لم تتوقف التساؤلات والتكهنات بشأن نهاية الإدارة الوسطى، منذ عام 2011 حين طرحت هارفارد بزنس ريفيو تساؤلاتها، مروراً بتقارير بي بي سي بعد 4 أعوام، لكن الواقع جاء على عكس التوقعات؛ إذ ارتفعت نسبة مدراء الإدارة الوسطى في سوق العمل الأميركية من 9.2% عام 1983 إلى 13% في عام 2022.
في الآونة الأخيرة، بدأت التحذيرات تتصاعد مجدداً بشأن اندثار هذا الدور؛ إذ تتوقع شركة غارتنر (Gartner) لجوء 20% من المؤسسات حتى عام 2026 إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لتسطيح هياكلها الإدارية، ما سيؤدي إلى إلغاء أكثر من نصف وظائف الإدارة الوسطى الحالية. كما أفاد 44% من المهنيين الأميركيين بأن شركاتهم قلّصت أدوار المدراء، وفق تقرير جديد صادر عن شركة كورن فيري (Korn Ferry). ومع ارتفاع معدلات الاحتراق الوظيفي وعدم الرضا بين مدراء الإدارة الوسطى، ووفق دراسة استقصائية جديدة أجرتها مؤسسة غالوب تكشف عن تراجع حاد في مستوى اندماجهم، يحق لنا أن نتساءل: هل ثمة خطأ في طبيعة المهام التي توكلها الشركات إلى هؤلاء الموظفين؟
لتحليل هذه التوجهات وفهمها بصورة أعمق، تواصلنا مع 3 مجموعات من الخبراء وطرحنا عليهم السؤال التالي: ما هو مستقبل الإدارة الوسطى؟ وإليك إجاباتهم بعد تحريرها لتوضيح المعنى.
من مدراء مباشرين إلى وكلاء للتغيير
أستاذة كرسي تشارلز إدوارد ويلسون لإدارة الأعمال في كلية هارفارد للأعمال، رافاييلا سادون، والأستاذ المساعد في الكلية نفسها، خورخي تامايو. تتناول أبحاثهما الحالية الدور المحوري الذي يؤديه مدراء الإدارة الوسطى في تباين مستويات الأداء داخل الشركات.
تشهد المؤسسات اليوم تحولات جذرية على المستويين التكنولوجي والتنافسي، ما يفرض إعادة النظر في آليات العمل؛ فلم تعد تطورات الذكاء الاصطناعي التوليدي مقتصرة على المهام الروتينية، بل بدأت تمتد إلى الوظائف الإدارية والمكتبية، ما يضعف الافتراض القائل إن هذه الأدوار بمنأى عن الأتمتة. وفي الوقت نفسه، باتت الحاجة إلى التركيز على العميل أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. وكي تحافظ المؤسسات على قدرتها التنافسية، عليها أن تقلِّص المسافة البيروقراطية بين القيادة العليا والعملاء النهائيين لتسمح بمزيد من المرونة وسرعة الاستجابة.
وقد تمثلت إحدى الاستجابات لهذه التحولات في تقليص المستويات الإدارية عبر إزالة طبقة الإدارة الوسطى لتحسين الإنتاجية وتعزيز المرونة وتحفيز الموظفين. بيد أن هذا الطرح يتجاهل حقيقة أساسية، وهي أن دور مدراء الإدارة الوسطى بات اليوم أهم من أي وقت مضى؛ لأنهم يؤدون دوراً حيوياً في تعزيز قدرة المؤسسة على التكيف مع المستجدات.
وتكمن أهمية مدير الإدارة الوسطى في قدرته على أداء وظيفتين أساسيتين:
أولاً: بوصفه حلقة الوصل بين موظفي الخطوط الأمامية والقيادة العليا، يقع على تماس مباشر مع رؤى العملاء؛ فهو في موقع فريد يتيح له رصد التغيرات في احتياجات العملاء ونقل هذه المعلومات الحيوية إلى صانعي القرار. وفي الأوقات التي تزداد فيها حالة عدم اليقين يتعين على المؤسسات تحسين عروض قيمتها بسرعة، وتصبح حلقة الملاحظات هذه ضرورية.
ثانياً: يضطلع مدير الإدارة الوسطى بدور المدرب والموجه؛ إذ يترجم التحولات الاستراتيجية إلى إجراءات ملموسة على أرض الواقع. ومع ما تُحدثه التكنولوجيا من تغيرات في طبيعة الوظائف، يوجّه الموظفين خلال المراحل الانتقالية، ويساعدهم على اكتساب مهارات جديدة والتأقلم مع المسؤوليات المتغيرة. وتؤكد الأبحاث الحديثة هذه النقطة؛ إذ تبيّن أن مدير الإدارة الوسطى يسهم بفعالية في تحفيز الموظفين على خوض البرامج التدريبية وتيسير تنمية رأس المال البشري ومساندة العاملين في مساراتهم المهنية داخل المؤسسة، كما أنه يشكل حلقة وصل حيوية في الإشراف على المهام التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتفسيرها، ما يضمن إسهام الأتمتة في تعزيز الخبرة البشرية، بدلاً من أن تحل محلها.
قد يؤدي التخلص من الإدارة الوسطى إلى نتائج عكسية، لكن هذا لا يمنح المؤسسات مبرراً للإبقاء على الوضع الراهن دون تغيير؛ فبينما تعيد الشركات النظر في آليات صناعة القرار وهياكلها التنظيمية، كشفت أبحاثنا الجارية أن مدراء الإدارة الوسطى مطالبون باكتساب مهارات جديدة وتولي مسؤوليات مختلفة؛ إذ يتغير دورهم من الإشراف إلى التيسير، ومن المراقبة إلى بناء القدرات.
باختصار، على مدراء الإدارة الوسطى أن يتحولوا إلى وكلاء للتغيير.
المشكلة أن مؤسسات كثيرة لا تمنح مدراء الإدارة الوسطى الصلاحيات التي تمكّنهم من أداء هذا الدور؛ فعوضاً عن الاستفادة منهم في فهم احتياجات العملاء أو تدريب الموظفين وتحفيزهم، تُكلّفهم الشركات غالباً بمهام إدارية روتينية يسهل أتمتتها. يؤدي هذا التوزيع غير السليم للمسؤوليات إلى تقليص أثرهم المحتمل بدرجة كبيرة؛ فبدلاً من الإشراف على العمليات اليومية، يجب أن يركز مدراء الإدارة الوسطى على توجيه الموظفين خلال مراحل تطوير المهارات، إلى جانب تعزيز التعاون بين الفرق والمساعدة على دمج التكنولوجيات الجديدة في العمليات.
حتى عندما تدرك المؤسسات ضرورة تمكين مدراء الإدارة الوسطى من أداء أدوار أوسع، فكثيراً ما تهمل توفير التدريب اللازم لتحقيق هذا التحول. وعلى الرغم من ازدياد الاهتمام بالتدريب على "المهارات الشخصية"، وهي مهارات أساسية في مجالي التوجيه والتحفيز، فإن جودة محتوى برامج التدريب وطريقة تقديمه لا تحظيان بالاهتمام نفسه. إضافة إلى ذلك، يحتاج مدراء الإدارة الوسطى أيضاً إلى صقل مهاراتهم التقنية لمواكبة وتيرة الأتمتة؛ فمع تولي الذكاء الاصطناعي مهام حل المشكلات الروتينية، ينبغي أن يتوجه اهتمام المدراء إلى التركيز على المشكلات المعقدة واكتساب المهارات التحليلية والاستراتيجية التي تجعلهم إضافة مكملة للتكنولوجيا بدلاً من أن يكونوا ضحايا لها.
إلى جانب التدريب، ثمة عائق آخر يحول دون فعالية الإدارة الوسطى، ويتمثل في طريقة اختيار المؤسسات لمدرائها وتقييمهم؛ فلا تزال شركات عديدة تُرقي الموظفين استناداً إلى أدائهم في مهام لا تمتّ للإدارة بصلة، كأن تُعيّن أفضل مندوبي المبيعات في مناصب إدارية، دون النظر إلى امتلاكهم القدرة على التوجيه أو التنسيق أو قيادة التغيير. والأسوأ من ذلك أنّ معايير النجاح الإداري غالباً ما تعجز عن رصد الإسهامات الجوهرية للمدراء. وإذا لم تعتمد المؤسسات أساليب تقييم وتحفيز تُراعي القدرة على التوجيه والتدريب والتعاون بين الفرق، فستجد صعوبة في إطلاق كامل طاقات مدرائها في المستويات الوسطى.
الإدارة الوسطى لا تقوض المرونة، بل هي ركيزة أساسية لها، والمؤسسات التي تدرك هذه الحقيقة ستكون الأقدر على الازدهار في عصر التغير المتسارع؛ أما تلك التي تهمل إعادة تأهيل مدرائها في هذا المستوى وتطوير مهاراتهم فتخاطر بخسارة طبقة قيادية حيوية في أشد أوقات الحاجة إليها.
من مشرفين إلى رعاة للتحول الرقمي
الأستاذة المشاركة في كلية الأعمال بجامعة ساسكس (University of Sussex Business School)، ومؤلفة مقال "القيمة الحقيقية لمدراء الإدارة الوسطى" (The Real Value of Middle Managers) المنشور في هارفارد بزنس ريفيو، زهيرة جاسر.
في عصر الرقمنة والإدارة القائمة على الخوارزميات، يزداد التركيز في تصميم التكنولوجيا على اتخاذ قرارات كانت سابقاً من صميم مهام المدراء، مثل تنظيم ورديات العمل وضبط الجودة وإدارة الأداء. ونتيجة لذلك، قد تسود قناعة بتراجع الحاجة إلى مدراء الإدارة الوسطى، لا سيّما مَن يؤدون أدواراً إشرافية.
لكن تحليلاً شمل 34 مليون إعلان عن وظائف شاغرة على مدار 14 عاماً يكشف عن تزايد ملحوظ في أعداد المدراء، إضافة إلى تطور فعلي في أدوار مدراء الإدارة الوسطى؛ إذ باتت تتطلب مهارات تعاونية أكثر من المهارات الإشرافية، نظراً لما يفرضه التغيير المستمر والابتكار. وبوصفي باحثة في المنهج النوعي أجريت مقابلات مع مئات من مدراء الإدارة الوسطى، وأرى أن هذه النتائج تتوافق تماماً مع ما توصلت إليه، لا سيّما ما يتعلق بالدور الحيوي الذي يضطلعون به في إنجاح التحولات الرقمية.
أثبت أحدث أبحاثي لمركز ديجيت ريسيرتش سنتر (Digit Research Centre)، الذي أُجري بالتعاون مع الزميلين دييغو كامبانولو ومارتينا جيانكيني من جامعة بادوفا (University of Padova)، أن مدراء الإدارة الوسطى يطورون مهارات وممارسات تركز على البعد الإنساني في تنفيذ التحولات التكنولوجية. وترتكز هذه الممارسات على 3 محاور رئيسية: من القمة إلى القاعدة ومن القاعدة إلى القمة وفي أقسام المؤسسة المختلفة.
تتمثّل التأثيرات التنازلية من القمة إلى القاعدة في عمل المدراء على تطبيق استراتيجيات رقمية تُوجّه أنشطة العاملين. ومن خلال أبحاثنا في مصنع بإيطاليا اضطر إلى إجراء تحول رقمي جذري للتغلب على ارتفاع تكاليف العمالة مقارنة بمواقع أخرى على مستوى العالم، وضمان تحسين الإنتاجية والجودة، أثبتنا أن مدراء الإدارة الوسطى أدوا دوراً محورياً في تنفيذ هذا التحول من القمة إلى القاعدة؛ إذ كان عليهم إقناع العاملين بالتأقلم مع خطوط الإنتاج الرقمية الجديدة وتهدئة مخاوفهم من التكنولوجيا بثلاث طرق أساسية: من خلال مساعدة الموظفين القدامى على اكتساب مهارات جديدة بتأنٍ، وإعادة تصميم بعض الأدوار بصورة إبداعية، والإسهام في تنفيذ قرارات تقليص الوظائف وتجميد التعيينات الجديدة بأسلوب يحفظ كرامة الجميع. وبهذا، لم ينظر العاملون إلى التكنولوجيا على أنها وسيلة للمراقبة، بل تقبلوها بوصفها أداة تحوّلية أصبحت جزءاً من هوية المصنع، وذلك بفضل الدور الذي أداه مدراء الإدارة الوسطى.
كانت التغييرات مدفوعة أيضاً بتأثير من القاعدة إلى القمة؛ فمن خلال الاستماع إلى مخاوف العاملين على أرض الواقع، استطاع مدراء الإدارة الوسطى كسب ثقة الموظفين والإسهام في نجاح المصنع عموماً. ولتحقيق ذلك، اتخذ المدراء قراراً صريحاً بعدم استخدام أي من البيانات الناتجة عن كل إجراء يتخذه العامل لإدارة الأداء، وهو ما ساعد على تخفيف الإحساس بأن التكنولوجيا وسيلة للمراقبة. لكن إذا كشفت البيانات عن نمط متكرر من ضعف الأداء، فعلى المدير أن يتحقق من الأسباب في موقع الإنتاج المعني ويناقشه مع العاملين بناءً على الحقائق الفعلية. وقد أخبرني العديد من المدراء بأن هذه النقاشات أدت في كثير من الأحيان إلى تسريع تحسين الإنتاج، وكانت أساسية في نقل آراء الموظفين إلى الإدارة العليا وترجمتها إلى قرارات استراتيجية. ومن اللافت أن هذه الحوارات كشفت أيضاً للمدراء عن المشكلات النفسية والاجتماعية التي يواجهها الموظفون (مثل التوتر أو أعباء رعاية الأطفال، وما إلى ذلك) التي أسهم التعامل معها في تحسين الأداء الوظيفي أيضاً.
أخيراً، أدى مدراء الإدارة الوسطى دوراً محورياً في التأثير على أقسام المؤسسة المختلفة؛ فمع تطويرهم لهذه الممارسات الجديدة بالتعاون مع العاملين، أثاروا فضول زملاء آخرين في المؤسسة؛ ومن خلال نقاشاتهم معهم بدعم من مسؤولي الإدارة العليا وتشجيعهم، انتقلت أساليب العمل الجديدة إلى أقسام أخرى وانتشرت فيها.
ومع ازدياد تغلغل التكنولوجيا في بيئات العمل، تزداد ضرورة اهتمام المدراء بتأثير هذه الأدوات على الأفراد. ومن المتوقّع أن يكون مدير الإدارة الوسطى في المستقبل شخصاً عالي الكفاءة يتقن التعاون ويتمتع بالقدرة على التعاطف والذكاء العاطفي والمهارات النفسية والاجتماعية في بيئات تهدد بتحويل العاملين إلى "كائنات إلكترونية". ولهذا أقول: فليحيَ مدير الإدارة الوسطى!
من رموز سلبية إلى عناصر لا غنى عنها (ولكن بعدد معقول)
الرئيسة التنفيذية السابقة للموارد البشرية في شركة آي بي إم، وعضو مجلس إدارة شركة كرافت هاينز، والمستشارة الأولى لدى مجموعة بوسطن الاستشارية، دايان غيرسون، التي شاركت أيضاً في تأليف مقال "المدراء لا يمكنهم فعل كل شيء" (Managers Can’t Do It All) المنشور في هارفارد بزنس ريفيو.
لطالما اعتُبر مدراء الإدارة الوسطى عبئاً زائداً، وكانوا عرضة للسخرية بوصفهم بيروقراطيين صغاراً يبطئون وتيرة العمل، حتى تحولوا إلى رموز سلبية في ثقافة المؤسسات؛ فهم مَن يتولون حماية السياسات وتنفيذ البرامج والتمسك بالسوابق الإدارية والضوابط وقواعد الامتثال، ما يضعهم على طرف النقيض من فلسفة "التحرك السريع وكسر القواعد" التي تبنّاها الكثير من الشركات في قطاع التكنولوجيا وغيره. ومؤخراً، أصبحوا هدفاً لخطط تسريح العاملين في شركات، مثل أمازون وميتا ويو بي إس (UPS) وسيلز فورس (Salesforce) وإكس وباير (Bayer)، ضمن مساعٍ لتسطيح التراتبية الهرمية وزيادة المرونة وتعزيز سرعة صناعة القرار داخل المؤسسة.
خلال مسيرتي المهنية، عايشت بنفسي الصراع القائم بين الرغبة في التحرك السريع والمقاومة التي تبديها الإدارة الوسطى. قبل سنوات، عيّنت مسؤولاً تنفيذياً بارزاً لإحداث نقلة في قسم يفتقر إلى الحيوية؛ فحاول تطبيق أسلوب عمل جديد يعتمد على المرونة وتقسيم المهام إلى دورات قصيرة متكررة وتفعيل التعاون في مساحة مشتركة، لكن سرعان ما أصيب بالإحباط من بطء استجابة مدراء المرافق والشؤون المالية بالشركة لطلبه إزالة بعض الجدران في مكان العمل، حتى إنه حضر ذات يوم ومعه منشار كهربائي. وعلى الرغم من تفهّمي إحباطه، كنت أدرك أيضاً أن مدراء الإدارة الوسطى يؤدون واجبهم في فرض الالتزام بتصاريح البناء والميزانيات والسياسات المتعلقة بمساحة العمل لكل موظف.
المشكلة أن كلاً منهم كان يركز على مهمته فقط، دون شعور بالمسؤولية المشتركة عن النتيجة النهائية؛ إذ كان مدراء الإدارة الوسطى يُكافؤون على إنجاز الأهداف الوظيفية وعدم مخالفة السياسات المعتمَدة والالتزام بالميزانيات؛ وكانت أسهل وسيلة لذلك هي مقاومة التغيير. ولم نتمكن من التغلب على هذا الجمود إلا حين جمعنا المدراء المعنيين كافة في غرفة واحدة لحل المشكلة معاً، فخرجنا بحل مبتكر لم يكن ليرى النور باستخدام المنشار الكهربائي ولا بغياب مدراء الإدارة الوسطى عن الاجتماع.
ثمة سبب آخر لتوجيه انتقادات متكررة للإدارة الوسطى، وهو أن كثيراً من المؤسسات لا تتنبّه لضبط حجم هذه الطبقة؛ فمن الطبيعي أن يحدث تضخم تدريجي في الإدارة الوسطى؛ إذ قد نُضيف نائب رئيس يتبع نائب رئيس آخر، أو مديراً لا يشرف إلا على موظف واحد أو اثنين، لأسباب تبدو وجيهة. وهكذا سرعان ما يتضخم عدد مدراء الإدارة الوسطى إلى أن يخرج عن حدود السيطرة. وللحد من هذا التضخم، يمكن للمؤسسة أن تطبق قواعد مثل نسبة ثابتة بين عدد المدراء والموظفين (كما هي الحال في أمازون التي تعتمد نسبة 15%) أو وضع سقف لعدد طبقات الإدارة وتحديد حد أدنى لنطاق الإشراف (عادة بين 6 إلى 10 موظفين تحت إشراف كل مدير). ثمة أساليب أخرى، مثل ضبط أعداد الموظفين بنظام صارم أو اعتماد استراتيجية "الترقية أو المغادرة" لإتاحة الفرص أمام أصحاب الكفاءة العالية.
لا شك في أن التكنولوجيا قد ألغت فعلاً كثيراً من أدوار مدراء الإدارة الوسطى، فأخرجتهم من دائرة التنسيق والتواصل، وقلّصت مهامهم الإدارية؛ فبفضل الاتصال عبر الفيديو والاجتماعات العامة، بات الرؤساء التنفيذيون يتواصلون مباشرة مع موظفيهم جميعاً، كما تتيح المنصات الرقمية الداخلية إمكانية الوصول المفتوح إلى المعلومات. وتوفّر منصات مثل سلاك (Slack) وجيرا (Jira) وسيلة للموظفين من مختلف الأقسام ليتواصلوا مباشرة وينسقوا العمل فيما بينهم لإنجاز المهام. وبمرور الوقت، أصبح الذكاء الاصطناعي يضطلع بجزء كبير من أدوار الموافقات والتدقيق وإعداد التقارير، وهي وظائف كانت من صميم مهام الإدارة الوسطى، ما يتيح إعادة توزيع هذه المهام ضمن هيكل تنظيمي أكثر تسطيحاً.
إذاً، هل ينبغي أن يستمر دور الإدارة الوسطى؟ لطالما أكد بيتر دراكر في أعماله على الدور الجوهري للمدراء، خاصة مدراء الإدارة الوسطى، في تحويل أهداف المؤسسة إلى أفعال ملموسة. ففي كتبه الرائدة، مثل "ممارسة الإدارة" (The Practice of Management) عام 1954 و"الإدارة: المهام والمسؤوليات والممارسات" (Management: Tasks, Responsibilities, Practices) عام 1973، ناقش دور المدراء باعتبارهم حلقة الوصل الأساسية بين الرؤية الاستراتيجية للإدارة العليا والواقع التشغيلي للمؤسسة. ولا يمكن الاستغناء بسهولة عن هذا الجانب من دور الإدارة الوسطى. ومع تصاعد التحديات والضبابية، يكرّس مدراء الإدارة الوسطى وقتهم لمساعدة فرقهم على فهم كيفية مواءمة أعمالهم مع استراتيجية الشركة وإعادة ترتيب الأولويات وتوزيع الميزانيات والموارد، وحماية موظفي الخطوط الأمامية من الرسائل القاسية التي قد تأتي من المستويات الإدارية العليا.
لقد رأينا المشكلات التي يخلقها التخلي عن هذه المهام؛ فقد أقدمت شركات مثل زابوس (Zappos) وفالف (Valve) وغيت هاب (GitHub) في وقت ما على إلغاء الإدارة الوسطى، واعتمدت نماذج عمل مرنة بدرجات مختلفة. لكن مع توسع هذه المؤسسات، بدأ الموظفون يُبلغون عن شعورهم بالتشتت في غياب توافق عملهم مع أهداف الشركة أو عند تعارض أهداف الوحدات المختلفة، كما أن غياب مدراء الإدارة الوسطى قوّض قدرة الفرق على التنسيق بين أقسام الهندسة والشؤون القانونية والتسويق والمبيعات وغيرها في المشاريع الجوهرية. وفي شركات أخرى مثل جنرال إلكتريك في عهد جاك ويلش أو إكس تحت قيادة إيلون ماسك، تقلّص عدد مدراء الإدارة الوسطى بنسبة كبيرة دون تعديل أساليب العمل، فظهرت مشكلات من نوع آخر؛ إذ اشتكى الموظفون من انعزال كل قسم عن الآخر ومن الاحتراق الوظيفي، في حين عانى المدراء تضارباً في تفسير مهامهم وفي آليات ترتيب الأولويات، وعدم وجود شخص يُحسن توظيف قدرات الموظفين بناءً على شخصياتهم ومهاراتهم لإنجاز المهام الجديدة بأفضل طريقة ممكنة. وفي نهاية المطاف، اضطرت هذه الشركات إلى الاعتماد على توجيهات مباشرة من الإدارة العليا، ما جعل القيادة نفسها عقبة أمام إجراءات الموافقة.
في النهاية، ربما كان دراكر محقاً حينما قال: "نحن بحاجة إلى مدراء الإدارة الوسطى، ولكن علينا تقليل عددهم".