نعيش الآن في عصر يتيح لنا الوصول إلى المعلومات بشكل غير مسبوق. فمن أجل شراء الهاتف المناسب أو البحث عن أفضل ساندويتشات التاكو أو اختيار الشخص الملائم لإحدى الوظائف، كل ما عليك فعله هو اللجوء إلى شبكة الإنترنت والبحث بقدر ما تحتاج قبل الاختيار. وهذا الكم الهائل من المعلومات المتاح في متناول أيدينا أتاح لنا مزيداً من الاطلاع عما قبل.فما هو دور المعلومات في اتخاذ القرار؟
دور المعلومات في اتخاذ القرار
يمتلك عصر المعلومات، بالتأكيد، القدرة على تحسين استيعابنا، ولكن ثمة أدلة جديدة تشير إلى أن الوصول إلى المعلومات قد يكون أفضل نظرياً مما هو عليه عملياً. يعتقد الناس أنهم يستطيعون تقييم جميع المعلومات المتاحة بطريقة عقلانية قبل الوصول إلى الاستنتاجات، ولكنهم مع الكثير من المعلومات الموجودة تحت تصرفهم يصلون إلى استنتاجات سريعة تقريباً، ويكوّنون أفكاراً عن الموضوع قبل وقت طويل من تكوينها عن طريق الأدلة.
نحن سريعون في الحكم أكثر مما نعتقد
في سبع تجارب نُشرت حديثاً في "مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" (Proceedings of the National Academy of Sciences)، اختبرتُ أنا وزميلي المشارك في هذه التجارب، نداف كلاين، الفرضية القائلة إن الناس يبالغون في تقدير مقدار المعلومات التي سيقيّمونها قبل الاقتناع بأفكار معينة. في إحدى التجارب، خضع المشاركون البالغ عددهم 214 مشاركاً (وهم مزيج من طلاب جامعة شيكاغو وعينة من المارة في المدينة) لاختبار تذوق. شربوا في البداية كوباً سعته 15 ملليلتراً من عصير غير محدد، ثم عمدنا بعد ذلك إلى تقسيمهم إلى متكهّنين ومجرّبين. طُلب من المتكهّنين تقدير عدد الأكواب الإضافية التي يحتاجون إلى شربها قبل تكوين فكرة عما إذا كانوا يحبون هذا العصير أو يكرهونه، ثم قارنا هذه التخمينات مع العدد الفعلي للأكواب الذي استهلكه هؤلاء المجرّبون الذين شربوا ما يحتاجونه من أكواب العصير هذه من أجل تشكيل فكرة عن هذا العصير. رأى المتكهّنون أنهم يحتاجون إلى شرب أكثر من ضعف عدد أكواب العصير (ثلاثة أو أربعة في المتوسط) قبل أن يقرروا ما إذا كانوا يحبون العصير أو يكرهونه، مقارنة بالعدد الفعلي الذي استهلكه المجرّبون (من كوب إلى كوبين في المتوسط). فيما اعتقد المشاركون جميعاً أنهم بحاجة إلى بعض الوقت قبل أن يتوصلوا إلى استنتاجات، ولكنهم في الواقع كوَّنوا أفكارهم عن العصير منذ الرشفات القليلة الأولى.
كررنا استعمال هذه النتائج في تجربة تتناول عملاً فنياً، فقد قيّم 207 مشاركين عبر الإنترنت عينة من اللوحات تتشابه جميعها من حيث تجسيد نمط فني عام مماثل، وقسّمنا مرة أخرى المشاركين إلى متكهّنين ومجرِّبين. رأى المتكهّنون في البداية لوحة واحدة (اختيرت عشوائياً من بين 40 لوحة)، ومن ثَم طُلب منهم تقدير عدد اللوحات الإضافية (حوالي 40) التي يحتاجون إلى رؤيتها قبل تشكيل فكرة حول ما إذا كانوا يحبون هذا النمط الفني أو يكرهونه. في المقابل، شاهد المجرِّبون عينة عشوائية من هذه اللوحات تباعاً، وتوقفوا عندما كوّنوا فكرتهم عنها. أعرب المتكهّنون عن اعتقادهم بأنهم قبل اتخاذ القرار يرغبون في مشاهدة 4 أضعاف العدد من اللوحات (16 أو 17 في المتوسط) مقارنة بالعدد الفعلي الذي شاهده المجرّبون (3 أو 4 في المتوسط). نعلم أن هذه السرعة تعكس بالفعل النقطة التي تكونت عندها فكرة المجرّبين عن هذا النمط الفني، ولم يصبروا حتى الانتهاء من الدراسة، لأنهم علموا مسبقاً أن عليهم البقاء لمشاهدة اللوحات كافة، بغضّ النظر عن رد فعلهم، فمشاهدتهم للوحات بسرعة لم تكن مجرد استراتيجية خروج مستتر.
في تجربة ثالثة، انتقلنا إلى الأحكام الاجتماعية، حيث قرأ 400 مشارك عبر الإنترنت عن مجموعة متنوعة من الحالات الاجتماعية يشمل كل منها تقييم أدلة متفرقة. طلبنا منهم، على سبيل المثال، النظر فيما يلي: افترض أنك مدير تُجري تقييم أداء لموظف جديد على عدد من المهام. ما عدد حالات الأداء الجيد التي ستقنعك بأنك وظّفت الشخص المناسب؟ ما عدد حالات الأداء السيئ التي ستقنعك بالبحث عن موظف جديد؟ في كلتا الحالتين ستعتقد أنك ستنتظر فترة أطول على الأرجح قبل إطلاق حكمك على الموظف مقارنة بالوقت الذي ستستغرقه لكي تقرر. وبالنسبة إلى المشاركين في تجربتنا فقد اعتقدوا أنهم سينتظرون لرؤية المزيد من الأعمال الجيدة قبل اعتبار الآخرين أشخاصاً فاعلين، وكذلك اعتقدوا أنهم سينتظرون لرؤية المزيد من الأعمال السيئة قبل إدانة الآخرين باعتبارهم أشخاصاً غير فاعلين، وذلك أكثر مما انتظروا فعلاً لكي يراقبوا الأشخاص في الوقت الفعلي. واستنتجنا تبعاً لذلك، أن رغبة الناس في مكافأة الآخرين أو معاقبتهم تتحقق بسرعة أكبر مما كانوا يخططون له، سواء كان ذلك لتتبع إنجازات موظف، أو درجات طالب، أو سلوك طفل.
تسلط هذه التجارب الضوء على الفخ النفسي ذاته. ذلك أن الناس يرون أن العقل حَكَم رشيد على افتراض أنهم والآخرون سيعلّقون إطلاق الحكم حتى الانتهاء من الاطلاع على جميع الأدلة، ولكن العقل ليس معالج معلومات سلبياً فحسب، بل إنه عاطفي أيضاً. في الواقع، بمجرد أن يبدأ الناس بتجربة هذا الدليل في الوقت الفعلي فإنهم سيتفاعلون معه حتماً، فلا أحد سينتظر لمعرفة المعلومات اللاحقة إذا كان قد أحب أو كره الشيء أو الشخص فعلاً في البداية.
اقرأ أيضاً: كيف تتأكد من أنك لا تستخدم البيانات لمجرد تبرير القرارات التي اتخذتها؟
تتمثل إحدى عواقب سوء فهمنا لسرعة إطلاق الأحكام في أنها قد تكون باهظة التكاليف. اختبرنا في إحدى التجارب ما إذا كان الناس يبالغون في تقدير قيمة النسخ التجريبية للمنتجات على المدى الطويل، ولذلك صممنا خدمة بريد إلكتروني أسميناها "الطرفة اليومية" (The Daily Cute)، بحيث يتلقى المستخدمون بريداً إلكترونياً كل صباح يحتوي على فيديو مضحك وروابط لمشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي، واخترنا 150 مشتركاً عبر الإنترنت لإكمال نسخة تجريبية مدة 5 أيام. في بداية الأسبوع، توقعوا أن يكون كل يوم من أيام النسخة التجريبية مهماً جداً لمعرفة ما إذا كانوا يحبون الخدمة أو لا. وذكروا أيضاً أنهم على استعداد لدفع مزيد من المال من أجل تمديد فترات النسخ التجريبية. ولكن، مع انتهاء صلاحية النسخ التجريبية الخاصة بهم، ومع قياسنا الدرجات الفعلية للقيمة بعد كل يوم، ظهرت صورة مختلفة. فبحلول اليوم الثالث تقريباً (في المتوسط) رأى المستخدمون ما يكفي لصياغة حكمهم، ما يدل على أن حدسنا للحصول على الكثير من المعلومات قد يعود بنتائج عكسية في التجارب التي لا تتطلب الكثير من الوقت أو الجهد لتقييمها، وذلك لأننا ربما ندفع المال مقابل شيء لن نستعمله أبداً.
إذا كنا سريعين في إطلاق الأحكام أكثر مما ندرك، فهل نحن أيضاً نسيء تقدير السرعة التي يطلق بها الآخرون أحكامهم علينا؟ لقد أجرينا تجربة أخيرة لاختبار هذا الأمر في سياق طلبات الحصول على الوظائف. أولاً، أكمل 124 طالب ماجستير في إدارة الأعمال في كلية بوث للأعمال - جامعة شيكاغو (Chicago Booth) طلب توظيف افتراضياً تضمن كتابة مقالات متعددة عن تجاربهم السابقة في الإدارة. ثانياً، عُين 124 مدير توظيف لتقييم كل طلب، بحيث كان عليهم قراءة ما دوّنه جميع الطلبة، والتوقف كلما كوّنوا فكرة جيدة عن صاحبها وما إذا كان يصلح مديراً. طُلب من طلبة ماجستير إدارة الأعمال أن يكتبوا بالضبط العدد الذي يرونه مناسباً من المقالات التي سيقرأها مدراء التوظيف قبل أن يكوّنوا فكرة جيدة عنهم – علماً أن كتابة عدد قليل جداً من المقالات أو عدد كبير جداً منها سيفقدهم الوظيفة. فشل جميع طلبة الماجستير في هذا الاختبار. فقد كتبوا ضعف عدد المقالات (حوالي 4 في المتوسط) التي اهتم مدراء التوظيف بقراءتها (حوالي 2 في المتوسط). قد يكوّن المدراء أفكارهم عن المرشحين على نحو أسرع مما يعتقد مقدمو طلبات التوظيف، ما يجعل الجهود التي يبذلونها لإثارة الإعجاب غير ملحوظة، أو ضارة كما في هذه الحالة.
القليل من التخطيط يوفر عليك بذل الكثير من الجهد
كم عينة يجب عليك اختبارها من منتج ما قبل شرائه؟ كم من الوقت يجب أن تنتظر قبل التخلي عن أحد الموظفين؟ كم من الجهد يجب أن تبذله في سيرتك الذاتية قبل أن يتوقف الآخرون عن الانتباه إلى بقية ما فيها؟ من الصعب معرفة كمية المعلومات التي ستؤثر في النهاية في انطباعاتك أو انطباعات جمهورك، ولكن بعض الاستراتيجيات البسيطة يمكن أن تجعل الأمر أسهل.
أولاً: عليك بتشخيص المشكلة
بعض التجارب لا تتغير كثيراً مع مرور الوقت، فقد يكون طعم العصير من الرشفة العاشرة مماثلاً لما كان عليه في الرشفة الأولى. في هذه الحالات، لديك مشكلة في التكهّن – ولذلك كافح حدسك لأنك لن تحتاج إليه، بل تحتاج إلى الحصول على الكثير من المعلومات. التجارب الأخرى معقدة بشكل أكبر، فقد يكون تفاعلك للمرة العاشرة مع الموظف لا يشبه المرات السابقة، وفي هذه الحالات، لديك مشكلة في التجربة – ومن ثَم عليك مكافحة رد فعلك العاطفي لكي تتمهل، فالأمور قد تتغير. لا يُعرف بوضوح دائماً ما التجارب التي ستتغير مع مرور الوقت، ولكن الاضطلاع ببعض الأعمال مسبقاً من أجل تكوين فرضية مبنية على المعرفة والخبرة يمكن أن يؤتي ثماره.
ثانياً: خذ وجهات نظر الآخرين بعين الاعتبار
من البديهي أن نفترض أن الآخرين سيلاحظون كل سطر مكتوب ضمن طلبات التوظيف الخاصة بنا تماماً كما نراها نحن، ولكنهم على الأرجح لن يفعلوا ذلك. تذكر مدى سرعة الجمهور في الحكم عليك، وعندما تريد إثارة إعجاب الآخرين، ابذل معظم وقتك وطاقتك في تجويد بعض المعلومات، بدلاً من أن ينتابك القلق وتركز على كل جزء صغير. فالأشخاص الذين يتولّون عملية التقييم يُحتمل ألّا يدقّقوا في كل صفحة من صفحات سيرتك الذاتية العشرين - بل سيشكّلون انطباعهم عنك من الصفحة الأولى.
ثالثاً: دوّن النتائج
أمضيتَ حياتك في تصنيف المعلومات الجديدة، فمتى استخلصت استنتاجات غير ناضجة وبفارغ الصبر؟ متى جمعتَ الكثير من المعلومات التي لم تفدك في شيء؟ كلما استطعت استعمال بيانات من حياتك الخاصة ستكون أفضل في معرفة مقدار البيانات الذي تحتاج إلى تجميعه ومشاركته في المرة المقبلة. ستزيد احتمالات تكوين الأفكار واتخاذ القرارات لديك - ولدى الآخرين - أسرع مما تتخيل، وستتيح لك معرفة هذه الحقيقة تكوين توقعات أكثر واقعية في المستقبل - على أمل أن تساعدك في الاستفادة من عصر المعلومات الذي نعيشه اليوم.
اقرأ أيضاً: