يحث هذا المقال إلى اتباع منهج التفكير المنظومي على اعتباره أكثر تكاملاً لحل مشاكل الأعمال، بحيث يجري فيه اتخاذ القرارات من خلال الفهم الشامل لمختلف مكونات الأنظمة المترابطة وتأثيرها على النتيجة واحتمالات حدوثها. يهدف هذا المنهج إلى التوصل لحلول مستدامة تعود بالنفع على الغالبية العظمى من أصحاب المصلحة المعنيين إن لم يكن عليهم جميعاً. ويلقي هذا المقال نظرة فاحصة على قطاع الطيران بوصفه دراسة حالة، ويوضح أن التفكير الضيق الأفق الذي يركز على الأداء التشغيلي قد يُغفل التأثيرات الأوسع نطاقاً التي تقع على السياحة الوطنية وقطاع العقارات وقطاعات الخدمات والنمو الاقتصادي بوجه عام. كما يؤيد الانتقال من اتخاذ تدابير منفردة قصيرة الأمد إلى اتباع استراتيجيات تعزز الكفاءة والإنتاجية، ما يضمن تحقيق فوائد مستدامة تعود بالنفع على المنظومة بالكامل. ويعرض المقال توصيات بشأن الاهتمام بمهارة التفكير المنظومي وكيفية تعزيز ممارسات هذا النهج في المؤسسات.
اعتمدت بعض المؤسسات منذ فترة طويلة على إدارة عملياتها وفقاً للنظام الخطي الذي يمكن التنبؤ به، إذ يمكن من خلاله مواجهة كل تحدٍّ على حدة وبمعزل عن المنظومة المحيطة. يتضمن هذا النهج النظر إلى المعايير القياسية المرجعية في مواقف مماثلة أخرى، وتطبيق أفضل الممارسات، والاستفادة من معرفة الخبراء. وهذه المنهجية ملائمة للمشاريع أو العمليات المنعزلة التي لها نتيجة منفردة محددة قابلة للقياس بناءً على الإجراءات المتخذة في المجمل. ومع ذلك، فإن هذا الأسلوب المبسط لا يأخذ في الحسبان العلاقات السببية المعقدة بين الأنظمة المترابطة والعوامل الخارجية التي تؤثر عليها. بالإضافة إلى ذلك، فإن تأثيرات البيئة المحيطة غالباً مهملة، ما يؤدي إلى حدوث قصور في إمكانية توقع أي انحرافات من المحتمل أن تقع. ونتيجة لذلك، قد تتطور النتائج غير المخطط لها لتصبح تحديات ذاتية تتطلب إيجاد المزيد من الحلول. وفي النهاية، فإن قدرتنا على تكوين رؤية موضوعية للنتيجة التي تعود بالنفع على الجميع وتتوقع الانحرافات غير المقصودة مسبّقاً لها أهمية قصوى في أثناء تنفيذ العمليات والمنهجيات من أجل تحقيق نتائج مفيدة ومستدامة.
إن "نموذج الأنظمة الخطية" هو منهج شامل يصف سلوك النظام وفقاً لقوانين التراكب، حيث يتحدد المُخرج النهائي وفقاً لحاصل المخرجات ومدى تجانسها، وحيث تخضع المخرجات للقياس وفقاً للعامل نفسه الذي تخضع له المدخلات. يصف هذا النموذج نظاماً خطياً أو عملية خطية تحقق نتائج منفردة دون وضع العوامل الخارجية في الاعتبار. وإذا أخذنا قطاع الطيران مثالاً، نجد أن المنافسة المتزايدة تقابلها مبادرات "توفير التكاليف" التي تعني لدى بعض المؤسسات ذات التفكير العتيق خفضاً مباشراً للرواتب والنفقات التشغيلية، ما يؤثر على الربحية. يتناسب حاصل تدابير "توفير التكاليف" المنفذة خطياً مع إجمالي قيمة المبلغ المخفض. هذه الأنواع من الإجراءات هي "حلول سحرية يمكن تنفيذها مرة واحدة فقط" وتعطي تأثيرات فورية، ولكنها غير شاملة أو طويلة الأمد، وبالتالي فإنها إجراءات غير مستدامة ولا تقدم فرصاً مستقبلية. كما لا تدرك المؤسسات أن بعض الإجراءات ستولد آراء وملاحظات سلبية غير مقصودة يمكن أن تسهم في انخفاض الروح المعنوية للموظفين وعدم رضا العملاء عن الخدمات المقدمة، ما يؤدي إلى المزيد من الانخفاض في الأرباح. وعلاوة على ذلك، يمتد تأثير هذه المبادرات إلى قدرة الشركة على الوفاء بالطلبات المتزايدة خلال فترة ازدهار الاقتصاد. كما يؤدي التوظيف السريع لموظفين جدد بدلاً من الموظفين المُقالين والوقت المهدور بسبب التأخير في تسلُّم الطائرات المطلوبة حديثاً إلى الحد أكثر من قدرة الشركة على الاستحواذ على حصة في السوق.
يتجلى "نموذج الأنظمة الخطية" في نظام واحد في غياب الأنظمة والمكونات الأخرى. ونظراً لأن النتائج تعتمد على أجزاء ومكونات مختلفة للنظام تتفاعل معاً لتقديم النتيجة المرغوب فيها، فيجب مراعاة احتمالية وقوع عوامل خارجية مختلفة يمكن أن تؤثر على نشاط النظام ضمن سعيه لتحقيق النتيجة المرغوب فيها. أما منهج "التفكير النُظمي" لمواجهة المشكلات المعقدة والديناميكية فيستوعب النظام بالكامل بوصفه مجموعة من الروابط المتداخلة والمكونات داخل النظام أو الأنظمة الأخرى ومدى إسهامها في تشكيل النتيجة. يستخدم هذا الأسلوب عدة مبادئ أساسية مثل: الارتباطات والتقييمات والمنظور الشامل والديناميكيات والتغيير والحدود ونقاط النفوذ والأنماط والاتجاهات. تساعد هذه المبادئ في رسم حدود النظام الديناميكي وتحديد تأثير التقييمات الخاصة ببعض الأنظمة والمكونات الأخرى على بعض التي تنعكس على النتيجة وفي الوقت نفسه تساعد في دراسة أي أنماط أو اتجاهات تسهم في التنبؤ بكيفية أداء النظام لوظيفته والاستفادة من ذلك. يتيح النظام التعاون المتبادل بين التخصصات وأصحاب المصلحة المعنيين، ومن ثم يعمل على تحسين حل المشاكل، ما يؤدي إلى اتخاذ القرارات على نحو أفضل. تشمل الأدوات والأساليب المستخدمة للمساعدة في مواجهة هذه المشاكل: مخططات الحلقة السببية التي تساعد في تصور حلقات التقييم داخل النظام، مخططات المخزون والتدفق المستخدمة لنمذجة تدفق الموارد أو المعلومات في النظام، ونمذجة ديناميكيات النظام حيث يمكن استخدام المحاكاة لفهم سلوك النظام والتنبؤ به. تساعد هذه الأدوات في توفير فهم أعمق لكيفية تفاعل حاصل أجزاء النظام وتأثيرها على النتيجة الكلية. في مقال باربرا نيومان وفيليب نيومان بعنوان "نظريات التطور في سن المراهقة" الصادر عام 2020 وسّع المؤلفان مفهوم "نموذج الأنظمة الخطية" من خلال استكشاف أنظمة متعددة الطبقات مترابطة، يؤثر كل منها على النتيجة المرجوة. وقد أدى ذلك إلى تكوين مفهوم "نظرية عائلة الأنظمة" المذكور آنفاً في المقال، الذي يصف العمليات المختلفة التي تشكل النظام اللغوي. يمثل هذا النظام "أكثر من مجرد القدرة على نطق الأصوات واستخدام القواعد النحوية واكتساب المفردات اللغوية، إنه تنسيق هذه العناصر بطريقة مفيدة في سياق المعنى المشترك". وبناءً عليه، فإن العوامل والمؤثرات المختلفة والمترابطة تؤدي إلى تكوين الكلام.
من أجل ضمان اتخاذ قرارات جاهزة للمستقبل (Future-ready decisions) ووضع العوامل غير المقصودة في الاعتبار، يجب التفكير في احتمالية وقوع عوامل خارجية قد تؤثر على النظام. طور ديفيد سنودن نموذج "كينيفن" لمساعدة صناع القرار في تحديد نوع التحديات ومواءمة الاستراتيجيات اللازمة لمواجهتها من خلال تصميم عمليات صنع القرار بما يتناسب مع المواقف المختلفة. يتحرك هذا النموذج ضمن طيف يتدرج من "المعروف" إلى "المجهول" لقياس العلاقة على مقياس السببية، حيث يكون الشك/الارتباك (الذي أطلق عليه الخبراء سابقاً "الاضطراب") هو ذروة المجهول وعدم الانتماء إلى نطاق محدد. يضم النموذج 4 نطاقات تنقسم إلى "واضح" و"معقد" و"مُركَّب" و"فوضوي"، ويمثل الشك/الارتباك ذروة حالة الاضطراب حيث يكون "المجهول" و"غياب المسبب" في نطاق غير مُعرَّف.
وفقاً للنموذج، يمكن تطبيق استراتيجيات مختلفة عند مواجهة كل موقف مع اتخاذ القرارات على وجه التحديد بناءً على النتيجة المرغوب فيها.
بالنظر إلى هذه النماذج المختلفة، يمكن التوصل إلى حل شامل يأخذ في الاعتبار تأثيرات نتائج الأنظمة المختلفة على المنظومة بالكامل. ولا بد من مراعاة عوامل الترابطات البينية بين الأنظمة والطبيعة الفريدة للبيئة المحيطة بالمنظومة عند مواجهة التحديات، وفي الوقت نفسه توقع التأثيرات المستقبلية للقرارات المتخذة بشأن تلك التحديات. يمكن لهذه التأثيرات أن تتخذ شكل روابط مؤسسية وعوامل بيئية ونتائج أنظمة أو عمليات ذات صلة بوصفها عوامل مؤثرة لها نتيجة.
في حالة المثال السابق لقطاع الطيران، وباستخدم منهج التفكير المنظومي، يمكن بدلاً من التفكير في تدابير خفض التكاليف عن طريق تقليل التكاليف التشغيلية، التفكير في تدابير مثل تعظيم العمليات، واستغلال المساحات، واستهلاك الطاقة بكفاءة، وإشراك الموظفين، والتدريب والاستثمار في التكنولوجيا للوصول إلى "وفورات مستدامة في التكاليف". كما أن تحديد الترابطات بين قطاع الطيران والاقتصاد الذي يخدمه يعزز ثقل أهمية هذا القطاع بصفته عامل تمكين للأعمال الأخرى، وبالتالي يسمح باتخاذ قرارات مستنيرة يمتد تأثيرها إلى نطاق أوسع. تشمل هذه القطاعات قطاع العقارات وقطاع الخدمات والتنويع الثقافي والإنتاجية الوطنية والعالمية. عند وضع ما سبق في الاعتبار، تتسع رؤية قطاع الطيران لتشمل منظوراً أوسع نطاقاً يمكن وصفه على سبيل المثال بأنه "المحرك الذي يدفع النمو في القطاع الاقتصادي للدولة". فبدلاً من أن يعكس تقرير الدخل السنوي لقطاع الطيران النتائج، تأتي هذه النتائج في شكل عائدات غير مباشرة للدولة. علاوة على ذلك، يمكن أن تحد دراسة احتمالية وقوع أحداث خارجية من التأثيرات عن طريق وضع سيناريوهات بديلة لمواجهة التحديات غير المتوقعة.
يوفر "التفكير المنظومي" المنظور والأدوات اللازمة لتحليل المشاكل والتحديات المعقدة. تعتمد النتيجة على حصافة المختصين ومدى إلمامهم بمهارة التفكير المنظومي ورؤيتهم للتحدي ضمن بيئة شاملة وتكافلية للتوصل إلى حل مشترك ومستدام يعود بالنفع على "الأغلبية"، إن لم يكن على "الجميع". وفي حالة قطاع الطيران، فإن أي قرار يجري اتخاذه يجب أن يأخذ في الاعتبار العواقب على العميل والموظف والجهات التابعة والاقتصاد بالكامل. في هذه الحالة فقط يمكننا تحقيق الهدف النهائي المتمثل في الوصول إلى حل للتحديات بتأثير إيجابي طويل الأمد يعود بالنفع على "الأغلبية".
إن هذه الأمثلة التي استعرضناها في هذا المقال، بالإضافة إلى ما يتسم به عالمنا المعاصر من تعقيد وتغير سريع، تتطلب من صناع القرار وواضعي السياسات أن يصبحوا مفكرين بنهج التفكير المنظومي وأن يولوا المزيد من الاهتمام لمهارات التفكير المنظومي ونهجه وتعزيز هذا النهج ليكون ممارسة رئيسية في مؤسساتهم سواء كانت خاصة أو حكومية. وتشير دراسات كثيرة في هذا المجال إلى أن المؤسسات التي استخدمت نهج التفكير المنظومي حققت أداء ونتائج أفضل من تلك التي لم تستخدم هذه النهج. يتطلب الاستخدام الفعال لهذا النهج بناء قدرات مؤسسية، لذلك يجب تبنّي استراتيجية متكاملة تشمل الاستثمار في التدريب المستمر على مهارة التفكير المنظومي، وتشجيع التفكير النقدي، وتطبيق أدوات التحليل الشامل، وخلق بيئة عمل تدعم ثقافة التفكير المنظومي والتعاون وتبادل الأفكار، مع التركيز على فهم العلاقات المتداخلة بين مختلف أجزاء المنظومة، وتحفيز الموظفين على النظر إلى التحديات من منظور كلي، ما يؤدي إلى تحسين عملية صنع القرار وزيادة الكفاءة التنظيمية.