بعد أن حظيت نظرية "الابتكار المُزعزِع" (Disruptive Innovation)، بنصيبها من النجاح لفترة طويلة من الزمن، تتعرض في الآونة الأخيرة إلى الكثير من الهجوم وسهام النقد. خلال العام الماضي، نشرت مجلة "ذا نيويوركر" (The New Yorker)، مقالاً لجيل ليوبور، أستاذة التاريخ في جامعة "هارفارد"، شنّت فيه هجوماً على مفهوم الابتكار المُزعزِع بأكمله، معتبرة أنه ينطوي على مبالغة كبيرة، ولا يستند إلى أسس علمية متينة.
ومؤخراً، نشرت مجلة "إم آي تي سلون مانجمنت ريفيو"، المتخصصة بالإدارة، مقالاً طرح فيه آندرو كينغ، الأستاذ في "كلية دارتموث" (Dartmouth University)، السؤال التالي: "ما مدى فائدة نظرية الابتكار المُزعزع؟" وخلص في المقال إلى أنها ليست بالقيمة التي يزعمها أنصارها والمدافعون عنها.
نظرية الابتكار المُزعزِع عند كلايتون كريستنسن
أما وجهة نظري الشخصية، فهي أن كلايتون كريستنسن وزملاءه من المؤلفين، واضعي النظرية قدموا إسهامات جليلة في فهمنا للابتكار. وبالتحديد، فإن أبحاث كريستنسن توفر منظاراً مهماً يساعدنا في فهم السبب الذي يجعل المؤسسات الراسخة تخسر غالباً أمام الشركات الناشئة التي تهاجمها انطلاقاً من الشريحة الدنيا من السوق، فأصحاب الأسلوب المُزعزع، إذا جاز التعبير، يتبنون تكنولوجيا جديدة ويستهدفون شريحة من السوق لا تهم الشركات الراسخة حالياً، ومن ثم يعتلون موجة التحسينات التي تطال هذه التكنولوجيا للتوسع وقضم جزء من القاعدة الأساسية لزبائن الشركات الراسخة المنافسة.
ويواجه القادة في الشركات الراسخة معضلة حقيقية جداً: فإما أنهم يستثمرون للحفاظ على أعمالهم الحالية، وهو أمر مُثبت ومربح، أو يقتحمون مجالات جديدة معرّضين بذلك أعمالهم الأساسية للخطر جراء فقدانهم تركيزهم أو تعرضهم للقضم، كما قلنا، من الشركات الناشئة.
تعتبر نظرية الابتكار المُزعزع نظرية بسيطة تسعى إلى تفسير سبب فشل العديد من الشركات، لكن ليس على الإطلاق. وهذه هي النقطة الأساسية التي تضيع في خضم هذا السجال بين مناصري النظرية من جهة ومنتقديها من جهة أخرى. فالشركات تخفق في التجاوب مع الابتكار لأسباب عديدة، ولا توجد نظرية وحيدة يمكنها تفسير كل حالة من الحالات. ولحسن الحظ، فإن نظرية الابتكار المُزعزع ليست مضطرة أصلاً إلى الاضطلاع بهذه المهمة. فالعمل الذي قام به كريستنسن هو جزء من إطار أوسع من الأبحاث التي تعتبر أقدر على تفسير الأمور إذا ما أخذت بمجملها بالمقارنة مع الاعتماد على نظرية وحيدة فقط.
وكان العمل المبدئي الذي قام به كريستنسن خلال تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت مجموعة من الباحثين، والعديد منهم في كلية "هارفارد للأعمال"، يدرسون الأسباب التي تجعل شركات راسخة مثل "بولارويد" (Polaroid) أو "ديك، تعاني في التكيّف مع التغيّر التكنولوجي رغم امتلاكها موارد هائلة ومهندسين موهوبين وقادة مثيرين للإعجاب. ولأكثر من عقد من الزمن، حاولت هذه المجموعة من الباحثين تقديم إجابة عن هذا السؤال وطبقت طرقاً فكرية مختلفة ودرست قطاعات متباينة وولدت مجموعة كبيرة من الآراء المتبصرة التي عمقت فهمنا للسبب الذي يجعل شركة جيدة تفشل.
وفي دراسة أكاديمية أجريت عام 1990 وشملت قطاع "معدات أنصاف النواقل"، خلص كيم كلارك وريبيكا هندرسون، إلى أن التنظيم وحركة المعرفة في شركات التكنولوجيا الرفيعة يشبهان بنية المنتجات الأساسية التي تصنعها هذه الشركات. وعندما تتغير بنية المنتج، من خلال تغير طريقة تكامل المكونات ضمن نظام هذا المنتج، على سبيل المثال، غالباً ما تعاني الشركات الراسخة في التأقلم مع الظروف الجديدة، لأن تغيير بنيتها المؤسسية، التي لا تزال تجسد البنية القديمة للمنتج، عملية صعبة وتستغرق الكثير من الوقت.
وبعد مرور عامين من الزمن، نشرت دورثي ليونارد بارتون، نتائج دراسة شملت 20 مشروعاً للابتكار في شركات مثل "فورد" و"إتش بي" و"شابرل ستيل" (Chaparral Steel)، وتوصلت ليونارد بارتون إلى أن الشركات اضطرت إلى ضخ استثمارات هائلة من أجل بناء الكفاءات التقنية المطلوبة للتميّز ضمن مسار تقني محدد، وكانت هذه القدرات متجذرة بعمق في روتين العمل ضمن المؤسسة، كما كانت متجذرة أيضاً في ثقافة المؤسسة، لكن عندما واجه قادة الشركات الرائدة في السوق تكنولوجيا جديدة، كانوا غالباً يكتشفون أن القدرات القديمة لشركاتهم غير مناسبة تماماً للظروف الجديدة، ويصعب تغييرها، وتتحول الكفاءات الأساسية في هذه الحالة إلى عناصر أساسية غير مرنة ومن الصعب تغييرها.
خلال 1995، نشر كريستنسن وجو بوير، المقال الذي طرحا فيه على الجمهور للمرة الأولى مفهوم التكنولوجيا المُزعزعة "Disruptive Technology"، وكان جو أجرى سابقاً دراسة رائدة حول كيفية تخصيص الموارد ضمن الشركات الكبيرة، حيث شكلت هذه الدراسة الأساس في صياغة هذا المقال المهم لكريستنسن وجو. وأُجبِرت هذه الشركات نتيجة تعاملها مع التكنولوجيا المُزعزعة على الاختيار بين تمويل الأنشطة الحالية والمراهنة على أنشطة جديدة. وكان المدراء التنفيذيون الذين يديرون الأقسام التجارية التي تخدم الزبائن الحاليين هم عادة من يربح في نهاية المطاف، ليس لأن الأمر كان في المصلحة الفضلى للشركة على المدى البعيد، وإنما لأنهم تمتعوا بالسلطة التي كانت في يدهم نظراً لأنهم هم من يكسب المال فعلياً في الشركة.
خلال العام التالي، نشر "باور" و"تومو نودا"، دراسة مقارنة بين الشركتين اللتين نجمتا عن تقسيم شركة "أيه تي آند تي" (AT&T)، حيث نجحت إحدى الشركتين في مجال الهواتف الخلوية، بينما أخفقت الثانية. وكانت الخلاصة الأساسية هي أن الاستثمارات المبكرة في تكنولوجيا الهاتف الخلوي جعلت من الأسهل تبرير كل استثمار لاحق. فإذا لم تقم بتلك المراهنة الأولى، سيكون من الصعب عليك مواكبة الأحداث لاحقاً.
وشخصياً أجريت دراسةً أواخر تسعينيات القرن الماضي اكتشفت فيها السبب الذي جعل شركات راسخة في مجال صنع إطارات السيارات مثل "فايرستون" (Firestone) و"يوني رويال" (Uni Royal)، تفشلان في تبنّي التكنولوجيا الجذرية التي أثبتت تفوقها في أوروبا. وكانت النتيجة الأساسية أن هذه الشركات الرائدة وضعت مجموعة من الالتزامات التي عززت بعضها حيث التزمت بتعزيز القدرات التقنية، والموارد مثل المصانع والعلاقات مع الزبائن إضافة إلى الاهتمام بالنماذج الفكرية الحاكمة لبيئة العمل وبثقافة المؤسسة ذاتها. ونتيجة لذلك، لم يترسخ كل التزام من هذه الالتزامات مع مرور الوقت فحسب، بل تداخلت أيضاً واعتمدت على بعضها البعض بطريقة جعلت من الصعب جداً تغيير النظام بأكمله. وبناءً عليه، يمكن القول إن الشركات غالباً ما تتجاوب حتى مع التغييرات الكبيرة بشيء من القصور الذاتي النشط، أي أنها تسرع أنشطتها التي نجحت في الماضي.
الخلاصة الأساسية هي التالي: لا توجد نظرية واحدة، ولا حتى نظرية أنيقة مثل نظرية الابتكار المُزعزع، قادرة على تفسير كل شيء. لكن كريستنسن لم يضعها لهذا الغرض أصلاً. وليس ذنبه بالتأكيد أن عبارة "الزعزعة" (Disruption) باتت كلمة شائعة جداً ومرادفة لكلمة "تغيير". فالنقاد محقون في القول إن نظرية واحدة لا يمكن أن تفسر جميع الحالات، لكن ليس من المنطقي أيضاً الادعاء أن مقهوم الابتكار المزعزع عديم الجدوى. فهذا الإطار الفكري هو أحد الأدوات الفكرية المتاحة لأي قائد يرغب في فهم قوة الابتكار وتسخيرها لمصلحته.