لقد جعلت جائحة فيروس كورونا الاقتصاد العالمي يجثو على ركبتيه في غضون أسابيع. فمع هبوط أسواق الأسهم، وانخفاض الإيرادات، والرعب المطلق حول المستقبل، من السهل أن تنساق العلامات التجارية إلى وضع الذعر الذي سبب لبعضها الجمود دون اتخاذ أي إجراءات، وقاد بعضها الآخر إلى اتخاذ تدابير صارمة بهدف الحفاظ على أعمالها قائمة.
وتنطوي استجابة الموظفين والعملاء والزبائن في مثل هذه الأوقات من الأزمات والشدائد على التطلّع إلى القادة سعياً وراء الطمأنينة والإلهام والتحلي بالشجاعة في سعيهم لتجاوز هذه الأزمة. ومن الطبيعي أن تكون هذه المهمة شاقّة بالنسبة للقادة؛ وتُعتبر رسالة بريد إلكتروني تضمّ عبارات شكر وتمنيات بالسلامة مجرد بداية، إذ يوجد حاجة إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات.
وعلى الرغم من أن هذا الوقت يختلف عن الأوقات التي قضيناها في الماضي، من الجدير التساؤل عما يمكننا فعله اليوم. فعندما تكون مزاولة الأعمال مستحيلة كما اعتدنا، يكون هذا الوقت مثالياً لطرح الأسئلة التالية: كيف يمكننا جعل العمل ممكناً اليوم وفي المستقبل؟ وكيف يمكننا تطويره؟ ما هي أهمية العمل وفق هدف؟ ينطوي التحدي الذي يواجه قادة اليوم على توجيه الزملاء والشركات الزميلة على الانتقال من وضع الذعر إلى وضع العمل وفق أهداف علاماتهم التجارية. في الواقع، قد تكون عملية إعادة تنشيط الهدف مفيدة في توفير الاستقرار للموظفين وقوة دافعة للعمل. وإليك ما قد تبدو عليه هذه العملية:
الخطوة الأولى: تحديد هدف ذو مغزى
يوفّر هذا الوقت فرصة نادرة للتفكير في سبب ممارسة الأعمال التجارية بالنسبة لأولئك الذين أصابت شركاتهم حالة من الجمود نتيجة الجائحة. قد تكون القيود المفروضة على السفر ومنع إقامة الرياضات والفعاليات وإغلاق المطاعم وصالات الألعاب الرياضية والمسارح، والأهم من ذلك، إغلاق الشركات إجراءات مرهقة للموظفين والقادة على حد سواء. فإذا تمكّنا من الحفاظ على الشركة قائمة، هل يوجد أمل في أن تزدهر مجدداً؟ كيف يمكننا الاهتمام بالموظفين في ظل هذه الظروف؟
على الرغم من ضرورة معالجة هذه المخاوف، قد تغيب عن أعيننا مجموعة فرص مختلفة للقيادة. فإذا كان لديك رسالة شركة أو هدف وراء تأسيس العلامة التجارية جرى تهميشه خلال مواسم ازدحام العمل سابقاً، حان الوقت لأن تطرح على نفسك السؤال التالي: كيف يمكن لعلامتك التجارية أن تتصرف وفق ذلك الهدف في ظل هذه الأوقات المتغيرة؟
الخطوة الثانية: تجاوز القصور الذاتي للهدف
برز في السنوات الأخيرة إجماع مذهل حول أهمية التركيز على الهدف من وراء تأسيس الشركات والعلامات التجارية وعلاقته الترابطية القوية بالربح. وبيّن لاري فينك من شركة "بلاك روك" (BlackRock) أهمية هذه الفكرة لسنوات مع عملاء شركته، وكان عام 2019 هو العام الذي أصدر فيه قادة المائدة المستديرة بياناً وقّعه 181 رئيساً من الرؤساء التنفيذيين يبيّن أهمية "الهدف مقابل الأرباح".
ومع ذلك، تشير بحوثنا إلى أن معظم العلامات التجارية تفشل في توضيح هدفها في هذه الناحية. ولم تتمكن سوى نسبة 27% من المستهلكين من ذكر اسم علامة تجارية تعمل وفق هدف، وذلك وفقاً لمؤشر قوة الهدف الجديد. ما هو سبب ذلك؟ من المحتمل وجود عديد من العوامل المساهمة، ولعلّ أكبرها هو أن القصور الذاتي لأساليب العمل المعتادة يعيق تنشيط الهدف.
على سبيل المثال، ركّز عملنا مع شركة "ماهيندرا" (Mahindra) وهي شركة قابضة متعددة الجنسيات مقرها مدينة مومباي على كيفية التغلب على هذا القصور الذاتي من خلال تحديد هدف العلامة التجارية وتوضيحه، والذي انطوى على تشجيع الابتكار داخل صفوف موظفيها وخارجها، وهي حركة أطلقت عليها الشركة اسم "رايز"، بمعنى النهوض. اتّخذ القصور الذاتي في شركة "ماهيندرا" شكل الميل نحو الحذر والامتثال، وعلمنا أن تنشيط هدفها يتطلّب إجراء مبادرات داخلية وخارجية على حد سواء. وتمكّنا بعد إجراء تمارين لعب الأدوار وعقد جلسات تدريب للتنفيذيين من إرساء ثقافة "رايز" الجديدة بين أفضل 200 مسؤول تنفيذي عبر وحدات الأعمال الأساسية، بما فيها السيارات والتكنولوجيا والصيرفة والزراعة. كما عملنا مع الرئيس التنفيذي لشؤون الموارد البشرية لجعل سمات ثقافة "رايز" مقياساً لتقييم الأداء السنوي، ومعياراً رئيساً للتعيينات الجديدة في الشركة. أما فيما يتعلق بالمبادرات الخارجية، أطلقت الشركة جائزة "رايز" وقدرها مليون دولار لمبتكرين محتملين على أساس أن الفكرة الكبيرة التالية لتغيير العالم قد تأتي من الهند.
ويشير هذا المثال إلى وجود فرصة خفية في ظل الأزمة الحالية؛ فمع زعزعة الأعمال على نطاق واسع، قد يجد هدف العلامة التجارية فرصة للازدهار. قد تستدعي المتطلبات الملحة للحفاظ على أمن المجتمعات وسلامتها اتخاذ إجراءات استثنائية على العديد من الجبهات. وقد تتواءم بعض هذه المتطلبات مع هدف علامتك التجارية دون شك. وقد يكون هذا الوقت أفضل وقت لتنشيط الهدف. لذلك، من الضروري أن يتحلى القادة بالجرأة وأن يتّخذوا قرارات أعمالهم بناء على هدف العلامة التجارية.
الخطوة الثالثة: تطويع الهدف لصالح المستقبل
قد يُنظر إلى عملية تنشيط الهدف على أنها عودة إلى الأصول وإلى قصص الأصل وإلى جذور المرء. والجذور مهمة دائماً، لكن لا بدّ أن يُنير هدف العلامة التجارية اليوم الدرب في ظل هذه الظروف المتغيرة. على سبيل المثال، كتب الرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت"، ساتيا ناديلا، رسالة إلى الموظفين في شهر مارس/ آذار قال فيها: "إن قدرتنا على التشبث بأهدافنا والبقاء مخلصين لهويتنا هو أمر في غاية الأهمية في أوقات الزعزعة والغموض".
كما كتب عن أهمية البرمجيات في شركة "مايكروسوفت" في تمكين عقلية "المستجيب الأول" في جميع أقسام الشركات في سعيها لتكييف خدماتها مع مبادرات القطاعين العام والخاص الهادفة إلى تتبع الفيروس ومعالجة المخاطر التي يفرضها. ويجسّد عملنا مع شركة "لايف بريدج هيلث" (LifeBridge Health)، وهو نظام مستشفيات كبير في بالتيمور مبدأً مماثلاً، حيث كان الهدف من علامتها التجارية هو تقديم الرعاية بشجاعة، وهو ما يعني تجاوز مستوى الرعاية، سواء عن طريق شراء موقد لمريضة مصابة بمرض السكري حتى تتمكن من طهي وجبات صحية في منزلها، أو عن طريق الحد من عمليات إعادة الإيداع في المستشفيات إلى الالتزام بتقديم علاجات فاعلة. ويُعتبر هذا الهدف من أكثر الأهداف أهمية اليوم، أي في مواجهة وباء غير متوقّع أسفر عن تطور معايير الرعاية على مدار الساعة، في وقت يمثّل فيه أبطال الرعاية الصحية اليومية أفضل أمل لنا. اطرح على نفسك السؤال التالي: إلى أين يقودك الهدف في ظل هذه الأوقات القائمة على تلبية الاحتياجات؟
الخطوة الرابعة: كيفية اتخاذ الإجراءات وماهيتها
لا بد أن تتجاوز عملية إعادة تنظيم الشركة الرامية إلى تحقيق هدف ما مرحلة القول إلى الفعل. ويبرز في هذا الصدد ثلاثة مجالات عمل أساسية، ألا وهي إعادة تأطير القدرات، وإعادة تأطير العمليات، وإعادة تأطير العلاقات.
يُعتبر نهج إعادة تأطير القدرات النهج الأكثر فاعلية والذي ينطوي على تأثير مباشر. فإذا كانت شركتك متخصصة في صنع منتج ما، هل يمكنك صنع منتج آخر ذي صلة وذي أهمية كبيرة في ظلّ الأزمة؟ إذا كانت شركتك تقدم خدمات معينة، هل يمكنك إعادة تطويع هذه الخدمات بسرعة لتلبية احتياجات الأزمة؟ على سبيل المثال، تصنّع العلامات التجارية لمواد التنظيف اليوم غالونات من معقمات الأيدي. كما لجأت شركات مصنعة أخرى مثل شركتي "فورد" و"دايسون" (Dyson) إلى إعادة تجهيز مصانعها لإنتاج أجهزة التنفس الاصطناعي. واتخذت بعض شركات التجزئة مثل "نايكي" و"غاب" قراراً بإعادة توجيه خطوط الإنتاج لصنع معدات واقية، مثل الملابس الطبية الواقية وأقنعة الوجه. كما نشهد اليوم تحوّلاً في بعض قدرات الشركات التي تنطوي على تفضيلات شخصية: على سبيل المثال، اتّخذت شركة "فاناتكس" (Fanatics)، وهي شركة متخصصة في تصميم زي "نايكي" الرياضي لفريق الدوري الرئيس لكرة البيسبول ومقرها ولاية بنسلفانيا، قراراً بتحويل أقمشة الزي نفسه إلى كمامات جراحية مطبوع عليها شعارات فريقي "يانكيز" و"فيليز" المميزين بهدف توفير معدات حماية توحي بقدرتها على توفير قوى خارقة خفيّة لفرق الرعاية الصحية تحت وطأة الضغوط.
باختصار، ينطوي الهدف على المساهمة بطريقة هادفة على المدى المنظور وأن تضع في اعتبارك أنه بمجرد النظر في احتمالات العمل الممكنة لشركتك، قد لا يعود العمل إلى حجمه الأصلي أبداً.
وتعدّ مهمة إعادة تأطير العمليات مصدر قلق فوري للعديد من الشركات التي اضطر موظفوها إلى إنجاز مهامهم عن بُعد. ولعلّ القطاع الذي كان أكثر من تأثر بهذا التحول هو قطاع التعليم، حيث اضطر الملايين من الطلاب والمعلمين حول العالم إلى الانتقال من قاعات التدريس يوم الجمعة إلى التعليم عبر الإنترنت بحلول يوم الاثنين.
قد تبدو هذه العملية مجرد تعديل مؤقت لظروف استثنائية بدلاً من اعتبارها عملية إعادة تأطير حقيقية. لكن هذا التحول المثير دفع العديد من المعلمين إلى البدء في التفكير في المزايا النسبية للتعلم المتزامن مقابل التعلم غير المتزامن؛ وفي مزايا اللقاءات الفردية مقابل التمارين الجماعية؛ كما دفعهم إلى التفكير في كيفية تحسين الوصول إلى الفصول الدراسية الرقمية للمعلمين والطلاب أسحاب الهمم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وفي أساليب التدريس المرنة للأساتذة الجامعيين الذين اضطروا إلى الموازنة بين الحياة الأسرية وإعداد البحوث وإلقاء المحاضرات.
وعلى الرغم من أن الزعزعة التشغيلية هي عملية تُثير التوتر، فإنها توفر فرصاً لتحديد ما إذا كانت الأساليب التي تتبعها للتكيف مع الأوضاع تعزّز هدف شركتك بالفعل، أو ما إذا كان هدفك يفرض عليك بالفعل تطوير أساليب تكيّف جديدة لزيادة الفوائد غير المتوقعة.
تُعتبر مهمة إعادة تأطير العلاقات مجالاً مهماً يجب مراعاته، ذلك أنه يمسّ أهم الفئات ذات الصلة بعلامتك التجارية، ألا وهم موظفوك وشركاؤك وزبائنك. وقد جادل ستيف أودلاند، رئيس مؤسسة الكونفرانس بورد العالمية والرئيس التنفيذي السابق لشركة "أوفيس ديبوت" (Office Depot) مصرحاً بضرورة تجنب تسريح العمال في حال أردنا تجنب حالات الاكتئاب الشديدة. ودعا الملياردير والرئيس التنفيذي للشركة التكنولوجية "سيلز فورس" (Salesforce) مارك بينيوف زملاءه الرؤساء التنفيذيين إلى التعهد "بعدم تسريح العمال" مدة 90 يوماً لمساعدة موظفيهم في تجاوز هذه الأزمة. وبالنسبة لمن انضموا إليه في هذا التعهد، كانت مهمة معاملة الموظفين باعتبارهم شركاء أساسيين في هذه الأزمة ضرورية في تغيير العلاقة التي تربط هذه الشركات مع موظفيها إلى الأبد.
وفيما يتعلق بشركاء الأعمال، اختارت شركة "وينديز" (Wendy's) إعادة تخصيص 40 مليون دولار في الإعلانات التي كان الهدف منها بداية إطلاق خيارات جديدة لطعام الإفطار والذي تحول فيما بعد إلى دعم أصحاب الامتياز التجاري بدلاً من ذلك، وتمديد شروط دفع رسوم العلامات التجارية، وتأجيل مدفوعات الإيجار الأساسية، ومنح أصحاب الامتياز عاماً إضافياً لاستكمال أعمال ترميم المتاجر المطلوبة.
وتُعتبر فرص إعادة تأطير العلاقات مع الزبائن وفيرة. وتنطوي أحد أقوى الأمثلة على هذه الفرص على العديد من المؤسسات الإعلامية التي تعهدت بتوفير تغطيتها للوباء مجاناً للجمهور. وليس من الصعب تخيّل كيف أفسحت سياسات المحتوى باشتراك مدفوع المجال أمام إجراء مناقشات رامية إلى تنشيط الأهداف في ظلّ هذه الظروف الاستثنائية. من يدري كم عدد القراء الجدد الذين سيطورون علاقات بتلك المنصات التي قد تمتد طيلة فترة الزعزعة؟
قد تطول هذه الأزمة لأسابيع أو أشهر، إلا أننا سنعود إلى مزاولة أعمالنا كالمعتاد يوماً ما. ومن خلال التركيز على عملية تنشيط أهداف العلامات التجارية اليوم بدلاً من الشعور بالذعر، قد ننضم مجدداً إلى عالم توقف مؤقتاً لإعادة اكتشاف نفسه، وأعاد تأطير رسالته لمتابعة جداول أعمال أكثر جرأة وغنىً.