نحن في خضم أزمة ذات أبعاد كوكبية، ولا نعلم متى أو كيف ستنتهي. إذ ينطوي فيروس كورونا "كوفيد-19" (COVID-19) على تأثير عالمي ليس فقط من الناحية الطبية، بل أيضاً من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ونشهد سلوك الأفراد الذي يتراوح من العمل البطولي للأطباء والممرضات إلى الأفعال غير المسؤولة على الإطلاق من أشخاص آخرين. ونشاهد جميعاً، في الفترة الأخيرة، برنامجاً إعلامياً عالمياً يدعى "عمل هواة" (Amateur Hour)، الذي يستضيف أشخاصاً ليس لديهم مؤهلات علمية يتحدثون عن أسباب المشكلات وحلولها، في وقت يتعين علينا ببساطة اتباع العلم ونصائح الأطباء والعلماء ذوي المصداقية والخبرة. وربما يكون الأمر الوحيد الذي نفهمه جميعاً هو أنه يجب علينا غسل أيدينا أكثر بكثير من المعتاد للحيلولة دون الإصابة بالفيروس أو على الأقل تقليل احتمالية الإصابة. غسل اليدين عادة بسيطة تعلمناها منذ طفولتنا. حيث كان آباؤنا يخبروننا بعدم تناول الطعام قبل غسل أيدينا. وأعتقد أنها كانت قاعدة ذهبية ترسخت في أذهاننا منذ أن كنا أطفالاً. ولكن هل كان هذا هو الحال دائماً؟ الإجابة هي: لا، فقد "اخترع" شخص ما، حرفياً، مفهوم غسل اليدين. وقصة متى وكيف حدث هذا الاختراع أمر لا يصدق.
ولد إجناتس سيملفيس في عام 1818 بالقرب من بودابست. وتخرج في كلية الطب عن عمر يناهز 26 عاماً، وتخصص في طب التوليد. وفي عام 1846، بدأ العمل في أحد جناحَي الولادة في مستشفى فيينا العام، لكن خلال الشهر الأول من عمله، تعرض لصدمة: فمن أصل 208 امرأة أدخِلت إلى المستشفى، توفيت 36 امرأة منهن، أي بمعدل وفيات قدره 17%. وعلى الرغم من أن المستشفى مجاني، إذ بُني للأشخاص المحتاجين، فإن الكثير من النساء كن يفضّلن أن يلدن أطفالهن في الشارع، بسبب سوء سمعة هذه المؤسسة الصحية. علاوة على ذلك، يشير سيميلوايز إلى أن معدل الوفيات في جناح الولادة الآخر كان أقل بكثير. لم يشعر الطبيب بالرضا عن التفسيرات الرسمية التي لا تستند إلى أساس علمي، لذا بحث عن أسباب دقيقة ويمكن التحقق منها لتوضيح هذه الظاهرة. حيث لاحظ أنه بالقرب من جناح الولادة، توجد مشرحة وأن العديد من الأطباء قد اعتادوا على إجراء تشريح الجثث والمساعدة في حالات الولادة. ولاحظ سيميلوايز أنه، عندما يجرح زميل يده بالمشرط الذي يستخدم لتشريح الجثث ويموت في غضون بضعة أيام، فإن الجروح والعدوى هي نفسها التي تتعرض لها النساء اللائي يتوفين في غرفة الولادة. وأدرك أخيراً مصدر المشكلة، ليطلب فوراً من جميع الأطباء والممرضات غسل أيديهم عدة مرات في اليوم باستخدام الماء المضاف إليه مادة الكلور، ونتيجة لذلك، انخفض معدل الوفيات بشكل كبير، ووصل إلى الصفر بعد عامين. أنقذ اكتشافه (الذي يبدو بديهياً بالنسبة لنا، ولكنه لم يكن كذلك في ذلك الوقت) حياة الآلاف. وأطلع سميلويس النخبة الطبية في فيينا على نتائج اكتشافه، موضحاً أن الفعل البسيط المتمثل في تعقيم اليدين قد دحر وبال وفيات الأمهات. لو أن جائزة نوبل للطب كانت موجودة في ذلك الوقت، ألا تعتقد أنه كان يستحقها؟ لكن سميلويس سرعان ما أدرك أن تعليماته لم تجد حسن القبول في أوساط المجتمع الطبي في فيينا، الذين هاجموه وسخروا منه. وغادر المستشفى العام، الذي عاد بعد عام إلى معدل الوفيات السابق بعد أن توقف الأطباء والممرضات عن غسل أيديهم. واتخذ المجتمع الطبي في فيينا موقفاً عدائياً ضد سميلويس بشكل علني، واتُخذ كتابه "الحمى الولادية: المسببات والمفهوم والوقاية" (Etiology, Concept and Prophylaxis of Childbed Fever)، موضع سخرية واعتُبر عديم الجدوى. وتصدى لهم سيميلوايز مدافعاً عن نفسه، وكتب رسائل نارية اتهم فيها الأطباء بأنهم قتلة، حتى أن زوجته بدأت تشك في صحة قواه العقلية. وفي عام 1865، نُصب له فخ بعد دعوته إلى زيارة ملجأ، حيث احتُجز هناك رغماً عن إرادته. وتوفي سميلويس بعد أسبوعين من حبسه بعد أن وُضع في سترة المجانين وتعرض للضرب من قبل الممرضات الساديات ونسي أمره الجميع.
بين أيدينا اكتشاف علمي مدهش للطبيب المجري إجناتس سيملفيس يتمثل في الدليل العلمي على غسل اليدين، وتصميمه الحاد على إشاعة اكتشافه. وعلى الرغم من اكتشافه الجليل هذا، فقد فشل هذا الطبيب في التعاون مع أقرانه والمجتمع الطبي. ففي حين أنه كان مُصيباً في اكتشافه "من الناحية الفنية"، إلا أنه استبعد زملاءه. وكان انتقامهم، بالطبع، خاطئاً وذا طابع إجرامي – مع الأسف لم تتم إدانة أي أحد فيما لحق بالطبيب - لكن النهاية المأساوية لحياته تُرغمنا على التفكير في كيفية التعامل مع الحسد في مكان العمل وكيفية بناء تحالفات وائتلافات: إذ إنها تمثل الظروف اللازمة لإحداث تغيير وتحول مستداميَن.
ويتمثل بيت القصيد هنا في أنه من الضروري أن يكون المرء على حق، لكن ذلك – وحده - ليس كافياً.