مثل العديد من الشركات، تعرب شركة "ريو تينتو" (Rio Tinto)، وهي ثاني أكبر شركة تعدين في العالم، عن تضامنها مع أصحاب المصلحة بعبارات قوية. إليكم ما ورد في تقريرها السنوي:
بوصفنا شركة تعدين ومعادن، فإننا ندرك التأثير الذي يمكن أن تُحدثه شركتنا على العديد من أصحاب المصلحة وما يتبع ذلك من مسؤوليات أكبر. ونحن نعمل بجد لفهم احتياجات أصحاب المصلحة وتوقعاتهم. ونرغب في أن يسمح لنا نجاحنا بالاستثمار للوفاء بالتزاماتنا تجاه موظفينا وعملائنا وموردينا والمجتمعات المحلية والحكومات المضيفة، بالإضافة إلى تحقيق عائدات عالية للمساهمين.
ومع ذلك، في 24 مايو/أيار عام 2020 فجّرت "ريو تينتو" كهوف "جوكان غورج" (Juukan Gorge) لدرجة أنها اندثرت، وهي مكان مقدس للسكان الأصليين عمره 46 ألف سنة في منطقة بيلبرا غرب أستراليا حيثما تنقب الشركة عن الحديد الخام. قامت "ريو تينتو" بذلك لأنها تسعى إلى مزيد من التوسع، مع علمها التام بوجود الموقع وأهميته. وقد أوضح الرئيس التنفيذي أن عدم الشروع في ذلك كان سيكلف الشركة 135 مليون دولار. فقد كان يتعرض لضغوط لزيادة الأرباح إلى أقصى حد ممكن من الحديد الخام.
كانت استجابة المجتمع الأسترالي مرعبة. فقد استمرت المنافذ الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي في الحديث عن القضية بلا هوادة، وأعرب مساهمو الشركة حول العالم عن غضبهم الشديد. كما أن صناديق التقاعد الكبيرة، بما في ذلك "هيستا" (Hesta) و"أوستراليان سوبر" (Australian Super) (وهما أكبر صندوقين في أستراليا)، طالبت مجلس إدارة "ريو تينتو" بتقديم تفسيرات. وكانت النتيجة، حتى الآن، هي إجبار الرئيس التنفيذي واثنين من كبار المسؤولين التنفيذيين على الاستقالة بطريقة مخزية. وتشير التوقعات إلى أنه سيكون هناك المزيد من التداعيات في المستقبل.
كيف يمكن لشيء كهذا أن يحدث؟
المقاييس مقابل أصحاب المصلحة
لا شك أنك سمعت مقولة: "ما يمكن قياسه يمكن إدارته". وهي صحيحة، ولكن لماذا؟ لأن ما يمكن قياسه، يمكن ملاحظته، حيث يستجيب الرؤساء التنفيذيون والمسؤولون التنفيذيون الآخرون لما تلاحظه مجالس الإدارة والمساهمون. يمكنك أن ترى ذلك في قطاع التعدين، حيث تقيس مجالس الإدارة مستويات السلامة وتسلط الضوء عليها، ويروج لها الرؤساء التنفيذيون عندما تكون جيدة. فقياس الشيء يرفع مكانته ويحسن صورته.
قد تتوقع أن المقاييس الرئيسية لشركة "ريو تينتو" تتضمن مقاييس لمدى جودة أدائها على الأبعاد التي يقيمها كل من أصحاب المصلحة المحددين. ولكن هل تتضمن ذلك بالفعل؟
تنشر الشركة مؤشرات أدائها الرئيسية في تقريرها السنوي، وتسلط الضوء على 8 مقاييس للمساءلة. تتعلق 6 منها بالمساهمين وتختص بالمقاييس المتعلقة بالربحية والعائد على رأس المال المستثمر والديون. وهناك مؤشر واحد يتعلق بالموظفين وهو مختص بالسلامة، ويُقاس من خلال "معدل تكرار جميع الإصابات". ومؤشر الأداء الرئيسي المتبقي، وهو "كثافة مجموع انبعاثات الغازات الدفيئة"، هو المؤشر الوحيد الذي يتعلق بالمجتمع.
من الواضح أن هناك عدم توافق بين أصحاب المصلحة الذين تعتبرهم "ريو تينتو" أساسيين ومقاييس نجاح الشركات التي تعتمدها. لنأخذ مثالاً محدداً من تقريرها السنوي؛ حيث تقر الشركة بأن "الموردين" من "العناصر الأساسية لنجاح أعمالها" ولكنها فشلت في إدراج مؤشر أداء رئيسي واحد لتتبع الأداء في هذا الصدد.
هل شركة "ريو تينتو" حالة استثنائية؟
للإجابة عن هذا السؤال، راجعت التقارير السنوية لخمس شركات تعدين أخرى: "بي آتش بي" (BHP) (الأكبر عالمياً) و"فورتسكيو" (Fortescue) و"نيوكريست" (Newcrest) و"وودسايد بتروليوم" (Woodside Petroleum) و"سانتوس" (Santos). (الشركات الستة جميعها ضمن أكبر 20 شركة أسترالية من حيث القيمة السوقية).
تنشر شركة "بي آتش بي" مؤشرات أدائها الرئيسية كما تفعل شركة "ريو تينتو"، وعددها 9. تتعلق 5 مؤشرات بالمساهمين، و2 بالموظفين (كلاهما يتعلق بالسلامة)، و2 بالمجتمع. ذهبت شركة "فورتسكو" إلى ما هو أبعد من ذلك حيث قللت عدد مؤشرات أدائها الرئيسية إلى قائمة مكونة من 3 مؤشرات. لذا من الواضح أن "ريو تينتو" ليست شركة التعدين الأسترالية الكبيرة الوحيدة التي لا تتوافق مقاييسها مع شعاراتها.
ولكن شركات التعدين ليست المتهم الوحيد. فمصرف "كومنولث بنك" (Commonwealth Bank)، وهو البنك الأكبر في أستراليا، يشير إلى "العملاء والمجتمع والموظفين والمساهمين" بوصفهم أصحاب المصلحة الرئيسيين في تقريره السنوي. ولكن عندما يتعلق الأمر "بالمقاييس الرئيسية" في التقرير السنوي للبنك، فقد تضمّن 8 مقاييس تتعلق 7 منها بالمساهمين ومقياس واحد خاص بالعملاء.
ويأتي ذلك على الرغم من النتائج التي توصلت إليها لجنة ملكية (هيئة تقصي رفيعة المستوى) عام 2018 بشأن سوء السلوك المصرفي لهذا البنك. تمثلت إحدى القضايا التي حددتها اللجنة في تقريرها في أن البنوك أولت القليل من الاهتمام لمراقبة الثقافة المؤسسية وبالغت في التشديد على قياس الأرباح. ولكن في مثل هذا السياق، كان من المتوقع أن يضع البنك مؤشر أداء رئيسي لقياس مدى جودة خدمته لموظفيه.
***
لم يُعتمَد التركيز على أصحاب المصلحة إلا من جانب "رابطة المائدة المستديرة للأعمال" (Business Roundtable) بالولايات المتحدة، حيث يمثل رؤساؤها التنفيذيون شركات كبرى مثل "آبل" و"وول مارت". وفي 19 أغسطس/آب العام الماضي، أصدرت الرابطة بياناً أبطل كل ما كان قبله. وقد وقّع على البيان 181 رئيساً تنفيذياً، وذكر أن الشركة موجودة من أجل منفعة جميع "أصحاب المصلحة" بما في ذلك "العملاء والموظفين والموردين والمجتمعات والمساهمين". وقد تحرك مجتمع الأعمال الأسترالي في الاتجاه نفسه. ففي قمة "المعهد الأسترالي لمدراء الشركات" التي عُقدت في سيدني في مارس/آذار عام 2019، دعا المتحدثون الرئيسيون، بما في ذلك الرئيس التنفيذي للمعهد ورئيسه، مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيين إلى توسيع نطاق نظام حوكمة الشركات الخاص بهم ليستوعب "أصحاب المصلحة".
ولكن إلى أن تبدأ شركات مثل "ريو تينتو" في جعل مقاييسها متسقة مع شعاراتها، يؤسفني أن أقول أننا سنشهد المزيد من الفضائح كفضيحة تدمير كهوف "جوكان".