ملخص: في ظل ازدياد الإقبال على أتمتة العمل بمختلف جوانبه، ازدادت أهمية تركيز الأفراد على اكتساب المهارات اللازمة لأداء المهام الإبداعية والابتكارية التي لا يمكن الاستغناء فيها عن العنصر البشري؛ إذ ترفع الآلات حالياً شعار "الكفاءة أولاً"، وبالتالي لم تعد أمام الإنسان فرصة سوى أداء الأعمال التي تختص بمعالجة المشكلات غير المرئية وانتهاز الفرص الخفية، لكن إذا منحنا الأفراد مساحة أكبر من الحرية والمسؤولية، فمَنْ يضمن لنا أنهم سيُحسنون استخدامها؟ تتصف إجابتنا عن هذا السؤال بالتناقض: نحن بحاجة إلى تقييد الحرية، وإطلاقها في الوقت نفسه. وهذا يعني أننا يجب أن نتوخى أقصى درجات الوضوح مع الموظفين بشأن كيفية قياس النجاح والمقاييس المُستخدَمة (تقييد الحرية). وبعد أن نوضح كيفية قياس النجاح، يجب أن نسمح للموظفين بحرية اختيار سبل الوصول إليه بأساليبهم الإبداعية المفضَّلة (إطلاق الحرية).
في ظل ازدياد الإقبال على أتمتة العمل بمختلف جوانبه، ازدادت أهمية تركيز الأفراد على اكتساب المهارات اللازمة لأداء المهام الإبداعية والابتكارية التي لا يمكن الاستغناء فيها عن العنصر البشري؛ إذ ترفع الآلات حالياً شعار "الكفاءة أولاً"، وبالتالي لم تعد أمام الإنسان فرصة سوى أداء الأعمال التي تختص بمعالجة المشكلات غير المرئية وانتهاز الفرص الخفية.
وقد تبيّن لنا بحكم خبرتنا العملية أن مثل هذا الحديث يصيب المسؤولين التنفيذيين بالقلق؛ فإذا منحنا الأفراد مساحة أكبر من الحرية والمسؤولية، فمَنْ يضمن لنا أنهم سيُحسنون استخدامها؟ كيف نتأكد أن الأفراد سيستخدمون الحرية بأساليب بنّاءة، دون أن يفقدوا قدرتهم على التركيز أو يهدروا وقتهم وجهدهم بسبب غياب التنسيق؟
تتصف إجابتنا عن هذا السؤال بالتناقض: نحن بحاجة إلى تقييد الحرية، وإطلاقها في الوقت نفسه. وهذا يعني أننا يجب أن نتوخى أقصى درجات الوضوح مع الموظفين بشأن كيفية قياس النجاح والمقاييس المُستخدَمة (تقييد الحرية). وبعد أن نوضح كيفية قياس النجاح، يجب أن نسمح للموظفين بحرية اختيار سبل الوصول إليه بأساليبهم الإبداعية المفضَّلة (إطلاق الحرية).
هذه الفكرة ليست جديدة تماماً؛ فمن المعروف أن مقصد القائد في الفكر العسكري، وهو آلية تُستخدم لتمكين المرؤوسين من ابتكار حلول إبداعية، يعزز القدرة على التكيف وحلّ المشكلات فور ظهورها في الوقت الحقيقي. واستعاض المسلسل التلفزيوني الكوميدي، "اكبح حماسك" (Curb Your Enthusiasm)، عن النص التقليدي بمخطط عام لنقاط الحبكة الرئيسية، ما سمح للممثلين بالارتجال لتوليد مواقف كوميدية.
والسؤال الذي يدور بخلد القادة غير العسكريين أو غير المتخصصين في الكوميديا الارتجالية هو: هل تحديد النتائج المرجوة مع إتاحة المزيد من الحرية أمرٌ عملي حقاً؟ نعتقد أنه كذلك؛ لكن من الناحية العملية، يتطلب هذا التحول إجراء تغيير جوهري في العقلية والممارسات الإدارية. لدى الكثير من المسؤولين التنفيذيين فكرة جيدة عن النتائج التي يرغبون في تحديدها. ويقدّر الكثيرون بحدسهم فكرة عدم التهاون في النتائج المطلوب تحقيقها مع إتاحة حرية التنفيذ، لكن قد تبدو نقطة البداية غامضة؛ لذا نقترح عليك اتباع 3 خطوات:
- ركّز على القدرات اللازمة لتحسين مستوى الأداء.
- أعِد تصميم بيئات العمل لتعزيز هذه القدرات.
- تابع المبادرات المبكرة العالية التأثير وأبلغ موظفيك بما يعنيه ذلك، في وقت مبكر وبأكبر قدر ممكن من الكثافة.
ركّز على القدرات اللازمة لتحسين مستوى الأداء
ثمة أهمية بالغة للظروف الماثلة على أرض الواقع (في العسكرية وفي مجال الأعمال التجارية!) يسهم بعض الظروف في تعزيز التحسين المستمر والمتواصل لمستوى الأداء. وجدنا في مثل هذه البيئات أن العاملين يتمتعون بقدرات متطورة للغاية على محورين: الاستكشاف والعلاقات.
العاملون الذين يعشقون الاستكشاف هم أفضل مَنْ يملك القدرة على الارتجال؛ فهم يتطلعون إلى التعامل مع ما هو غير متوقَّع ويعتبرونه فرصة للتعلُّم وإحداث تأثير حقيقي. وتشمل القدرات المتعلقة بالاستكشاف كلاً من حب الاستطلاع والخيال والقدرة على الإبداع. ولكي نكون مستكشفين بارعين، يجب أن نكون على أتم استعداد لتحمل المخاطر والفشل؛ لأن الاستكشاف لا يؤدي دائماً إلى النتائج المتوقعة من المحاولة الأولى.
يبحث العاملون الذين يحققون النمو في محور العلاقات باستمرار عن الآخرين الذين يمكنهم مساعدتهم على أداء عملهم على الوجه الأكمل. وتشمل القدرات المرتبطة بالعلاقات كلاً من الذكاء العاطفي والاجتماعي. تسمح هذه الصفات للأفراد بتحسين قدرتهم على التواصل وتبادل الخبرات بعضهم مع بعض واكتساب رؤى ثاقبة حول ما يصلح وما لا يصلح في سياقات مختلفة.
والأهم من ذلك، في حين أن بعض العاملين قد يكون لديهم ميل أكبر نحو الاستكشاف وتكوين العلاقات، فبمقدور كل عامل اكتساب هذه القدرات وتحسينها.
أعِد تصميم بيئات العمل لتعزيز هذه القدرات
استناداً إلى أبحاث شركة ديلويت، لدى 13% فقط من قوة العمل في الولايات المتحدة هذا النوع من الشغف الذي ينبع من الرغبة القوية في الاستكشاف وتكوين العلاقات. لماذا تنخفض المستويات إلى هذا الحد؟ كان لدى الكثير منا ذات يوم القدرات اللازمة للاستكشاف وتكوين العلاقات، وإن أردت الاقتناع، فما عليك سوى إلقاء نظرة على الأطفال في أي ملعب. لكن معظمنا تكيّف مع البيئات التي وجدنا أنفسنا فيها طوال حياتنا وتأقلمنا معها، بدايةً من قاعات الدراسة الشبيهة بالمصانع وصولاً إلى أماكن العمل التي تبدو كأنها مصممة بما يناسب منهج تايلور الاستبدادي في القيادة الذي جرى تطبيقه خلال القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من التطورات التكنولوجية الحديثة والمناهج الفكرية المعاصرة، لم يتخلص الكثير من بيئات العمل فعلياً من البنية التنظيمية القائمة على التحكم والسيطرة. فقد تكيف اليوم الكثير من العاملين مع دواعي الالتزام الصارم بالعمليات الموحدة والمحدَّدة بإحكام في هذه البيئات. في هذه الثقافة، قد يُنظر إلى طرح الكثير من الأسئلة بوصفه علامة تدل على الضعف (ألم تقرأ الدليل، أو تشاهد الفيديو، أو تبحث في الإنترنت؟)
ومع ذلك فإن القدرات الاستكشافية وتكوين العلاقات تظل كامنة داخلنا جميعاً. ربما لم تتح لنا الفرصة لممارستها منذ فترة من الزمن، لكن الظروف المناسبة يمكن أن تهيئ لها المناخ الملائم للظهور والازدهار. تحاول الشركات في كثير من الأحيان تحقيق هذه الغاية من خلال اعتماد نظام الحيز المكاني المفتوح أو من خلال توفير طاولات البينغ بونغ أو البلياردو. لكن هذه الجهود ستبوء بالفشل إذا استخدمتها الشركة ببساطة كواجهة استعراضية فحسب.
وتُعد شركة بيكسار أحد أبرز الأمثلة على إعادة تصميم بيئة العمل. عندما تقلّد ستيف جوبز منصب الرئيس التنفيذي للشركة، وضع مرافق الطعام ودورات المياه في منتصف المقر الرئيس للشركة بعد تطويره. وحفّز الموظفين على الالتقاء عدة مرات طوال اليوم. ووسّع أيضاً نطاق مرافق الطعام لإطالة الطوابير. شجع هذا الموظفين من مختلف الأقسام على تجاذب أطراف الحديث في أثناء انتظار وجباتهم، ما يزيد من احتمالية اللقاءات التصادفية.
تابِع المبادرات المبكرة العالية التأثير
تتمثّل الخطوة التالية في اختيار المشاريع التي يحقق فيها هذا النهج الإداري الجديد أثراً ملموساً وملحوظاً. وبدلاً من طرح الكثير من المبادرات في البداية، ركّز على عدد محدود من المبادرات القادرة على إحداث أكبر قدر ممكن من التأثير. نقترح اتباع نهج قائم على التجريب ويتألف من 5 خطوات:
- تحديد مجال التركيز باستخدام نهج المقاييس المهمة.
- استعراض مختلف الفرضيات المرتبطة بمنهجيات إعادة صياغة العمل.
- اختبار الفرضيات الناتجة عن التجارب الواقعة ضمن مجال التركيز.
- قياس النتائج.
- إجراء تجارب محدودة النطاق.
كيف تحدّد مجالات التركيز؟ ابدأ بإلقاء نظرة فاحصة على الأداء المالي العام للشركة وحدد أهم مواضع الشكوى المالية أو مجالات الفرص المتاحة.
على سبيل المثال، تخيّل أن الإيرادات لا تنمو بالمعدل الذي يتوقعه المستثمرون.
يؤدي ذلك إلى المستوى الثاني من التحليل؛ أي مقاييس التشغيل. يكمن السر هنا في تحديد مقاييس التشغيل التي يبدو أن لها أكبر الأثر في معالجة المقياس المالي الذي اخترته. في هذا المثال، قد يكون السبب هو معدل استنزاف العملاء، إذ تخسر الشركة العملاء بمعدل مرتفع، ما يجعل نمو الإيرادات تحدياً صعباً.
يؤدي ذلك إلى المستوى الثالث من التحليل؛ أي مقاييس الخط الأمامي. ما عناصر الأداء في الخطوط الأمامية التي يبدو أنها سبب رئيسي في مقاييس التشغيل المخيبة للآمال؟ في مثالنا، قد يرجع معدل استنزاف العملاء المشار إليه أعلاه إلى شعورهم بالإحباط عندما يطلبون المساعدة من مركز اتصالات العملاء؛ إذ لا يتلقون الرد على أسئلتهم بفعالية، لذا ينزعجون ويتوقفون عن التعامل مع الشركة.
تمكّنا الآن من تحديد مجموعة من العاملين وبيئة العمل التي يبدو أن لها أثراً سلبياً على أداء الشركة ككل. وإذا تمكّنا من إعادة تعريف عمل هذه المجموعة بحيث يركزون بقدر أكبر من الفعالية على حلّ المشكلات وتحديد الفرص؛ أي توضيح ما يعنيه ذلك لهم وللمؤسسة والمقاييس التي نستخدمها لقياس النجاح، فلك أن تتخيل النتائج الإيجابية. قد يؤدي هذا إلى زيادة رضا العملاء، ما سيؤدي بدوره إلى تراجع معدل استنزاف العملاء ويجعل محاولات رفع نمو الإيرادات أكثر جدوى. وهذا مجال تركيز واعد للغاية في المراحل المبكرة.
لقد استخدمنا مثالاً واحداً، ولكن قد ينصبُّ التركيز على أي مجموعة من العاملين داخل الشركة. يكمن السر هنا في العثور على جانب واعد يمكن أن يحدث تأثيراً سريعاً وملموساً من خلال البدء باستثمارات متواضعة نسبياً. سيحظى هذا باهتمام كبار المسؤولين التنفيذيين في الشركة ودعمهم. بالإضافة إلى ذلك، ستتعلم المزيد عن الأساليب التي تحقق أكبر الأثر في ظل إطلاق المزيد من المبادرات. يمكنك بعد ذلك الحصول على المزيد من الفرص لتحسين كيفية التعامل مع السياق المحدَّد لموظفيك في وقت معين. في مؤسسة تعمل تحت إشراف عدد من أصحاب المناصب التنفيذية العليا الذين يعملون معاً بتناغم شديد كما لو كانوا فرقة موسيقية تعزف سيمفونية رائعة ولا يعمل أي منهم في صوامع منعزلة، ستخلق هذه الدروس المستفادة حلقة ملاحظات إيجابية من التعلم في جميع أنحاء المؤسسة.
توفر إعادة تعريف العمل على المستوى الأساسي فرصة هائلة اليوم؛ إذ يمر اقتصادنا العالمي بتغيرات عنيفة، والشركات التي تدرك أن خلق القيمة يتطلب توافر مهارات تتجاوز عنصر الكفاءة ستكتسب ميزة تنافسية. يمكن للمؤسسات زيادة القيمة التي تقدمها لعملائها ولأصحاب المصالح، ويمكن للأفراد استغلال إمكاناتهم أحسن استغلال. ونعتقد أنه من العملي فعل ذلك من خلال تحديد النتائج التي تريدها، وتحقيق التوازن بينها وبين إتاحة المزيد من الحرية للعاملين في المستقبل.