تعرّف الإنتاجية في أبسط أشكالها بأنها مقدار القيمة المنتجة مقسم على مقدار التكلفة (أو الوقت) المطلوبة. بينما تبدو هذه المعادلة بسيطة ظاهرياً، إلا أن الاستراتيجيات التي تهدف إلى تحسينها تطورت بصورة كبيرة على مدى العقدين الماضيين. أتاحت التكنولوجيا تحقيق مكاسب هائلة في الإنتاجية الشخصية؛ حيث سهلت أجهزة الحاسب الآلي وجداول البيانات والبريد الإلكتروني وغيرها من التطورات على موظفي المعرفة إنتاج المزيد من العمل في يوم واحد أكثر مما كان يمكن إنجازه خلال عام. ربما من المنطقي إذاً أن نقول أن تحقيق الإنتاجية في مكان العمل تزداد بسرعة عندما يكون الأفراد قادرين على أداء أعمالهم بصورة أسرع وأفضل.
مشكلة تحقيق الإنتاجية في مكان العمل
ولكن ثمة مشكلة، إذ تشير بيانات حكومة الولايات المتحدة الأميركية إلى أن إنتاجية العمالة العامة ازدادت بمقدار 1 إلى 2% فقط سنوياً أثناء فترة الازدهار التقني. من الصعب تقبل هذا الرقم في ظل تريليونات الدولارات التي استثمرت في تلك الفترة. ولذا أفترض وبقوة أننا نركز على النوع الخاطئ من الإنتاجية، وبالتالي النوع الخاطئ من الإدارة. فقد اتضح أن الإنتاجية المؤسسية هي ليست مجرد مجموع الإنتاجية الشخصية. وهذا فرق مهم جداً. ربما يساعد هذا المثال من واقع شركتي "فولو متركس" (VoloMetrix)، وهي الآن جزء من شركة مايكروسوفت، على إيضاح الفرق.
عملنا مع شركة تقنية تقدر بمليارات الدولارات يأتي معظم ربحها عبر نظام بيئة عمل ضخم مكون من عدة شركاء (من موزعين ومصنعين وغيرهم). شهد هؤلاء أعواماً من النمو القوي، ولكنهم قرروا التركيز أكثر على النمو المربح بدلاً من مجرد النمو. أحد الأمور التي أرادوا فهمها كانت تكلفة إدارة نظام بيئة عمل الشركاء، إذ كانوا يفترضون وجود أساليب إدارية أكثر فاعلية.
بدؤوا العمل بإعطائنا قائمة من 700 موظف تقريباً ممن اعتقدوا أنهم يمثلون عينة الوظائف التي تتطلب التعامل مع الشركاء في مؤسستهم. وطلبوا منا التأكيد على تضمن العمل الذي يقوم به أولئك الموظفين التفاعل المباشر مع الشركاء، وإخبارهم في حال نسيانهم لأي موظف. (لإثراء السياق الذي يمثل خلفية هذا الموضوع، طبقنا تقنيات التنقيب عن البيانات على بيانات بريد إلكتروني وتقويم مجهولة المصدر وجمعناها مع بيانات من الموارد البشرية وإدارة علاقات العملاء بغرض بناء قاعدة حقائق متينة حول الوقت المستغرق في التواصل المباشر مع كل شريك في كل فريق عبر المؤسسة كاملة من بين مهام أخرى).
اتضح أن هذه القائمة لم تكن تمثل عينة الموظفين المعنية. ففي الواقع، يتفاعل 7 آلاف موظف تقريباً مع الشركاء مباشرة لمدة ساعة أسبوعياً خلال عام، حيث خُصص مليونا ساعة لإنجاز هذه التفاعلات المباشرة مع الشركاء (تراسل عبر البريد الإلكتروني واجتماعات). وهذا يعادل تقريباً 200 مليون دولار من وقت الموظفين سنوياً، والذي لا يتضمن أي مناقشات داخلية أو تحضيرات.
إنه رقم ضخم. والأسوأ من ذلك أن هذا الرقم أضخم بكثير مما توقعته إدارة الشركة. في الواقع، لم يكن لدى الشركة فكرة كيف يقضي الموظفون ككل أوقاتهم فيما يتعلق بأهم نشاط مدرّ للدخل في الشركة.
ومع ذلك، لا تعني ضخامة الرقم خسارة بالضرورة بالنظر إلى كم الدخل الوارد عبر أولئك الشركاء. علي أي حال، استطعنا لاحقاً دراسة العلاقات بين الوقت المستثمر مع كل شريك ونجاح ذلك الشريك. أخذنا بعين الاعتبار النمو ومجمل الحجوزات والقيمة الاستراتيجية وغيرها من مقاييس النتائج مقسمة بحسب المنطقة الجغرافية ونوع الشريك ومدة العلاقة. وباستخدام بعض تقنيات معالجة اللغات الطبيعية استطعنا أيضاً توقع مواضيع كل جلسة تفاعلية بصورة جيدة (كأن تكون متعلقة بالمبيعات أو المنتجات أو البرامج وغيرها). كنا نرجو أن يؤتي الوقت والتكلفة المستثمران في كل شريك ثمارهما.
ولكن هذا ما لم يحصل.
الإنتاجية العالية للموظفين
ظهرت بالطبع بعض العلاقات المرتبطة بتوليد قيمة الشريك، ولكنها لم تظهر إلا عندما حددنا بدقة نوع الشريك ونوع التواصل. بعد نقاشات مطولة خلصنا إجمالاً إلى أن 50% على الأقل من مجمل الوقت الذي يقضيه الموظفون في التفاعل مع هؤلاء الشركاء لم يثمر عن أي قيمة لصالح المؤسسة. وهنا نتحدث عن مليون ساعة سنوياً (لا تتضمن الوقت المستغرق في التحضيرات الداخلية)، أو ما يعادلها من دوام كامل لـ 500 موظف. كُرست هذه الساعات يومياً لأنشطة توصف في أحسن الأحوال على أنها غير ضرورية أو ربما أيضاً مقوضة للقيمة، بإشراك العديد من الموظفين من فرق مختلفة مع المجموعة ذاتها من الأشخاص وبطريقة عشوائية.
ولكن تكمن المشكلة هنا: كان معظم الموظفين قائمين على أعمالهم وبصورة ممتازة بكل المقاييس. من منظور إداري فردي كانت إنتاجية الموظفين عالية جداً، ولكن من منظور مؤسسي كانت إنتاجيتهم صفراً من الناحية الفعلية أو حتى سلبية. لم يكن الأمر واضحاً بالنسبة للإدارة واعتقدت أن هناك بعض الفرص الضائعة، ولكنها قللت حجم المشكلة إلى درجة كبيرة. كان هذا مثالاً رئيساً يظهر أن قياس الإنتاجية الشخصية غير كاف.
الأعمال التي تولد القيمة للشركة
لزيادة الإنتاجية فعلاً -ولكي تكون صادقاً حول معناها الفعلي- عليك أن تكتسب أولاً قدراً من الوعي الذاتي المؤسسي لفهم الأعمال التي تولد القيمة لشركتك فعلاً ومن ثم توجيه الموظفين نحو تلك المهام. وهذه طريقة بسيطة جداً بالنسبة للعمل اليدوي (مثل خطوط التجميع)، ولكنها معقدة جداً عندما يكون العمل معرفياً. يحتاج إنجاز العمل المعرفي إلى شبكة من الأفراد الذين يعملون معاً وفقاً لأهداف متغيرة دائماً ومستويات مختلفة من السياق. تساهم تقنيات تحسين الإنتاجية المشار إليها سابقاً (البريد الإلكتروني وغيره من التقنيات) في زيادة تعقيد هذه المهمة لأنها جعلت أعمال الشركات أكثر توزعاً وعالمية وآنية. كيف يمكنك فهم ما يقوم به الموظفون على مستوى المؤسسة بالاعتماد على مجموعة من المقاييس التشغيلية والمالية غير المرنة والرجعية والتي تصلك أسبوعياً، إن لم يكن شهرياً أو كل 3 أشهر؟
لكي يكون الأمر واضحاً، غالباً ما تكون الإنتاجية الشخصية هدفاً قيماً، ولكن على القادة أيضاً أن يتوقفوا عن التفكير في الإنتاجية على مستوى فردي أو حتى على مستوى الفريق. لقد حان الوقت للتفكير على مستوى المؤسسة ولاعتماد الأدوات التي تساعد على توفير رؤية كاملة حول العمل المنجز فعلياً والحالات التي تُخلق فيها قيمة ما (أو تلك التي لا تخلق فيها قيمة)، بحسب رؤيتك للأمر. يتطلب هذا الأسلوب من الإدارة اتباع نهج جديد وهو ليس بالأمر السهل، ولكن مثال الشركة التقنية يشير إلى أن الفهم العميق للعمل المنجز يومياً سيؤثر بصورة كبيرة على هياكل الشركات وعملياتها وفرقها (في الواقع تعيد الشركة المعنية التفكير في كل هذه الأمور).
الهدف النهائي، وإن كان صعب التنفيذ، هو خلق مؤسسة كبيرة يملك فيها جميع الموظفين المعرفيين السياق الكامل والأدوات والدعم اللازم لتخصيص أوقاتهم لإنجاز المهام التي تولد قيمة كبرى للشركة دون إثقالهم بالنفقات العامة أو البيروقراطية. وهذا جيد ليس فقط بالنسبة لمكاسب الإنتاجية الفعلية في مكان العمل على مستوى المؤسسة، بل أيضاً بالنسبة لكل موظف إذ سيكون لديه فهم واضح للأولويات وطريقة النجاح. ستتأكد الشركة من وصولها لهذه المرحلة عندما تتمكن من إضافة مكاسب الإنتاجية الشخصية إلى المكاسب المؤسسية.