يتمحور التسويق حول الاستراتيجية، أم أنه غير ذلك؟ لمعرفة الإجابة، طرح "استطلاع مدراء التسويق" (CMO Survey) الذي أجري في أغسطس/ آب من عام 2019، السؤال التالي على مدراء التسويق: "ما مقدار الوقت الذي تقضونه في إدارة شؤون التسويق الراهنة مقابل الاستعداد لمستقبل التسويق في شركتكم؟" وبوجه عام، أفاد 341 مديراً من مدراء التسويق أنهم يقضون 68.5% من وقتهم في إدارة شؤون التسويق الراهنة، بينما يقضون 31.5% من وقتهم في "الاستعداد للمستقبل". وتسري هذه النتيجة على الشركات بمختلف أحجامها وعلى مختلف القطاعات ومجالات العمل. فماذا عن منظور النتائج قصيرة الأجل لدى الشركات؟
ويمكن أن تكون هذه النتيجة مفاجئة لكم بالنظر إلى المفاهيم السائدة في عالم الأعمال والتسويق بشأن الاتجاه صوب رقمنة الأعمال وسبر أغوار التغيير التكنولوجي ابتغاء لمستقبل أفضل. وإذا ما زرت أي مدونة تسويق، ستجد العاملين في هذا المجال يناقشون استخدام التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة وإضفاء الطابع الشخصي والتحليلات المحوسبة للتفوق في الأعمال التجارية في المستقبل عن طريق تحسين تجربة الزبائن واستحداث منتجات وخدمات جديدة. فما الذي يفسر، إذن، هذا الانقطاع الظاهر بين نتيجة الاستطلاع المبينة وبين هذا الواقع؟
منظور النتائج قصيرة الأجل
حددنا، بعد إلقاء نظرة على الأدلة الأخرى المستقاة من "استطلاع سي إم أو"، أربع قوى محركة تدفع قادة التسويق إلى التركيز على شؤون التسويق الراهنة على حساب المستقبل، وهذه القوى هي كما يلي:
الضغط الناجم عن المكاسب في المدى القصير:
غالباً ما يُنظر إلى دور التسويق باعتباره مستوى يدفع عجلة المبيعات في المدى القصير بدلاَ من صفته محركاً للنمو في المدى الطويل، الذي ثبت أنه يشكلها. ويفضي الضغط الناجم عن سوق الأسهم إلى الحاجة لتركيز الحملات التسويقية على الاستقطاب الفوري للزبائن أو توسيع نطاق خطوط المنتجات بدلاً من بناء قدرات جديدة أو تحقيق طفرة في الاشتراكات أو الأنشطة التجارية على شاكلة منصات العمل.
قلة عدد الأدوار الاستراتيجية:
غالباً ما تُسند إلى قادة التسويق أدوار تكتيكية مثل إدارة وسائل التواصل الاجتماعي أو عمليات الترويج. وقد لمسنا ذلك في نتائج "استطلاع مدراء التسويق" الذي أجري في أغسطس/ آب من عام 2019، التي أوضحت أن التسويق يؤدي إلى دخول أسواق جديدة في 37% فحسب من الحملات التسويقية، وإلى نمو في الإيرادات في 36% منها، وإلى اختيار الأسواق في 20.6% منها. وما لم يُفسَح لقادة التسويق مكان بين قادة الشركة، فإنهم لن يحظوا بالمصداقية التي تكفل لهم أن يكونوا مصدر إلهام أو أن يقودوا التغيير الاستراتيجي.
الغموض الذي يكتنف أدوار مدراء التسويق:
وفضلاً عن ذلك، أظهر "استطلاع مدراء التسويق" الذي أجري في فبراير/ شباط من عام 2019 أن مدير تسويق واحداً فحسب من كل ثلاثة مدراء للتسويق أفاد بأنه يشعر أن دوره "واضح للغاية". ونعتقد أنه إذا ما شعر قادة التسويق بأن دورهم يكتنفه غموض شديد، فمن المرجح أن يركزوا على الأولويات الفورية بدلاً من الاستراتيجيات طويلة الأمد لكي يتسنى لهم تحقيق مكاسب سريعة وحماية ما بوسعهم السيطرة عليه.
هيكل مكافآت المسوقين:
أفاد قادة التسويق في "استطلاع مدراء التسويق" الذي أجري في فبراير/ شباط من عام 2019 أن 18.9% من مكافآتهم عبارة عن مكافآت على الأداء، في المتوسط، مع مكافآت إضافية مقدارها 8.2% في أسهم الشركة. ويمكن أن يؤدي هذا الاختلال في المكافآت إلى التركيز على تحقيق النجاح في المدى القصير فيما يتعلق بالمقاييس المالية المستخدمة للحصول على المكافآت المرتبطة بالأداء بدلاً من التركيز على الأهداف الاستراتيجية في المدى الطويل المرتبطة بالحصول على أسهم في الشركة.
إذن، ما الذي يجدر بك فعله إذا ما انشغلت مؤسستك بالدوامة المضطربة لشؤون التسويق الراهنة ولم يكن لديك الوقت الكافي أو الموارد اللازمة للاستعداد للمستقبل؟ فيما يلي بعض التوصيات القابلة للتطبيق التي توصلت إليها كرستين (الكاتبة المشاركة لهذا المقال) عبر مشوارها التدريسي والأبحاث التي أجرتها ومن خلال عملها مع الشركات، والتي نعتقد أنها يمكن أن تساعد مدراء التسويق في التركيز من جديد على المستقبل.
انتهاج توجّه مستقبلي من أجل تلافي منظور النتائج قصيرة الأجل
تخصيص وقت من كل أسبوع للتفكير في المدى الطويل:
ينبغي ألا يكون التخطيط الاستراتيجي أمراً يحدث مرة واحدة في العام. بل ينبغي أن يكون جزءاً من مناحي التفكير اليومية والأسبوعية لدى فريق التسويق. ويعني المنظور طويل الأمد التفكير بشأن تعزيز العلامة التجارية والعلاقات مع الزبائن - وكلاهما من مساعي المدى الطويل - حتى في وقت اتخاذ القرارات قصيرة الأجل. ويمكنك تشجيع قادتك وفِرقك على التفكير بشأن المستقبل عن طريق سؤالهم عما إذا كانت القرارات قصيرة الأجل التي يتخذونها تساهم في استراتيجيات المؤسسة واستراتيجيات التسويق. فإذا لم يكن لها مساهمة في هذين الجانبين، ينبغي طرحها أو إلغاؤها في الحال.
الاستثمار في القدرات التسويقية:
تعتبر المعارف والمهارات، على مستوى المؤسسة، المتأصلة في العمليات الرئيسة قوى محركة تدفع عجلة النجاح، حيث تتيح القدرات للشركة تكرار النجاحات التي حققتها والعمل على نحو أكثر إنتاجية وتلافي الأخطاء وإضفاء الطابع المؤسسي على الممارسات. كما أنها تجعل من الصعب على الأقران تقليد بعضهم، وبالتالي فإنها توسّع نطاق التفاوت التنافسي بمرور الوقت. إذ أفاد قادة التسويق بأنهم تصدوا لجانب بناء القدرات في الغالب عن طريق تعيين موظفين جدد يتمتعون بهذه المهارات أو بتدريب الموظفين الحاليين (59.8%)، لكنهم اعتمدوا أيضاً على التعلّم من الوكالات (14.5%) والخبراء الاستشاريين (12.2%) لتزويدهم بالقدرات الجديدة وإدماجها في مستقبل الشركة. معرفة القدرات ذات الأهمية لشركتك وبناؤها. يأتي في مقدمة هذه القدرات العمل على خلق ثقافة التعلم المستمر، بحيث يمكن للموظفين اكتساب مهارات جديدة على نحو منتظم.
اتخاذ القرارات بناءً على البيانات:
حسب "استطلاع مدراء التسويق، فقد أفاد خبراء التسويق باستخدام تحليلات التسويق المحوسبة لاتخاذ قرارات في 39.3% فحسب من وقتهم. وهذه نسبة ضئيلة للغاية. إذ يمكن لإدماج التحليلات المحوسبة في هياكل القرارات أن يعزز اتباع نهج أكثر قوة يستند إلى البيانات، ولا يقوم - بشكل مفرط - على ردود الأفعال تجاه الأحداث في المدى القصير، ويهيئ قادة التسويق للاستغناء عن "الغرائز الداخلية" التي لم يعُد لها محل بصورة متزايدة في ثقافة التسويق المستندة إلى البيانات.
التركيز على النمو:
أفاد قادة التسويق في "استطلاع مدراء التسويق" الذي أجري في فبراير/ شباط من عام 2019 بأن "دفع عجلة النمو" يمثل التحدي الأكبر الذي يواجههم. ونعتقد أن دفع عجلة النمو يمكن أن يمثل أيضاً وسيلتهم للمحافظة على التركيز على المستقبل. حيث إنّ العقلية الموجهة صوب النمو تركز على دخول أسواق جديدة واستحداث منتجات وخدمات جديدة وإقامة علاقات مع شركاء جدد. وينبغي أن تشجع القيادة العليا قادة التسويق على الإقدام على مخاطر محسوبة تتواءم مع النمو المؤسسي وتعزيز هذه السلوكيات في عملية وضع الأهداف السنوية ومكافآت الأداء.
تعميق الروابط بين الأقسام المختلفة:
عندما تنعقد شراكات بين قسم التسويق وأقسام البحث والتطوير والعمليات الرقمية والتكنولوجيا والعمليات والشؤون المالية، فإن تركيزها ينصب على النتائج المهمة على مستوى الشركة. ويمكن لقسم التسويق، بدوره، الاستمرار في التركيز الاستراتيجي على خدمة الزبائن. وتعتبر قيمة مثل هذه الروابط هي السبب الكامن وراء قيام الشركات بتأسيس فِرق مشتركة من مختلف الأقسام للتصدي لمقتضيات التحول المهمة مثل تحسين تجربة الزبائن. وتذكّر أن نجاح "أمازون برايم" (Amazon Prime)، وهي خدمة الاشتراك المدفوعة التي تقدمها شركة "أمازون"، لم يكن متوقعاً. إذ أثار هذا البرنامج جدلاً واسعاً داخل الشركة عندما طرحته في عام 2005. إلا أنه أضحى، منذ ذلك الحين، منصة ضخمة لتحقيق النمو.
تسويق التمويل للمدى الطويل:
يتطلب تحقيق النمو استثمارات متواصلة. وقد أفاد قادة التسويق، في "استطلاع مدراء التسويق"، بأن ميزانيتهم تمثل نسبة 9.8% من إيرادات الشركة وأنها ظلت تتراوح بين 6% و11% منذ عام 2011. وقد بلغت ميزانية التسويق بصفتها نسبة مئوية من ميزانية الشركة أعلى مستوياتها في تاريخ هذا الاستطلاع بوصولها إلى 12% في هذا العام. ومع نمو الشركات على الصعيد العالمي ودخولها أسواقاً جديدة ورقمنة منتجاتها وخدماتها، فمن المرجح أن يتطلب منها الأمر الاستثمار في التسويق لحفز قدرات جديدة. ويعني هذا أن زيادة ميزانيات التسويق من المرجح أنها باقية وستستمر، على الرغم من أنها يمكن أن تُخفّض خلال فترات الركود.
إثبات الأثر المترتب على التسويق:
عندما سئل قادة التسويق عما إذا كانوا قادرين على إثبات الأثر المترتب على الإنفاق التسويقي على المدى الطويل، قال 41.6% فحسب منهم أنهم كانوا قادرين على إثبات هذا الأثر من الناحية الكمية، وقال 39.7% منهم أن لديهم مفهوماً جيداً بشأن التقدير النوعي للأثر بيد أنهم لا يستطيعون قياسه من الناحية الكمية، بينما ذكر 18.7% منهم أنهم لم يستطيعوا بعد إظهار هذا الأثر. في حين اعتبر 10.8% من قادة التسويق تحقيق العائد على الاستثمار في الأنشطة التسويقية بمثابة التحدي الأول بالنسبة إليهم. والواقع أنه كلما أظهر قادة التسويق أثر أنشطتهم التسويقية بدرجة أكبر، ازداد احتمال حصولهم على موارد إضافية لتعزيز التخطيط الاستراتيجي. وستصبح القدرة على استخدام تحليل البيانات لإظهار العائد على الاستثمار في التسويق أولوية استراتيجية في هذا القطاع وستميّز قادة التسويق البارعين عن البقية.
لا تتنافس على أساس السعر، بل أنشئ قيمة:
حسب أحدث استطلاع لمدراء التسويق، فإن قادة التسويق يعتقدون أن تركيز الزبائن في الوقت الحالي على الأسعار المنخفضة أقل من تركيزهم على الحصول على خدمة ممتازة ومنتجات ذات جودة فائقة. ومن شأن ازدهار الاقتصاد إحداث مثل هذا التحول، حيث يصبح الزبائن أقل قلقاً بشأن الاستدانة وأكثر قلقاً بشأن الجودة. ويجدر بك اتباع هذه التوجهات لإرساء المزيد من القيمة في العروض التي تقدمها، وعليك ألّا تضفي الطابع السلعي على منتجاتك أو تتنافس على أساس السعر. وتمهد هذه الاستراتيجية الطريق لتحقيق النمو في المدى الطويل مع توفير خيارات للابتكار وتعميق العلاقات مع الزبائن وعقد الشراكات التي تكفل سبل الحصول على موارد جديدة للقيمة والأسواق الجديدة.
وفي نهاية الحديث عن منظور النتائج قصيرة الأجل لدى الشركات، من طبيعة البشر التركيز على المهام السهلة التي تجعل النشاط التجاري يواصل العمل، بيد أن النتائج التي تحققها هذه العقلية التي تركز على المدى القصير تتضاءل بمرور الوقت. ويمكن أن يقود التسويق مسار الشركة صوب المستقبل بتوفير الدعم المناسب والتركيز الملائم.
تشكر كاتبتا المقال هولي لارسون التي ساهمت في كتابة هذا المقال. يُجرى "استطلاع مدراء التسويق" برعاية الجمعية الأميركية للتسويق (American Marketing Association) وشركة "ديلويت" وكلية فوكوا لإدارة الأعمال بجامعة ديوك.
اقرأ أيضاً: