شهدت ممارسات التميز المؤسسي عصراً ذهبياً خلال العقدين الماضيين. وسواء اعتبرناها نهجاً إدارياً مستقلاً، أو ممارسة مشتقة من تطبيقات الجودة والجودة الشاملة، فإنها نجحت في ترغيب الكثير من المؤسسات وحضّها نحو الريادة والتفوق والتطوير المستمر.
بإلقاء نظرة فاحصة على هذا الواقع، نستنتج أنه من الصعوبة بمكان الفصل بين جوائز التميز المؤسسي وتطبيق مبادئ التميز وممارساته، وذلك لعدة أسباب منها؛ الطفرة في عدد الجوائز وفئاتها إذ وجدت دراسة مؤخراً أن أكثر من 56 دولة حول العالم تنظّم جوائز خاصة بالتميز المؤسسي ولديها برامج نشطة في هذا المجال، وكذلك مشاركة مختلف القطاعات في هذه المسيرة سواء قطاعات حكومية أو شبه حكومية أو خاصة. أضف إلى ذلك مبدأ الإلزامية الذي تفردت به بعض البرامج وخاصة الحكومية منها.
نتج عن مسيرة التميز المؤسسي التي دخلت في عقدها الرابع على مستوى العالم، بروز مؤسسات متميزة أثبتت قدرتها على التفرد والريادة وطنياً ودولياً، وكذلك نجاحها في تحقيق الكفاءة والفعالية على نحو مستمر، بما يلبي توقعات الأطراف المعنية ويتجاوزها.
إن المسار الطبيعي للمؤسسات التي ترتقي على سلم التميز هو الفوز بجوائز التميز المؤسسي، وعند تكرار الفوز دورة بعد دورة، تجد تلك المؤسسات نفسها في موقف ينطوي على شيء من الغرابة؛ فهي من جهة تعلم أن التميز هو رحلة، ومسيرة مستمرة لا تنتهي ولا نصل فيها إلى خط النهاية، ومن جهة أخرى تجد أن المنافسة قد أصبحت أضعف، وأن أساسيات التميز أضحت راسخة وبديهية في أروقة المؤسسة، وفي أذهان الموظفين.
من جوانب تلك المعضلة الإدارية، رغبة تلك المؤسسات في الاستمرار في الفوز والتميز -وهذا أمر محق ومشروع- ولكن كما يقال فإن المحافظة على النجاح أصعب من النجاح نفسه، ويكتسب هذا القول أهمية خاصة في عالم التميز. كما أنه من الشائع عند البعض رؤية النقطة السوداء في اللوحة البيضاء، لذلك فإن أي تباطؤ ولو طفيفاً من جانب المؤسسات الفائقة التميز سيحدث أثراً كبيراً داخل المؤسسة وخارجها. نضيف إلى ذلك أن العديد من المؤسسات الأخرى الطامحة ستعمل بجهد استثنائي لتتذوق لذة الفوز والتتويج.
الأمر لا يرتبط فقط بالمؤسسة، ولكن أيضاً بالجهات القائمة على الجوائز، فمن المصلحة العامة لتلك الجوائز ألّا تسيطر مؤسسة أو بضع مؤسسات على المراكز الأولى سيطرة دائمة، فهذا من شأنه التأثير على دافعية باقي الجهات، والحد من الأثر الإيجابي للمنافسة المرجوة.
تسلك الجهات في معضلة التميز الفائق سلوكيات مختلفة؛ كأن تقوم المؤسسات بالبحث عن جوائز أخرى على المستويين الإقليمي والدولي لتؤكد تميزها، وتحتك بأفضل الممارسات بهدف التعلم والتطوير. ويلاقي هذا التوجه استحساناً داخل المؤسسة بسبب وجود الخبرة السابقة في المشاركة في الجوائز، ورغبة بعض القطاعات والإدارات بالإشارة إلى تميزها بين أقرانها.
كذلك يلاقي هذا التوجّه استحساناً على مستوى القيادة لأنه يثبت أن تميز هذه المؤسسة ليس وليد الصدفة، أو نتيجة ضعف المنافسة، أو بسبب طبيعة عملها، أو الموارد التي تتوافر لديها.
وقد تنحو المؤسسات الفائقة منحاً آخر بأن تقوم بالتركيز على نقل المعرفة، ومشاركة أفضل الممارسات مع الآخرين. وهذا هو المتوقع من تلك المؤسسات بعد أن زرعت وحصدت، كما أن القيام بذلك يشبع رغبتها في تأكيد التميز ولو بطريقة غير مباشرة.
من جهة أخرى، قد تقوم الجهات المشرفة على الجوائز بمبادرة إنشاء جوائز إضافية ذات مستوى أعلى كالجوائز الماسية والبلاتينية وجوائز النخبة، وغيرها. أو إطلاق فئات جديدة تخص تلك المؤسسات المتميزة، فتتنافس مع أقرانها وإنما على مستوى أضيق.
من الأسئلة التي تفرض نفسها هنا: هل يوجد آثار سلبية لما تقوم به المؤسسات المتميزة تحت تأثير هالة التميز؟
أعتقد بوجود تداعيات قد تختبرها بعض المؤسسات الفائقة، وغالباً ما يكون ذلك عن غير قصد، ودون وجود إرادة مؤسسية بذلك. ومن هذه التداعيات:
- الذهاب إلى المشاركة في بعض الجوائز المتواضعة، أو تلك التي تحوم علامات استفهام حول أنظمة الحوكمة والتقييم والتكريم فيها. وذلك تحت ضغط الرغبة في الاستمرار في حصد الجوائز والتكريمات.
- الميل إلى المبالغة في الإبراز الإعلامي لبعض الإنجازات والمشاريع، وبذل جهد كبير لتسويقها وعرضها بأفضل طريقة ممكنة.
- استغلال بعض الشركات الاستشارية هذا النهم إلى التميز، فتقدم مشاريع ومبادرات تدغدغ رغبة هذه المؤسسات بهدف الحصول على عقود عمل.
- الذهاب في اتجاه عكسي أحياناً، فتعزف المؤسسات المتميزة عن المشاركة في الجوائز -إلّا الإلزامية منها- مبررة لنفسها ذلك بأنها قد فازت بالكثير من الجوائز، وأنها قادرة على الاستمرار بالتميز دون منصات التتويج.
المؤسسات الفائقة التميز هي مؤسسات ناضجة، بذلت الكثير من الجهد والعمل لتصل إلى ما وصلت إليه، ولكن بعضها قد يعاني من الآثار الجانبية للتميز الفائق. ويبرز هنا السؤال، هل هناك ما يمكن القيام به لتجنّب تلك الآثار أو التخفيف منها؟
يمكن أن نقترح عدداً من شبكات الأمان التي من شأنها مساعدة المؤسسات الفائقة على تجنّب ما أسميه "مطبات القمة"، ويمكن أن نفرد تلك الشبكات كالتالي:
- حوكمة عملية المشاركة في الجوائز، وذلك من خلال وضع أجندة سنوية للجوائز التي تستهدف الجهة المشاركة فيها. مع وضع محددات لتقييم كل جائزة من حيث السمعة والمعايير وطريقة المشاركة وتعدد الفئات وآلية التقييم وغيرها. وكذلك حساب القيمة المضافة من الفوز بتلك الجائزة فمثلاً المشاركة في جائزة تطبّق نفس النموذج أو ذات المعايير التي تطبقها جوائز فازت بها الجهة من قبل يقلل من القيمة المضافة المتوقعة وكذلك كمية التعلم المؤسسي المتوقع تحقيقها. على أن يتم المشاركة في الجوائز التي تنجح في النفاذ من شبكة الحوكمة هذه، واضعين في الاعتبار أن فوز المؤسسات الفائقة ببعض الجوائز هو خطوة إلى الوراء، والفوز ببعضها الآخر مدعاة للفخر ودليل دامغ على الريادة والتفوّق.
- توجيه الفريق الإعلامي إلى اعتماد طريقة محددة في صياغة الأخبار وإدارة الظهور الإعلامي للجهة، وذلك باستخدام أسلوب الكتابة الواقعية المدعّمة بالإحصائيات والأرقام، ومحاولة الخروج من الديباجة أو استخدام التعابير التسويقية السائدة. من السهل والمغري دائماً الانزلاق إلى هذا التوجه التسويقي البحت، والمبالغة في الغوص فيه، ولكن المتوقع من المؤسسات الفائقة التميز القدرة على ضبط النفس، والتمنع عما تعتبره الشركات المتواضعة هدفاً وتوجهاً. وهناك الكثير من الأخطاء الشائعة في أعمال العلاقات العامة وأقسام الاتصال المؤسسي يمكن النظر إلى بعضها في هذا المقال المنشور في هارفادر بزنس ريفيو العربية.
- بناء القدرات الداخلية الخاصة في مجال التميز المؤسسي، وهذا يشمل طبقات متعددة من عموم الموظفين، إلى المدراء والمشرفين، إلى القيادة العليا. وكذلك المتخصصون في التميز المؤسسي الذين يقومون على أعمال التخطيط والتنظيم والتنفيذ والمتابعة في هذا المجال. النجاح بنسج هذه الشبكة سيجعل التميز المؤسسي عملاً مستداماً في الجهة، وكذلك سيخلصها من العديد من معارضات التميز مثل نحن غير مسؤولين، هذا ليس من صميم عملنا، هذا عمل إضافي، الأفضل أن نركّز على تخصصاتنا الحيوية، وغير ذلك. وهذا من شأنه أيضاً أن يقلل الحاجة إلى الاستعانة بالشركات الاستشارية في ممارسات التميز المؤسسي إلى حد كبير.
إن معضلة المؤسسات الفائقة التميز هي معضلة حقيقية، تواجهها المؤسسات التي وصلت إلى مرحلة متقدمة في تطبيق التميز المؤسسي، كما أنها تتطلب وعياً ونضجاً إدارياً مرتفعين لتتمكن الجهات من تجاوز آثارها، والحفاظ على اتزانها أعلى قمة هرم التميز.