كان الفكر السائد في قطاع تجارة التجزئة، وغيره من القطاعات الخدمية ذات الهوامش الربحية المنخفضة، يقوم على نظرية مفادها أن الوظائف السيئة التي يشغلها العاملون في الخطوط الأمامية، ويتقاضون عنها أجوراً متدنية وفق جداول مواعيد غير متوقعة وتتاح أمامهم فرص ضئيلة للتقدم المهني، هي وظائف ضرورية لخوض غمار المنافسة في السوق. وعلى الرغم من ذلك، فقد أثبت عدد من الشركات على مدى عقود من الزمن، مثل شركتي كوستكو (Costco) وكويك تريب (QuikTrip) في الولايات المتحدة وشركة ميركادونا (Mercadona) في إسبانيا، خطأ هذا الاعتقاد. فقد ظلت هذه الشركات تتسيّد السوق في قطاعاتها التنافسية للغاية دون الحاجة لوجود الوظائف السيئة التي من المفترض أن تعتمد عليها تلك القطاعات، وليس سراً أنها نجحت في تحقيق هذه المعادلة الصعبة من خلال تبني أنظمة "الوظائف الجيدة". وفي الوقت نفسه، فإن المؤسسات التي تعتمد أنظمة الوظائف السيئة في سوق العمالة المحدودة تجد صعوبة في الاستمرارية لأنها لا تستطيع جذب العاملين واستبقاءهم.
لكن إذا كانت الوظائف الجيدة تجعل الشركات أكثر قدرة على المنافسة وأكثر مرونة وأكثر إنسانية، فلماذا لا تحاول الشركات الأخرى اعتماد هذا النظام؟ أرى أن السبب في ذلك يرجع إلى الشك والخوف والافتقار إلى الخيال، وهي أشياء تنبع من التصورات المغلوطة حول قيمة العاملين في الخطوط الأمامية وكيفية صناعة القرارات الماسة بالأعمال التجارية ومخاطر تغيير النظام. وتهدف هذه المقالة إلى تفكيك هذه التصورات وتشجيع قادة الشركات على اعتماد نهج الوظائف الجيدة.
تلقى السواد الأعظم من المسؤولين التنفيذيين تعليمهم الجامعي وفق أسس تقوم على الإيمان بأن العمالة مجرد بند من بنود التكلفة التي يجب خفضها إلى أدنى حد ممكن وبأن متوسط أجور السوق هو المعيار الصحيح الذي يجب أخذه في الاعتبار، حتى لو لم يكفل للعاملين سبل الحياة الكريمة.
نظام الوظائف الجيدة ونتائجه
لقد توصّلتُ في عملي السابق إلى أن الشركات التي تعمل باستمرار على تحسين القيمة المضافة والخدمات المقدمة لعملائها وإنتاجية موظفيها تعتمد نظاماً يتكوّن من عنصرين رئيسيين يعتمد كل منهما على الآخر: (1) الاستثمار المكثَّف في الأفراد، من خلال منح العاملين أجوراً أعلى من المتوسطات السوقية ومزايا أفضل من المعتاد وجداول مواعيد يمكن التنبؤ بها ووظائف بدوام كامل قدر الإمكان وفرصاً محددة بوضوح للتقدم المهني؛ (2) نموذج تشغيلي يساعد هؤلاء العاملين على أن يكونوا أكثر إنتاجية وقادرين على خدمة العملاء بشكل أفضل. ويتضمن هذا النظام كلاً مما يلي: (أ) تحديد عرض القيمة وتبسيط العمليات التشغيلية للتخلص من الهدر والأنشطة ذات القيمة المضافة المنخفضة، واحترام وقت العاملين وتمكين الموظفين من خدمة العملاء بالشكل اللائق؛ (ب) توحيد آليات العمل قدر الإمكان وتمكين الموظفين إدارياً لمساعدة العملاء وتحسين عملهم وإدارة تدفق العملاء؛ (ج) تدريب الموظفين على أداء المهمات التي تقتضي التعامل مع العملاء وجهاً لوجه والمهمات التي لا تقتضي ذلك في المجالات التي يتحملون مسؤوليتها؛ (د) تعيين عدد كافٍ من الموظفين للتعامل مع الطفرات المفاجئة وغير المتوقعة وإتاحة الوقت لتطوير الموظفين وتحسين العمل. وتتمتع الشركات التي تعتمد نظام الوظائف الجيدة بدرجة عالية من رضا العملاء وولائهم وارتفاع معدلات الإنتاجية وانخفاض معدلات دوران الموظفين ودرجة أكبر من المرونة. في حين أن الشركات التي تعتمد على الوظائف السيئة تتعرض لخطر الوقوع في حلقة مفرغة من ارتفاع معدلات دوران الموظفين وسوء التنفيذ التشغيلي وعدم رضا العملاء وانخفاض مبيعات وحداتها وأرباحها والضعف أمام منافسين يديرون أعمالهم بشكل أفضل، أو أنها قد سقطت فعلياً في هذه الحلقة المفرغة.
وقد بدأ الكثير من الشركات على مدار العقد الماضي اعتماد نظام الوظائف الجيدة لتحسين الأداء في الوظائف التي يشغلها العاملون في الخطوط الأمامية الذين درجت العادة على تقاضيهم أجوراً متدنية. واستطاعت سلسلة متاجر الحيوانات الأليفة، مد باي (Mud Bay) التي يقع مقرها في مدينة أوليمبيا بولاية واشنطن الأميركية خفض معدل دوران الموظفين، وهو السبب الجذري للكثير من المشكلات الأخرى، بنسبة 35% في 3 سنوات، بينما ارتفعت مبيعاتها لكل قدم مربع بنسبة 25% (مقارنة بارتفاع متوسط المبيعات في القطاع بنسبة 9% فقط) وارتفعت مبيعاتها لكل ساعة عمل بنسبة 12%. ونجحت شركة كويست داياغنوستيكس (Quest Diagnostics) في خفض معدل دوران الموظفين في مراكز الاتصال التابعة لها بأكثر من 50% خلال فترة لم تتجاوز 18 شهراً. وانخفض التغيب عن العمل من 12% إلى 4%. وارتفعت نسبة المكالمات التي تم الرد عليها خلال 60 ثانية من 50% إلى 70%، وانخفضت نسبة المكالمات التي كان يتم تحويلها إلى المشرفين من 12% إلى 9.5%، وهي مقاييس أحدثت فارقاً حقيقياً بين الحفاظ على العملاء وخسارتهم. وخلال الفترة من عام 2019 إلى عام 2021، نجحت سلسلة نوادي متاجر التجزئة المخصصة للعضوية فقط، سامز كلوب (Sam’s Club) المملوكة لشركة وول مارت (Walmart)، في خفض معدل دوران العاملين بالساعة (بعد أول 90 يوماً من توظيفهم) بنسبة 25%، بينما انخفض معدل دوران مدراء المتاجر بأكثر من ذلك، وارتفعت إنتاجية العمالة بنسبة 16%، وارتفع صافي نقاط الترويج بنسبة 7%. وفي مناقشة مع محللي الأوراق المالية في أغسطس/آب 2021، تحدث الرئيس التنفيذي لشركة وول مارت، دوغ ماكميلون، عن نمو مبيعات سلسلة متاجر سامز كلوب والنمو القياسي في عضوية نواديها، قائلاً: "منذ 19 عاماً، أتيحت لي الفرصة لأصبح مديراً لسلسلة متاجر سامز، ويمكنني أن أؤكد بكل يقين أن السلسلة لم تشهد وقتاً كهذا يحفل بهذا القدر من الزخم".
4 معتقدات مغلوطة
أثبتت هذه الشركات، وأكثر من 20 شركة أخرى تعاونت مع معهد الوظائف الجيدة (Good Jobs Institute) غير الربحي، الذي شاركت في تأسيسه، بالإضافة إلى عقود من الأبحاث حول أنظمة العمل عالية الأداء، أن أنظمة الوظائف الجيدة يمكن أن تنجح مع مجموعة واسعة من المؤسسات، سواءً كانت خاصة أو عامة، تتنافس في مجال المنتجات منخفضة التكلفة أو الفاخرة، صغيرةً كانت أو كبيرةً، في مجموعة متنوعة من القطاعات. وأعتقد أن هناك 4 معتقدات مغلوطة تفسر سبب تردد قادة معظم الشركات في سلوك هذا المسار، على الرغم من أنني لم ألتقِ قائداً يحبّذ فكرة تقديم أجور متدنية لا تكفل سبل الحياة الكريمة وتتيح ظروف عمل سيئة.
1. لن يدعم نموذج عملنا زيادة الاستثمار في الأفراد.
تلقى السواد الأعظم من المسؤولين التنفيذيين تعليمهم الجامعي وفق أسس تقوم على الإيمان بأن العمالة مجرد بند من بنود التكلفة التي يجب خفضها إلى أدنى حدٍّ ممكن وبأن متوسط أجور السوق هو المعيار الصحيح الذي يجب أخذه في الاعتبار، حتى لو لم يكفل للعاملين سبل الحياة الكريمة، وبأن الكفاءة تقوم على الرغبة في العمل الجاد وتحقيق النتائج المرجوة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك رئيس مجلس إدارة شركة مساهمة تضم عدداً كبيراً من قوة العمل منخفضة الأجر، الذي سمعته يتحدث يوماً عن التمييز العنصري والغبن الاقتصادي. وعندما اقترحت عليه إمكانية إسهامه في تغيير هذه الأوضاع من خلال تحسين الوظائف في شركته، اتخذ موقفاً دفاعياً، وقال لي ممتعضاً: "عليك أن تفهم عالم الاقتصاد على حقيقته؛ فالأسواق معدومة الضمير. وينذرني المستثمرون الذين يملكون أسهم الشركة أنني إذا احتذيت نموذج شركة بلاك روك (BlackRock) وتوصيات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG)، فسأفقد منصبي". وأكدتُ له أن على المرء أن يفعل ذلك ليس لدعم الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، ولكن لجذب العملاء وإرضائهم، وأن بعض الشركات، بما في ذلك إحدى الشركات المنافسة لشركته، تدفع أجوراً أعلى من شركته بنحو 50% ونجحت مع ذلك في خلق القيمة ذاتها، إن لم يكن أكثر منها، للمساهمين. ولكنه اعترض على حجتي قائلاً إن هذه الشركات استثناءٌ من القاعدة. لم يكن هذا المسؤول التنفيذي سيئ النية ولا أحمق، لكنه كان يرى أنه من البديهي أن الوظائف السيئة يجب أن تكون سيئة، وأي شيء بخلاف ذلك ما هو إلا استثناء يشذ عن القاعدة.
وقد بلغ الأمر بالكثير من قادة الشركات إلى الحد الذي جعله يعتبر أن العمل في الخطوط الأمامية عنصر غير مؤثّر في أداء الشركة. فقد أخبرني أحد مسؤولي العمليات التشغيلية في شركة أسهم خاصة أن شركته لا تُلقي بالاً لارتفاع معدل دوران الموظفين في سلسلة مطاعم تمتلكها؛ لأنها لا تهتم بجودة العمل في الخطوط الأمامية، حتى الأشياء الأساسية، مثل تقديم البرغر في درجة الحرارة المناسبة والحصول على الطلبات بشكل صحيح. وبإمكان سلسلة المطاعم زيادة مبيعاتها وأرباحها ببساطة عن طريق إضافة المزيد من الوحدات.
وقد قالت مسؤولة تنفيذية بإحدى الشركات العاملة في قطاع الخدمات المالية عن ممثلي مركز الاتصالات التابع لشركتها: "عندما تفكر في الوظائف ذات القيمة المضافة في عالمنا، فلن تجد الكثيرين يحدثونك عن حقيقة أن ممثلي خدمة العملاء في الخطوط الأمامية يشكّلون إحدى أهم الوظائف في شركتك". وقد ركزت شركتها على التوسُّع من خلال الاستحواذ على شركات أخرى، وأنفقت على الدعاية بلا حساب، ولم تضع حُسن إدارة الأعمال الأساسية وتحسين خدمة العملاء ضمن أولوياتها. على سبيل المثال، كان ما يقرب من ثلث المكالمات يتعلق بإجراءات دفع الفواتير المربكة، في حين أن حل هذه المشكلة كان سهلاً، ولا بد أنه كان سيرفع معدلات الإنتاجية ويحسن مستوى الخدمة، ولكن الشركة لم تكن تعتبر هذه المشكلة مهمة بالقدر الذي يستدعي معالجتها.
يشيع هذا الاستخفاف بقيمة العمل في الخطوط الأمامية بين رواد الأعمال أيضاً؛ فقد اعتمد الكثير من خطط العمل التي تم طرحها على مدار العقد الماضي على عاملين مستقلين يشغلون وظائف مؤقتة لتنظيف المنازل وحراسة المباني والأعمال الداخلية في المتاجر، بل ومجالسة الأطفال. كانت هذه الخطط تفترض إمكانية الحفاظ على انخفاض التكاليف من خلال تطبيق نظريات التباديل والتوافيق على الأفراد، اعتماداً على الطلب لحظة بلحظة. وبدا من الواضح أن هذه الخطط لا تكترث بجودة إنجاز هذه الأعمال، وكذلك لم يكن التنسيق بين أفراد الفريق الواحد أو جودة العمل الجماعي أو الشعور بالانتماء إلى المؤسسة ذا فائدة تُذكَر على ما يبدو.
قارن هذه السلوكيات بسلوك الرئيس التنفيذي للمركز الطبي بمستشفى الأطفال في مدينة سينسيناتي بالولايات المتحدة، مايكل فيشر. فقد رفع مستشفاه، خلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2019 إلى يناير/كانون الثاني 2020، الحد الأدنى للأجور من 11 دولاراً إلى 15 دولاراً في الساعة لنحو 3,000 موظف يعملون في مجالات مثل خدمات الحراسة وخدمات الطعام وعمليات التعقيم. هل هذه الوظائف مهمة لهذه الدرجة في المراكز الطبية؟ يقول فيشر: "إذا كان طفلك في إحدى وحدات العناية المركزة لدينا، فأنت تريد أشخاصاً يعرفون ما يفعلونه جيداً ويتمتعون بالمهارة والتعاطف".
ويمتلك مؤسِّسو الشركات التي تعتمد نظام الوظائف الجيدة ورؤساؤها التنفيذيون نموذجاً عقلياً يختلف عن النموذج العقلي لدى نظرائهم الآخرين، ويعتقدون أن القيمة المضافة يتم تحقيقها من خلال تميزهم في خدمة العملاء. ولا يمكنهم فعل ذلك دون امتلاك قدرات تنفيذية وتشغيلية قوية، ولا يمكنهم امتلاك هذه القدرات التنفيذية دون الاستثمار في الأفراد والحفاظ على انخفاض معدل دوران الموظفين. ويؤمنون بهذه الحقيقة إيماناً مطلقاً لدرجة أنهم لا يستطيعون استيعاب الأسباب التي تدعو البعض إلى قبول سياسة الوظائف السيئة، وما ينتج عنها من ارتفاع معدل دوران الموظفين وإصابة العملاء بالإحباط وعدم كفاءة إدارة المخزون، وما إلى ذلك. وقد قال أحد مؤسِّسي شركة كويك تريب، تشيستر كاديو، في كتابه الصادر تحت عنوان "توقف عن الاعتماد على الحظ واعتمد على الذكاء"( From Lucky to Smart): "كانت الأجور التي ندفعها لموظفينا أكبر مما يتوقعون، وهذا أحد أسرار نجاح شركتنا، على الرغم من أن أمراً كهذا لم يكن سراً على الإطلاق. وهكذا نجحت شركة كويك تريب في جذب أفضل العاملين واستبقائهم لفترة أطول من الزمن. وأدى انخفاض معدلات دوران الموظفين إلى توفير الوقت والمال. لقد كانت فكرة في غاية البساطة لدرجة أنني كنتُ (وما زلت) مصدوماً لأن منافسينا لم يحاولوا استنساخها أبداً".
إذا أردت تقدير موظفي الخطوط الأمامية، فخصّص بعض الوقت لمناقشة مشكلاتهم والمعوقات التي تجابههم؛ فمن الملاحظ أن ثمة انفصالاً خطيراً بين ما يحدث في الخطوط الأمامية وما يعتقد المسؤولون التنفيذيون أنه يحدث على أرض الواقع.
ويؤكّد أحد مؤسسي شركة كوستكو، جيم سينيغال، على هذه الفكرة قائلاً: "لا ينمُّ اعتماد نظام الوظائف الجيدة عن الإيثار، بل ينمُّ عن حُسن الإدارة". وقد أخبر طلابي بأن شركته تنفق على الكوادر البشرية 70 سنتاً من أصل كل دولار تنفقه على إدارة عملياتها في المبيعات والنفقات العامة والإدارية. وعلَّق على هذه النقطة قائلاً: "يبيّن لكم هذا مدى أهمية العنصر البشري؛ إذ يقوم أي عمل على أكتاف العناصر البشرية. وإذا لم تُحسِن إدارتهم، فسوف ينهار كل شيء في شركتك ويبوء بالفشل المحقَّق". وتابع: "من الحماقة أن تعتقد أنه يمكنك تعيين أحدهم مقابل 10 دولارات في الساعة وتنتظر منه أن يبقى معك".
2. لا يمكننا الوثوق بموظفي الخطوط الأمامية.
يستلزم اعتماد نظام الوظائف الجيدة الوثوق بالموظفين لحل مشكلات العملاء وتحسين عملهم، ويتعارض هذا مع الطريقة التي تنظر بها الشركات التي تقدّم أجوراً متدنية وتشهد ارتفاع معدلات دوران الموظفين. وتعاني هذه الشركات تفشي ظاهرة تغيب الموظفين عن العمل ورداءة مستوى أدائهم وضعف تركيزهم. وتتساءل: كيف يمكن وضع مصير الشركة في أيدي قوة عاملة كهذه؟ لذا أقدمت على إرساء أكبر عدد ممكن من الضوابط. وكما قال أحد المسؤولين التنفيذيين: "نحن نبني أنظمتنا على افتراض أن العاملين لا يمكنهم فعل أي شيء بشكل صحيح".
تأمَّل في المقابل من ذلك وجهة نظر مؤسس سلسلة فنادق فورسيزونز (Four Seasons Hotels)، إيزادور شارب. عندما سألته عمّا يجعله يثق في آلاف العاملين في الخطوط الأمامية لاتخاذ قرارات مهمة تمسّ الشركة والعملاء في مختلف أنحاء العالم، أجاب: "هل سبق أن التقيتَ شخصاً لا يريد أن ينجح؟". لقد أثبتت له التجربة أنه يستطيع الوثوق بالأفراد لأداء عملهم على الوجه الأكمل.
وجادل أستاذ الإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، دوغلاس ماكغريغور، الذي اشتهر بـ "النظرية س" (Theory X) و"النظرية ص" (Theory Y)، أيضاً بأن كل ما يفترضه المدراء بشأن العنصر البشري سيثبت صحته إن عاجلاً أو آجلاً، لأنهم سينتهي بهم الأمر إلى إرساء نُظُم تعزز السلوك الذي يتوقعونه. وأتفق مع هذا الرأي تماماً. فلا شك في أن الوظائف السيئة تخلق عاملين سيئين، أمّا الوظائف الجيدة فتمكّن الغالبية من أن يكونوا عاملين على أعلى قدر من القيمة.
وعندما اعتمدت سلسلة البقالة الإسبانية، ميركادونا، نظام الوظائف الجيدة (يُسمَّى "نموذج الجودة الشاملة")، في التسعينيات، أرست مبادئ معينة، بدءاً من "الجميع محل ثقة". وإذا لم تتمكن من الاعتماد على الأفراد لإنجاز المهمات الموكلة إليهم، فيجب أن تلقي نظرة فاحصة على المعوقات التي تقف في طريقهم، كنظام العمل أو تصميم الوظيفة، وتحدّد الدور المنوط بك أداؤه من واقع منصبك كمدير أو مسؤول تنفيذي لإزالة هذه المعوقات.
وتهتم الشركات التي تعتمد نظام الوظائف الجيدة بتعيين العاملين الذين يمكنهم التفوق في أدوارهم ويظلون مع الشركة (وتدريبهم!) حتى يتمكنوا من التقدم ويصبحوا ذا قيمة أكبر. تضع هذه الشركات توقعات عالية أيضاً وتفرضها. وعندما شرحت المديرة التنفيذية في شركة كويست داياغنوستيكس، ماريان كامتشو، سياسة الحضور الجديدة والأكثر صرامة التي تم فرضها على بعض ممثلي مركز الاتصالات، وقف أحدهم وراح يصفق. وقالت لي كاماتشو: "كان الموظفون الذين كانوا يحضرون إلى مقر العمل يضطرون إلى تعويض غياب زملائهم، وقد سئموا هذا الوضع".
لقد رأيت في شركة كويست وغيرها من الشركات أن الأغلبية الكاسحة العاملين، أكثر من 96% من العاملين في مراكز الاتصالات التابعة لشركة كويست، كانوا قادرين على الارتقاء إلى مستوى الحدث ورفع مستوى أدائهم في ظل النظام الجديد، أما الباقون الذين عجزوا عن التأقلم فقد قرروا مغادرة الشركة؛ لكنني لاحظت أيضاً أنه عندما تصمم الشركات نظاماً يتمحور حول الأقلية غير القادرين على أداء مهمات وظائفهم جيداً أو غير المتحمسين لأدائها على هذا النحو، فإن ما يقرب من 100% من قوة العمل تؤدي عملها بهذه الطريقة، في حين أن معظمهم يستطيع تحسين مستوى أدائه بشكل أفضل بكثير.
ربما تكون أفضل طريقة لتقدير دوافع موظفي الخطوط الأمامية وقدراتهم أن تخصّص بعض الوقت لمناقشة مشكلاتهم والمعوقات التي تجابههم؛ فمن الملاحظ أن ثمة انفصالاً خطيراً بين ما يحدث في الخطوط الأمامية وما يعتقد المسؤولون التنفيذيون أنه يحدث على أرض الواقع. وهذا ما يدعوني إلى تشجيع طلابي على شغل وظيفة بدوام جزئي في الخطوط الأمامية في أثناء حصولهم على ماجستير إدارة الأعمال.
3. يوضح تحليلنا المالي أن الاستثمار في الأفراد لن يؤتي ثماره.
عقد معهد الوظائف الجيدة ورشة عمل قبل تفشّي الجائحة مع نواب رئيس إحدى كبرى الشركات المساهمة، أسفرت عن اقتناع الجميع، حتى أكثر المتشككين منهم، بقيمة الوظائف الجيدة. لقد قدمتُ خلال هذه الورشة أدلة مستمدة من شركات أخرى حول أثر انكماش الاستثمار في الأفراد، وبخاصة الأجور المتدنية، في تغذية حلقة مفرغة من ارتفاع معدل دوران الموظفين وضعف مستوى الأداء، وحدّدتُ الممارسات التجارية الأساسية التي تزيد صعوبة كسر مثل هذه الحلقة المفرغة. (انظر الشريط الجانبي "الوظائف السيئة تضر الشركات"). وأدرك المسؤولون التنفيذيون كلهم أن شركتهم كانت في القارب نفسه. وأيقنوا حينذاك أن نجاح الشركات المنافسة ذات البنى التنظيمية الأقوى في تقديم خدمات أفضل بالأسعار ذاتها التي تقدمها شركتهم أو بأسعار أقل منها ما هي إلا مسألة وقت.
وعندما عرضتُ عليهم نظام الوظائف الجيدة، أدركوا أثره في تعزيز أداء شركتهم. وكما قال الرئيس التنفيذي الحالي لشركة طيران نيوزيلندا (Air New Zealand)، غريغ فوران، في تصريحاته لمجلة هارفارد بزنس ريفيو عندما كان يتولى رئاسة سلسلة متاجر وول مارت في الولايات المتحدة، فإن النموذج "واضح كالشمس". ((انظر مقالة "النهج الصائب الذي يجب اتباعه" (The Right Thing to Do)، 7 ديسمبر/كانون الأول 2017)). ولكنهم أدركوا إن إقناع كلٍّ من رئيسهم التنفيذي وفريقهم التنفيذي يستلزم إجراء تحليل مقنع يمكنهم من خلاله إثبات أن الاستثمار في الأفراد، بما في ذلك رفع مستوى الأجور، سيؤتي ثماره ويعود بالنفع على الشركة.
ومن ثم فقد سألوا محللي البيانات بالشركة عن تكلفة رفع مستوى أجور الجميع إلى 15 دولاراً على الأقل لكل ساعة عمل والفوائد التي ستنتج عن اتخاذ خطوة كهذه. ولحساب مزايا هذا الإجراء، درس المحللون ما حدث في المرة السابقة التي رفعوا فيها الأجر بالساعة. ووجدوا أن معدل دوران الموظفين قد شهد انخفاضاً ملحوظاً، ما أدى إلى تحسين مستوى الخدمة، الذي أدى بدوره إلى زيادة المبيعات؛ لكن الآثار المتحققة كانت ضئيلة. وهكذا فقد كانت تقديرات المحللين متحفظة بشأن فوائد زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولاراً لكل ساعة، ورؤوا أنها ستؤدي إلى انخفاض معدل دوران الموظفين بنسبة ضئيلة، ما سيؤدي إلى تحسينات صغيرة في خدمة العملاء والمبيعات. وخلصوا إلى نتيجة مفادها أن الاستثمار في الأفراد لن يؤتي ثماره.
غير أن تحليلهم أغفل النتائج المترتبة على عدم إقدام الشركة على تغيير الوضع الراهن. هل يمكن أن تحسّن الشركة تجربة العميل إذا لم يتم إصلاح معدل دوران الموظفين العاملين في الخطوط الأمامية والمشاكل الناجمة عن عدم إصلاحه؟ وهل يمكنها إصلاح معدل دوران الموظفين دون زيادة الأجور؟ كما أن المحللين أغفلوا دراسة أثر زيادة الأجور في تحسين العوامل الأخرى، مثل معدلات الإنتاجية ودوران المدراء والتغيب عن العمل. وما مدى دقة توقعاتهم بأن معدل دوران الموظفين سينخفض بنسبة متواضعة؟ فقد نجحت الشركات الأخرى التي تستخدم نظام الوظائف الجيدة في خفض معدل دوران الموظفين بنسبة تتراوح بين 25% و70%. ولماذا فكروا في الأجور بمعزل عن العوامل الأخرى، في حين أن فكرة نظام الوظائف الجيدة تقوم على منظومة متكاملة من العوامل ذات الصلة؟
ويجب ألا نغفل هنا دور كليات إدارة الأعمال في التوصُّل إلى مثل هذا التحليل القاصر، فهي تتحمل نصيباً وافراً من اللوم في هذا السياق. فنحن نعلّم طلابنا كيفية صناعة القرار "الصارم" استناداً إلى البيانات، بهدف زيادة الربحية في أغلب الأحيان. ونعلمهم كيفية دراسة تأثيرات عوامل معينة بمعزل عن العوامل الأخرى، بحجة أن هذه سمة مميزة للتفكير العلمي. ويمكن للكثيرين من المسؤولين التنفيذيين الذين تلقوا تعليمهم الجامعي وفق هذه الأسس أن يشيروا إلى التحليلات أو التجارب التي خلُصت إلى أن تمكين الموظفين أو إضافة ساعات عمل أو زيادة الأجور لا يستحق كل هذا العناء في النهاية. ولكن زميلي روجر مارتن يجادل بأن الإصرار على تبرير كل قرار بالتحليلات، غالباً باستخدام البيانات التاريخية، يمكن أن يسهم في تحسين الوضع الراهن، لكنه يعيق الابتكار؛ لأنه لا يمكن إثبات آثار الابتكار مسبقاً. ويمكن أن يؤدي هذا الإصرار أيضاً إلى الإخلال بالقدرات التنافسية وتدمير المبادئ الأخلاقية.
ويتخذ القادة الذين يحبّذون الاستثمار بكثافة في موظفيهم العاملين في الخطوط الأمامية نهجاً مختلفاً. فقبل أن يعتمد مارك بيرتوليني، الذي كان يشغل حينها منصب الرئيس التنفيذي لشركة التأمين العملاقة، إتنا (Aetna)، رفع الحد الأدنى للأجور من 12 دولاراً إلى 16 دولاراً للساعة، في يناير/كانون الثاني 2015، طلب من فريقه كتابة قائمة بالفوائد المحتملة لوجود قوة عمل تمتلك الحافز والقدرات اللازمة. وكانت التكاليف المباشرة لدوران الموظفين الطوعي قد بلغت 27 مليون دولار في السنة؛ ولكن عندما أضاف الفريق التكاليف الأخرى لتكلفة دوران الموظفين (مثل التغيب ووقت العمل الإضافي والأخطاء وسوء مستوى الخدمة)، كان مجموع التكاليف 120 مليون دولار في السنة. وهكذا بدا واضحاً أن مبلغ 10.5 مليون دولار المطلوب لرفع الأجر لكل ساعة يستحق العناء.
ولم تكن شركات مثل إتنا مضطرة إلى المخاطرة بكل شيء، في ظل تحقيقها هوامش أرباح عالية وامتلاكها موظفين يتقاضون أجوراً متدنية ويشكلون جزءاً صغيراً فقط من التكاليف الإجمالية. أمّا فيما يخص الشركات التي تحقّق هوامش أرباح منخفضة ويشكل موظفوها أصحاب الأجور المتدنية أكبر تكاليفها التشغيلية، فإن مثل هذا الاستثمار الضخم في العنصر البشري يبدو أكثر خطورة؛ وذلك لأن زيادةً بنسبة 30% في أجور موظفي الخطوط الأمامية لدى شركة تعمل في قطاع التجزئة تمثّل فيها تكاليف العمالة 10%، مثلاً، من مبيعاتها وتبلغ هوامش أرباحها 3% (وهي نسب معتادة إلى حدٍّ ما في هذا القطاع) يمكن أن تقضي على الأرباح قصيرة الأجل، وهكذا فإن المريض قد يموت قبل أن يبدأ تلقي العلاج.
وعلى الرغم من ذلك، فيمكن لقادة بعض الشركات الرائدة في قطاع البيع بالتجزئة تخيُّل مزايا الاستثمار في العنصر البشري. وعلى غرار قادة شركة إتنا، فلا يمكنهم تحديد هذه المزايا بدقة، ولكن من الواضح أنه يتعين عليهم الاستثمار في الأفراد لزيادة المبيعات وتقليل التكاليف وتحسين الإنتاجية وتعزيز القدرة التنافسية.
على سبيل المثال، رفعت شركة مد باي متوسط أجور موظفيها في الساعة بنسبة 24% على مدى 3 سنوات وزادت نسبة الموظفين الذين عملوا أكثر من 30 ساعة في الأسبوع، وبالتالي استحقوا الحصول على مزايا تأمينية، من 69% إلى 82%. تُعد هذه النسبة رقماً ضخماً بالنسبة لشركة تحقّق هوامش أرباح لا تتجاوز 2% وتبلغ تكاليف العمالة بها على مستوى المتجر أكثر من 10% من المبيعات. ولكن لإيجاد سبب مقنع للعملاء للتسوق في متاجر مد باي وتنمية الأعمال التجارية، كانت الشركة بحاجة إلى الاستثمار في الأفراد. وقد أدت الخيارات التشغيلية لنظام الوظائف الجيدة إلى الحد من حجم المخاطر لهذا الاستثمار من خلال زيادة إنتاجية الموظفين وإسهاماتهم. وقد أوضح لي الرئيس التنفيذي المشارك، لارس وولف، هذه النقطة، قائلاً: "ما كان علينا فعله هو أن نقول بشكل أساسي: ’نحن لا ندفع للعاملين أجوراً تكفل لهم حياة كريمة. وإذا أردنا رفع معدل استبقاء العاملين بنسبة 80% أو 90%، فعلينا أن نرفع أجورهم. وحينها سنتمكن في النهاية من زيادة صافي الأرباح‘".
وعندما كان الرئيس التنفيذي لشركة وول مارت في الولايات المتحدة، جون فرنر، يشغل منصب الرئيس التنفيذي لسلسلة متاجر سامز كلوب، تلقى تحذيراً من خطورة رفع أجور العاملين بداعي أن هذا الإجراء لن يؤتي ثماره. لكنه كان ومسؤولون تنفيذيون آخرون مقتنعين تمام الاقتناع بأن معدل دوران الموظفين يمثل السبب الجذري للكثير من المشكلات المتعلقة بإدارة المخزون وخدمة العملاء. ولا يمكن أن تتمحور سلسلة متاجر سامز كلوب حول العميل دون إصلاح عمليات التنفيذ التشغيلي، ولا يمكن إصلاح هذه العمليات دون خفض معدل دوران الموظفين. ولم يكن فرنر يؤمن بإمكانية خفض معدل دوران الموظفين من خلال رفع مستوى الأجور فقط، لكنه كان يؤمن أيضاً باستحالة خفضه دون رفع مستوى الأجور. فقد كان العاملون يغادرون الشركة للالتحاق بالوظائف التي تدفع أجوراً أعلى بعدة دولارات في الساعة. ومن هنا كان لا بد من رفع مستوى الأجور، ومن ثم كان الأمر متروكاً لفرنر وفريقه لزيادة الإنتاجية وتحسين الإسهامات؛ لكن هذا، على الأقل، كان في حدود سلطتهم. (انظر "عليك إعداد أفرادك للنجاح" (You’ve Got to Set Your People Up to Succeed)، مقابلة مع كبير مسؤولي المنتجات في سلسلة متاجر سامز كلوب).
4. إجراء تغيير هيكلي في النظام أمر محفوف بالمخاطر.
حتى القادة المقتنعون بأن نظام الوظائف الجيدة من شأنه أن يحسن أداء الشركة قد يخشون مخاطر تنفيذ هذا النظام وأفقه الزمني. وإذا كنت تدور في حلقة مفرغة، فإن هذا يعني أن الأفراد مصابون فعلياً بالإرهاق نتيجة العمل الإضافي، كما أن العمليات التشغيلية معرَّضة للكثير من الأخطاء الجسيمة. وأي تغيير جذري سيشهد حتماً إيجابيات وسلبيات. فهل ستنجو من هذه العملية الانتقالية؟ قد تفقد منصبك نتيجة تراجع مستوى الأداء خلال بضعة أرباع من السنة وانخفاض سعر أسهم الشركة. ولماذا تتجشّم المخاطر عندما ترى أن هناك طرقاً أسهل وأسرع للنمو؟
وقد قال لي رئيس إحدى كبرى الشركات العاملة في قطاع التجزئة الذي يدور في حلقة مفرغة: "لم أكن أعرف مدى أهمية التركيز على العملاء في نظام الوظائف الجيدة. وهذا أمر بالغ الصعوبة بالنسبة لشركة مساهمة". في الواقع، بدلاً من التركيز على العملاء، وجدت هذه الشركة طرقاً أخرى للنمو. فقد اشترت علامات تجارية أخرى، وأضافت خدمات لاستنساخ ما تفعله الشركات الناشئة، وطرحت المزيد من المنتجات، وقدمت عروضاً ترويجية وبطاقة ائتمان. لم يجعلها أي من هذه التحركات شركة أقوى، بل على العكس من ذلك، فقد أدت إلى إضعاف عملياتها الأساسية؛ لكنها كانت أسهل وكانت تتمتع بشرعية أكبر في نظر المستثمرين ومجلس الإدارة.
ولا يتمتع الاستثمار في الأفراد بالشرعية نفسها، بل لا يُنظر إليه على أنه استثمار؛ إذ يُنظر إليه (ويتم تسجيله في بيان الدخل) باعتباره تكلفة. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2015، أعلن ماكميلون أن رفع رواتب العاملين في الخطوط الأمامية من الحد الأدنى الفيدرالي الأميركي للأجور البالغ 7.25 دولار للساعة إلى 9 دولارات في عام 2015 و10 دولارات في عام 2016 سيكلف شركة وول مارت 2.7 مليار دولار على مدار العامين. وقد انخفض سعر سهم وول مارت بنسبة 10% في ذلك اليوم. لم يستمر الأثر السلبي لهذا التصريح لفترة طويلة من الزمن، ولكن لا بد أن الأمر كان محبطاً للمتابعين الذين وجدوا المستثمرين يعاقبونه على اتخاذه إجراءً كان يؤمن بأنه يصب في مصلحة الشركة.
الوظائف السيئة تضر الشركات
لا تقتصر أضرار نظام الوظائف السيئة على العاملين وحدهم.
ويقول المسؤولون التنفيذيون في كثير من الأحيان إنهم لا يستطيعون دفع أجور أعلى وضخ استثمارات أخرى في العاملين، لكنهم يتجاهلون آثار الوظائف السيئة.
التكاليف المباشرة لدوران الموظفين
لاحظنا في معهد الوظائف الجيدة أن تعيين الموظفين وإعداد الموظفين الجدد وتأهيلهم وتدريبهم والوقت اللازم للوصول إلى أعلى سقف للإنتاجية يمثل 10% إلى 25% من إجمالي تكاليف الأجور في معظم بيئات وظائف الخطوط الأمامية. وربما كانت شركات الخدمات المالية استثناءً من هذه القاعدة؛ حيث تبلغ تكاليف دوران الموظفين 45% من الأجور، لأن موظفيها يجب أن يحصلوا على تراخيص محدَّدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن التكاليف المباشرة لدوران الموظفين ضئيلة مقارنة بتكاليف سوء التنفيذ التشغيلي.
تكاليف التنفيذ التشغيلي
تتمثل أعلى تكاليف شُّح الاستثمار في الأفراد في تراجع المبيعات في الكثير من بيئات العمل، بسبب المشكلات التشغيلية (مثل وضع المنتجات في أماكن غير مناسبة في المتاجر أو بطء الخدمة في المطاعم) وعدم رضا العملاء وانعدام القدرة على الاستمرارية بسبب نقص العمالة. وثمة تكاليف أخرى تشمل المزيد من العمل الإضافي وانخفاض إنتاجية العمالة، و"الانكماش" (تلف البضائع أو انتهاء تاريخ صلاحيتها أو سرقتها) والأخطاء التي تزيد من تكاليف المخزون والسلامة.
التكاليف التنافسية والأخلاقية
عندما تعمل الشركات في ظل اعتمادها نظاماً يقوم على تقاضي العاملين أجوراً متدنية وارتفاع معدل دوران الموظفين ووجود مشاكل تشغيلية، ينتهي الأمر بجعل نظامها أقل تنافسية وإنسانية. وعلى وجه التحديد، لا يمكنها:
- تعيين الأشخاص المناسبين وتدريبهم جيداً. ينهمك المدراء باستمرار في حل المشكلات ولا يجدون وقتاً للتركيز على تعيين الموظفين المناسبين وتدريبهم بالشكل الصحيح. وتتصف شبكة مرشحي الوظائف بضعف مستوى المتقدمين لشغل هذه الوظائف بسبب تدني الأجور. وتكون النتيجة تعيين عاملين دون المستوى.
- خلق الثقة. لا يمكن لمسؤولي المقرات الرئيسية للشركات الوثوق في موظفين دون المستوى، لذا فإنهم يلجؤون إلى المركزية قدر الإمكان؛ لكن بعض قراراتهم لا يلائم ظروف العمل في الخطوط الأمامية، لذا يفقد الموظفون الثقة في مسؤولي المقرات الرئيسية، ويلجؤون إلى الحلول المؤقتة، ويصابون بالإحباط لأنهم يعجزون عن مساعدة العملاء وأداء عملهم على الوجه الأكمل.
حُسن إدارة القدرات. يسهم التفاوت في مهارات الموظفين وحضورهم، جنباً إلى جنب مع إضافة منتجات وعروض ترويجية وخدمات جديدة بشكل متكرر، في استحالة التوفيق بين المعروض من العمالة والتقلبات في حجم العملاء والطلب عليهم.
- تطوير مدراء متميزين واستبقاؤهم. يلجا المدراء المصابون بالاحتراق الوظيفي إمّا إلى مغادرة الشركة أو طلب خفض درجاتهم الوظيفية. وتفتقر الشركة آنذاك إلى قوة خط إمداد المواهب. ويتم غالباً اختصار فترة تدريب المدراء.
- تحفيز الموظفين على تلبية التوقعات العالية. يتم التسامح مع أصحاب الأداء الهزيل بسبب نقص العاملين. وعندئذٍ يصبح العجز عن تلبية المعايير هو القاعدة في ظل استمرار ظاهرة تعيين الموظفين ومغادرتهم.
ثمة عامل آخر يسهم في تعزيز الخوف من مخاطر التنفيذ، ويتمثل في قدرة الشركات على تحقيق النمو والأرباح، حتى إذا كانت تعتمد نظام الوظائف السيئة وتقدم خدمات دون المستوى. وقد أوضح مبتكر مصطلح صافي نقاط الترويج (Net Promoter Score)، فريد رايكهيلد، أن سلسلة مطاعم ماكدونالدز من بين أقل الشركات التي تحقق صافي نقاط الترويج ونمو مبيعات المتجر نفسه في قطاع الوجبات السريعة، على الرغم من أن أحداً لا يخطر على باله أن هذه قد تكون شركة فاشلة. ومع ذلك، فإن ماكدونالدز تواصل العمل في السوق منذ ما يقرب من 70 عاماً ولا تزال قادرة على تحقيق الأرباح والنمو. في الواقع، لقد أوضحت أنا وزميلي حضير رحمنداد، أن أنظمة الوظائف الجيدة والوظائف السيئة تعمل على تعظيم الأرباح. وبالحديث عن نظام الوظائف السيئة، فإن قواعد اللعبة بسيطة: ادفع أقل مبلغ ممكن، واجعل المهمة سهلة قدر الإمكان، واحرص على تعيين أي شخص يرغب في العمل في ظل هذه الظروف. في حين أن نظام الوظائف الجيدة، الذي يتيح زيادة رضا العملاء، يعتمد على السياق العام: يجب على المدراء البحث عن أفضل مستويات الأجور وأدوات تصميم الوظائف المناسبة لوضعهم الحالي (مثل التمكين الإداري والتدريب متعدد التخصصات). ويجب أن يكون هذا التناقض محفزاً؛ فالشركات التي يمكنها تحقيق هذا العمل الفذ، الذي يتصف بالصعوبة، ولكنه لا يفوق طاقة البشر، ستكسب ميزة تنافسية كبيرة لا يمكن محاكاتها بسهولة.
وبالحديث عن نظام الوظائف السيئة، فإن قواعد اللعبة بسيطة: ادفع أقل مبلغ ممكن، واجعل المهمة سهلة قدر الإمكان، واحرص على تعيين أي شخص يرغب في أدائها.
وقد تسهم أسواق العمالة المحدودة أيضاً في منح نظام الوظائف الجيدة مزيداً من الشرعية، في ظل التكهنات التي تشير إلى استمرارية تقاعد المزيد من مواليد جيل الطفرة وتراجع معدلات إنجاب الأطفال، بالإضافة إلى ارتفاع الحد الأدنى للأجور. وسيلاحظ المستثمرون أن الشركات التي تحافظ على الوضع الراهن ستشهد ارتفاع تكاليف العمالة بالتوازي مع حركة السوق، لكن معدل دوران الموظفين لن يتحسن، وسيظل إنتاج الموظفين كما هو دون تغيُّر يُذكَر. وهذا منطقي؛ لأن جودة الوظيفة ذاتها لم يطرأ عليها أي تغيُّر. ولكن في ظل نظام الوظائف الجيدة، فإن زيادة الأجور تشكِّل استثماراً يسهم في ارتفاع معدلات الإنتاجية والمبيعات والنمو.
وقد تبيّن لي من خلال أبحاثي وجهود معهد الوظائف الجيدة مع الشركات التي تعتمد نظام الوظائف الجيدة أن عملية تغيير النظام ليست محفوفة بالمخاطر، كما قد يبدو للوهلة الأولى. ووجدتُ أن الحفاظ على الوضع الراهن أكثر خطورة مما يفترضه الكثيرون من النواحي التنافسية والمالية والأخلاقية. وإذا كنت تمتلك الشجاعة لتحديد أولويات تغيير النظام وفكرت فيما يجب فعله أولاً لكسر الحلقة المفرغة والخروج منها بسرعة دون التأثير على العوائد المالية سلباً، فإن الخطوات التكتيكية للتنفيذ لا تختلف عن تلك الخاصة بأي تغيير آخر.
في الواقع، هناك اختلاف واضح بينهما ويتمثّل في أن هذا التغيير، على عكس الكثير من التغييرات الأخرى في مجال الأعمال، لا يخاطب عقول الأفراد، ولكنه يخاطب قلوبهم أيضاً. فبعد مضي شهر واحد على افتتاح إحدى سلاسل المتاجر الصغيرة، سألتُ أنا وزملائي في معهد الوظائف الجيدة: "كيف يمكنكم خلق إحساس بالاستعجال حول اعتماد نظام الوظائف الجيدة عبر الشركة؟". سارع مسؤول تنفيذي بالرد قائلاً: "لسنا بحاجة إلى خلق إحساس بالاستعجال. كلنا نريد أن نفعل هذا بأسرع ما يمكن".
لقد تناولتُ بالوصف المعتقدات والممارسات التي تعزز الوظائف السيئة في الخطوط الأمامية في تجارة التجزئة وغيرها من القطاعات الخدمية ذات الهوامش الربحية المنخفضة. قد تكون هذه الممارسات مؤسفة للكثير من القادة، لكنها تطرح حلولاً آمنة؛ لأنها تجسّد الأسس التعليمية التي تلقاها هؤلاء القادة خلال دراستهم الجامعية والمكتسبة من واقع خبراتهم العملية، كما أنها تتسق مع الأعراف السائدة في قطاعاتهم، وتتفق مع ما يتوقعه منهم أعضاء مجالس إدارات شركاتهم ومساهموها. وينظر قادة الشركات التي تبنت نظام الوظائف الجيدة إلى ما هو أبعد من هذه الاعتبارات. فعندما سألوا أنفسهم: "هل يمكننا أن نكون شركة قوية ومعمّرة، أي شركة تربح مع عملائها وقادرة على التكيُّف مع المتغيّرات، إذا لم نستثمر في موظفينا؟"، كان الجواب "لا".
ولدى هؤلاء القادة، مثل غيرهم، الكثير من المخاوف؛ لكن الشجاعة لا تعني غياب الخوف، بل تعني القدرة على فعل شيء محفوف بالمخاطر أو بالغ الصعوبة لأنك ترى أنه الشيء الصحيح الذي يجب فعله. ولم تسهم تغييراتهم في جعل شركاتهم أقوى وعملائهم أكثر ولاءً فحسب، بل أدت أيضاً إلى تحسين حياة موظفيهم. ويعني اختيار نظام الوظائف الجيدة إحداث فارق إيجابي في العالم وترك إرث مرغوب فيه بشدة.