث أدركتْ في نهاية المطاف أنّ عليها التحكم في كيفية سرد روايتها لجعل مدراء التوظيف هؤلاء يدركون بأنها لم تكن تروّج لقدراتها في مجال الطيران، بل كانت تروّج للمهارات القيادية التي اكتسبتها من خلال عملها في ذاك المجال، والتي يمكنها تطبيقها لاحقاً ضمن شركاتهم. وتمكنت في نهاية المطاف من الترويج لهذه الفكرة بشكل مميز جداً، إذ باتت حالياً نائبة رئيس ومديرة عامة لإحدى الشركات المدرجة على لائحة "فورتشن 500".
ومن أجل تحقيق هكذا هدف، عليك أولاً إدراك قيمة خبراتك، وهو الأمر الذي قد يكون صعباً بالنسبة لبعض المسرّحين من الجيش. ولننظر مثلاً إلى كريس روبينيت والذي خدم في الجيش مدة 11 عاماً، أولاً كضابط مدرعات، ثم خدم في القوات الخاصة للجيش (وتسمى أيضاً القبعات الخضراء). ولكن رغم خبرته المذهلة والتي تضمنت فترة قضاها في أوروبا الشرقية يعمل فيها مع شركاء الناتو، إلا أنه شكك في نفسه عندما حان الوقت لانتقاله إلى مجال الشركات، حيث قال لي: "شعرت بالرهبة الشديدة من زملائي في الجامعة الذين ارتادوا إلى وظائف مهنية تقليدية أكثر. وشعرت وكأنهم يملكون أعواماً من التجربة الفريدة والمثيرة للإعجاب لست بقادر على مواكبتها".
ومع مرور الوقت، أدرك أنّ خبرة العمل في الشركات لم تكن ضرورية حقاً، حيث يضيف بأنها كانت متصلة بأمور مثل "هل يمكنك التعلم؟ هل لديك أخلاقيات عمل قوية؟". واليوم يستفيد كريس من خبرته العسكرية والقيادية في إدارة العمليات لقسم مستحدث لدى شركة كبرى متخصصة في الاستشارات الأمنية للمدن الرياضية الكبرى ومراكز المؤتمرات.
وغالباً ما يقوم المسرّحون من الجيش بإخضاع أنفسهم لقدر هائل من الضغط لتحديد "الوظيفة المثالية" بعد تسريحهم من الخدمة. ولكن عليك أن تدرك بأنّ وظيفتك الأولى قد لا تكون المناسبة لك. فجميعنا يرغب في اتخاذ قرارات جيدة، كما أنّ اختيارنا الصحيح للمهنة المناسبة وحصولنا عليها فوراً ستكون قصة جميلة، ولكن الحقيقة هي أنه حتى مع التخطيط والإعداد، هناك بعض الأمور التي لا يمكننا معرفتها مسبقاً والمتصلة في ما إذا كنا سننجح في وظيفة أو مجال عمل أو مكان عمل محددين. في الواقع، غادر ما يقرب من نصف المسرّحين من الجيش أول وظيفة مدنية لهم في غضون عام.
عمل جون لي دوماس (والذي قابلته في كتاب آخر) ضمن وظائف مختلفة بعد تسريحه من الجيش، حيث حاول دخول مجالات التكنولوجيا والتمويل والعقارات، ولكن من دون جدوى. إلا أنه بدلاً من تأنيب نفسه على عدم تحقيق أي نجاح في تلك المجالات، قام بشيء مهم وهو إدراك ما كان يثير شغفه حقاً، حيث لاحظ خلال فترة عمله في مجال العقارات، والتي تطلبت منه قضاء ساعات كل يوم في القيادة، أنه بدأ في الاستماع إلى البودكاست، وفي النهاية قرر أن يبدأ سلسلة بودكاست خاصة به.
ومن المهم إدراك أنّ ما تراه على أنه "الوظيفة المناسبة" لك قد لا يكون دقيقاً. ولكن عليك ألا ترى ذلك كفشل، بل معطيات تتعلم منها وتستمتع إليها، من أجل العثور لاحقاً على الطريق الذي يجعلك تحقق النجاح في نهاية المطاف، كما هو الحال لدى دوماس والذي بات اليوم من أكثر مشرفي البودكاست نجاحاً في هذا المجال، حيث يحصل على دخل من سبع خانات سنوياً.
وتُبرز تجربته جزءاً ثانياً من الحكمة التي سمعتها من العديد من المسرّحين من الجيش ممن كنت أقوم بتدريسهم وهي "لا يجب عليك أن تأخذ الطريق المباشر". عندما التقيت تي جي واغنر في برنامج كور (CORE)، كان لديه خطة، لكنه لم يدرِ إن كانت جيدة أم لا. كان ينوي ارتياد كلية إدارة الأعمال في الخريف، ولكن كانت لديه فترة مدتها 9 أشهر بين تسريحه من الجيش وبدء الدراسة. وكانت خطته في ذلك الوقت متمثلة في تلقي دروس في الإبحار والتأهل ليصبح رباناً في مهرجان "يخت ويك" (Yacht Week) على طول الساحل الكرواتي خلال فصل الصيف.
ظاهرياً، قد يبدو الأمر وكأنه سعي لأمر تافه، حيث قد يسأل المرء نفسه عن الرابط بين الإبحار وكلية إدارة الأعمال أو أي مستقبل مهني آخر في الشركات؟ لكنه كان متحمساً للفكرة وقرر القيام بها. وخلال الأشهر التالية، أخذ تي جي دروساً نظرية حول الإبحار في الفلبين وحضر مدرسة للإبحار في ماليزيا. وقال لي أنه لكي يتخطى أحد امتحانات الربان النهائية: "في إحدى الليالي، قام المدربون بفك اليخوت الخمسة عن الرصيف الخشبي وأيقظونا بالصراخ والعويل قائلين إنّ الرصيف الخشبي سينهار! شعرت وكأنني عدت إلى الجيش". سيطر تي جي على الوضع واجتاز الامتحان الخاص به بنتيجة مثالية، وقضى فترته في "يخت ويك" كربان يخدم "لبنانيين وأستراليين وأوروبيين وأعضاء في الجيش الأميركي وأميركيين جنوبيين وغيرهم. لقد كانت هذه أفضل وظيفة في العالم".
كان في البداية قلقاً من أن يرى مسؤولو التوظيف الفجوة في سيرته الذاتية، واختياره غير التقليدي لكيفية ملء تلك الفجوة، ولكنه لم يعد قلقاً. فقد استفاد من مهاراته البحرية في بناء علاقات وأصبح رئيس نادي الإبحار في كلية إدارة الأعمال. في الواقع، يمكن أن يزيد قيامك بأي شيء خارج عن المألوف من وضعك المهني، ما يجعلك موضع اهتمام ويعطيك نقطة دخول للتواصل مع الآخرين على المستوى الإنساني. لا يزال تي جي يفكر في خططه عندما يتخرج، حيث يقول إنه قد يعمل في وظيفة ضمن شركة أو قد يفتح شركة إبحار خاصة به.
من المريح لنا افتراض أنّ تحولاتنا الوظيفية ستكون سلسلة ومنظمة، ولكن هذا نادراً ما يحدث، سواء أكنت تنتقل بين مسارات مهنية مختلفة، أو من الحياة العسكرية إلى المدنية، حالما تدرك أنه لا يوجد "انتقال مثالي"، سيكون من السهل عليك القيام بالعمل العميق الضروري لإيجاد الوظيفة المناسبة والسيرة المهنية الملائمة لك على المدى الطويل.