كيف أثبتت التجارب صدق توقعات بيتر دراكر حول عالم الأعمال؟

3 دقائق
توقعات بيتر دراكر
shutterstock.com/TPYXA_ILLUSTRATION

سعى بيتر دراكر جاهداً طيلة حياته لفهم التعقيدات المتزايدة التي غزت عالم الأعمال والمجتمع عموماً، والأهم من ذلك أنه أراد معرفة مدى قدرتنا على مواصلة خلق القيمة وتقديمها في مواجهة هذا الكم من التعقيدات وفهم الآثار المترتبة عليها. وأود أن أشير هنا إلى أنني تأثرتُ أيّما تأثُّر بأعمال دراكر. فقد بلغت عبقريته حداً جعله يتوقع في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته بعض الآثار المترتبة على التحول الكبير الذي لم يظهر على مسرح الأحداث إلا منذ عهد قريب، ويتمثّل في الانتقال إلى اقتصاد المعلومات ومركزية العمل المعرفي والأثر التحويلي للتكنولوجيا الرقمية على العمل بمختلف أشكاله وأنواعه.

تزامنت في ذلك الحين تقريباً قوّتان عملت كلٌّ منهما على تضخيم القدرة المزعزعة للأخرى. تمثّلت أولاهما في انتشار المعالجات الرقمية الدقيقة وشبكات تبديل الحُزَم التي بشّرت بظهور البنية التحتية الرقمية التي امتدت في نهاية المطاف إلى جميع أنحاء العالم، مدفوعة بالتطورات الهائلة في مستوى أداء تكنولوجيا الحوسبة والتخزين وعرض نطاق التردد. وكانت التكنولوجيا الرقمية السبب الرئيسي في ظهور القوة الثانية التي راحت تتشكل منذ بضعة عقود من الزمن، وتتمثّل في اتخاذ السياسة العامة اتجاهاً عالمياً نحو التحرُّر الاقتصادي من خلال هدم الحواجز التي تعوق حركة السلع والأموال والأفراد والأفكار عبر حدود الدول والقطاعات بطريقة مُمنهَجة.

خلق الجمع بين هاتين القوتين فرصاً هائلة، لكنه خلق أيضاً تحديات هائلة، فقد أدت هاتان القوتان إلى تقلُّص حواجز الدخول إلى الأسواق والتنقل على مستوى العالم واختفائها بدرجة كبيرة وبطريقة مُمنهَجة. كانت النتيجة ازدياد الضغوط على الأداء وتأثيرها عليه بقسوة. وتتجلى الأدلة الدامغة على هذه الضغوط في العائد على أصول الشركات العامة من مختلف الأشكال والأحجام في الولايات المتحدة منذ عام 1965. شهدت هذه الفترة تراجع مستوى الأداء باستمرار وبدرجة هائلة؛ حتى إن العائد على الأصول سجَّل انهياراً غير مسبوق إثر تراجعه بنسبة 75%.

عندما بدأت هذه الآثار الظهور في السبعينيات والثمانينيات، كتب دراكر بتوسُّع عن ضرورة تغيير ممارسات الإدارة. كان يعلم أن تغير طبيعة العمل وتسارع وتيرة التغيير سيجعلان الممارسات الإدارية الحالية ومهارات الموظفين عديمة الجدوى وعاجزة عن تلبية احتياجات اقتصاد المعلومات المُرتقَب ظهوره في المستقبل القريب بأسرع مما نتوقع. ويؤكد التراجع الواسع النطاق الذي شهده العائد على الأصول أن ممارساتنا ومؤسساتنا الإدارية تجد صعوبة في الاستجابة للضغوط المستمرة، لكن لماذا لم تستجب المؤسسات لنداءاته بالجدية المطلوبة؟

تُقدّم الزيادة الهائلة في تعقيد المشهدين الاقتصادي والاجتماعي على مدى هذه العقود تفسيراً جزئياً على الأقل. ثمة الكثير من الطرائق لتفسير التعقيد، ولكن أحد الأبعاد الرئيسية يتمثّل في قوة التواصل بين المشاركين ودرجة التفاعل بينهم. وبفضل القوى الموضحة أعلاه، ازدادت قدرتنا على التواصل على مستوى العالم وغدت أقوى من أي وقت مضى. لم يقتصر الأمر على زيادة درجة التواصل بين عدد أكبر من الأشخاص فحسب، بل ازدادت سرعة التفاعلات بينهم بدرجة كبيرة، بحيث يمكن حتى للأحداث الصغيرة في المناطق النائية أن تنتشر بسرعة هائلة، ما يؤدي إلى إطلاق سلاسل تعاقبية من الأحداث التي تتطور بما يتجاوز توقعات أي شخص. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الحركات السياسية الشعبية التي تعمل على زعزعة استقرار الأنظمة السياسية "الراسخة" في مختلف أنحاء العالم. فمنذ أن ظهرت القوانين الأُسية ذات الأرقام المهولة والذيول الطويلة جداً، أخذت تزاحم تدريجياً المنحنيات الجرسية المألوفة التي جعلت الحياة تبدو قابلة للتنبؤ.

يتعين علينا في هذه البيئة أن نعيد النظر في الافتراضات الأساسية التي قادت نجاح أعمالنا في الماضي، بدءاً بالإجابة عن أهم سؤال على الإطلاق: لماذا نحضر أصلاً إلى المؤسسات والشركات؟ قبل ما يقرب من 80 عاماً، حصل رونالد كواس على جائزة نوبل في الاقتصاد عن مقال اقترح فيه أننا نفعل هذا من أجل تعزيز كفاءة قابلة للتطوير؛ فتنسيق الأنشطة داخل الشركة أقل تكلفة مقارنة بتنسيقها بين مؤسسات مستقلة. كان هذا وصفاً دقيقاً في ذلك الحين إلى حد ملحوظ يعطي تفسيراً منطقياً للأسباب الداعية إلى ظهور الشركات الكبرى على مستوى العالم.

لكن الأمور تغيرت. ومع تزايد تعقيد بيئتنا، يجب أن نتراجع خطوة إلى الوراء ونعيد النظر في هذا التفسير؛ لأن تكلفة تنسيق الأنشطة بين المؤسسات المستقلة على مستوى العالم شهدت تراجعاً ملموساً اليوم وبات تذليل الصعوبات التي تكتنفه أمراً ميسوراً. وفي ظل تسارع وتيرة التغيير وتزايد درجة عدم اليقين، ربما تدعو الحاجة إلى إيجاد مبررات جديدة لدفع النجاح المؤسسي في المستقبل. ربما نحتاج إلى الانتقال من التفسير المنطقي القائم على تعزيز الكفاءة القابلة للتطوير إلى تفسير يرتكز على تعزيز التعلُّم القابل للتطوير؛ أي تصميم المؤسسات والبُنى التنظيمية للعلاقات عبر المؤسسات بطريقة تساعد المشاركين كلهم على التعلُّم بوتيرة أسرع في ظل انضمام المزيد من المشاركين.

لم يصُغ دراكر الأمر بهذه العبارات تحديداً، ولكننا مُطالَبون بتوجيه تركيزنا إلى الابتكار بما يتجاوز المفهوم الضيق للتكنولوجيا وابتكار المنتجات. وإذا أردنا أن نتكيّف بنجاح مع التعقيد المتصاعد الذي تتسم به بيئتنا، فعلينا أن نستثمر المزيد من الوقت والطاقة في استكشاف الإبداع المؤسسي. في كتاباته اللاحقة، بدأ دراكر الإلمام بالنواحي العامة لهذه الفكرة من خلال طرح العديد من الأفكار التي لا تزال صالحة للتطبيق في واقعنا المعاصر:

  • أهمية التعلُّم مدى الحياة في مجتمع المعلومات الذي يشهد تطورات متلاحقة.
  • الحاجة إلى تحقيق اللامركزية في تعامل المؤسسات مع الموظفين والنظر إليهم بوصفهم أصولاً قادرة على تعزيز النمو بدلاً من اعتبارهم تكاليف ثابتة يجب التخلص منها، إلى جانب الابتعاد عن العمليات ذات المعايير الموحَّدة والمحددة بإحكام.
  • ضرورة تركيز المؤسسات على بناء القدرات استناداً إلى نقاط القوة الأساسية، وهو أحد الأسباب التي جعلته من أوائل المؤيدين للاستعانة بمصادر خارجية أو ما يُعرّف بالتعهيد بوصفه وسيلة لتبسيط العمليات وتركيز الإدارة على الجوانب ذات الأهمية الحقيقية.
  • أهمية التركيز على ديناميات العمليات الاقتصادية والاجتماعية المتطورة بدلاً من التركيز على نماذج التوازن المستقر.

نجح دراكر في توقع الكثير من التحديات والفرص التي نواجهها جميعاً في مجتمع عالمي يشهد تعقيدات متزايدة. ومنوطٌ بنا أن نكمل من حيث توقف هو.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي