ملخص: غالبية "الاستراتيجيات" التي تنتجها الشركات والحكومات ضعيفة وتفتقر إلى الدقة في تشخيص أي مشكلة وتحديد الإجراءات المناسبة لحلها، ومن أجل تصحيح هذه الظاهرة يجب أن نفهم حقيقة الاستراتيجية. الاستراتيجية في جوهرها هي تصميم الإجراءات اللازمة لمواجهة تحدٍّ أو فرصة مهمة، والفكرة الأساسية سواء في لعبة الشطرنج أو في الحروب أو الأعمال أو السياسة هي تركيز الطاقة والموارد على المكان الذي تعود فيه بأكبر فائدة، سواء كان موطن ضعف العدو أو الخصم أو حيث تكمن أعظم فرصة لتحقيق الربح. الاستراتيجية الفعالة ليست مجموعة تطلعات أو طموحات، ولا قائمة تضم كلّ الأفكار التي يعتقد أفراد لجنة وضع الاستراتيجية أنها جيدة، بل هي تصميم للإجراءات المنسقة التي تهدف إلى التغلب على تحدٍّ معين سواء كان في لعبة شطرنج أو في ساحة المعركة أو في حملة سياسية أو في الأعمال. فالاستراتيجية الفعالة تتعلق بالأمور ذات الأهمية الحاسمة لا بكل ما يفعله الجميع أو يرغبون بفعله.
طلب مني أحد الرؤساء التنفيذيين مؤخراً التوقيع على "اتفاق عدم الإفصاح" قبل أن نتدارس استراتيجية شركته، ثم أحضر مساعده ملفاً كتب عليه عنوان "الاستراتيجية" و"ليس للتوزيع"، وفيه شرائح "باور بوينت" مطبوعة على 22 صفحة تلخص غالبيتها رسالة الشركة وقيمها إلى جانب أدائها في الفترة الأخيرة. فيما يتعلق بالاستراتيجية، كانت النقاط الأساسية هي أن تقوم الشركة بما يلي:
- الاستثمار في الشرائح المتنامية في القطاع.
- الاستمرار في تحسين سلسلة التوريد.
- زيادة هامش الأرباح قبل الفوائد والضرائب إلى ما يزيد على 30%.
- تطوير نسخ أحدث من منتجاتها الأساسية.
عندما قرأت هذه المعلومات بدأت أتساءل عن سبب سريتها؛ فعدا عن الأرقام المستهدفة المحددة، يمكن طبع هذه المعلومات على بطاقات وبيعها بوصفها "استراتيجية تصلح لأي شركة"، كيف اعتبر هذا الرئيس التنفيذي ومجلس إدارة شركته هذا الهراء "استراتيجية"؟
غالبية "الاستراتيجيات" التي تنتجها الشركات والحكومات ضعيفة، وتفتقر إلى الدقة في تشخيص أي مشكلة وتحديد الإجراءات المناسبة لحلها، والسبب هو القطيع الاجتماعي؛ أي نزعة البشر لاستمداد أفكارهم وتصرفاتهم من سلوكيات الآخرين، وهو ما يفسر نتائج الأبحاث التي أجريت على تعاطي المخدرات والسمنة وتبيّن أن هذه السلوكيات تنتشر على النطاق الجغرافي وكأنها أمراض معدية. وبالنسبة للمسؤولين عن وضع الاستراتيجيات، تقدم شبكة الإنترنت مئات النماذج المؤلفة من خليط رديء من الكلمات على أنها استراتيجيات.
لا بد لنا من التصدي لهذه الظاهرة من أجل إبطال أثرها، ولتحقيق ذلك يجب أن نبدأ من فهم حقيقة الاستراتيجية. لكلمة "الاستراتيجية" جذور ضاربة في القدم، فهي مشتقة من الكلمة الإغريقية (strategoi - στρατηγός) التي تعني اللواء العسكري. الاستراتيجية في جوهرها هي تصميم الإجراءات اللازمة لمواجهة تحدٍّ أو فرصة مهمة، والفكرة الأساسية سواء في لعبة الشطرنج أو في الحروب أو الأعمال أو السياسة هي تركيز الطاقة والموارد على المكان الذي تعود فيه بأكبر فائدة، سواء كان موطن ضعف العدو أو الخصم أو حيث تكمن أعظم فرصة لتحقيق الربح. الاستراتيجية ليست مجموعة تطلعات أو طموحات، ولا قائمة تضم كلّ الأفكار التي يعتقد أفراد لجنة وضع الاستراتيجية أنها جيدة، بل الاستراتيجية الفعالة هي تصميم للإجراءات المنسقة التي تهدف إلى التغلب على تحدٍّ معين.
ما سبب صعوبة الاستراتيجية؟
العمل على وضع الاستراتيجية صعب؛ لأن معظم المواقف الاستراتيجية الخطِرة تكون أكثر تعقيداً بكثير من مواقف صنع القرارات، وهي ما أسميه الحلّ السهل الممتنع المعقد.
لا تتيح المواقف المعقدة خيارات أو فرص عمل يسهل تحديدها، بل تنطوي على عدة مشكلات يختلف المسؤولون التنفيذيون في تقييم أهميتها، فالقوى الأساسية والأسس المنطقية الفاعلة في هذه المشكلات لن تتجلى على الفور، ولن تكون الروابط بين الإجراءات الممكنة والنتائج الواقعية واضحة أيضاً.
يقال لنا كثيراً إن الاستراتيجية تتعلق بالاختيار، ولكن عموماً لا يقدم لنا أحد خيارات بديلة بل يجب علينا البحث عنها وتصميمها أو تخيلها. وفي أغلب الأحيان يتخذ أفراد الفريق قصيرو النظر أو الأطراف ذات المصالح الخاصة خيارات بديلة صارمة بصورة مصطنعة، مثل الغزو أو الحصار أو الاستحواذ على شركة ما أو عدمه، لكن ثمة طرق أخرى للتقدم غالباً.
وفي بعض الأحيان يتمثل التحدي الأهم في مشكلة تعانيها المؤسسة نفسها؛ ربما كانت بعض الأقسام غير قادرة على العمل مع الأقسام الأخرى، أو ربما تعاني البنية التنظيمية مشكلة تعيق تحسين الأداء. لا تتعلق الاستراتيجية بالمنافسة فقط، فالمشكلات المؤسسية الحيوية أيضاً هي مشكلات استراتيجية بحق.
بالنظر إلى التحديات المعقدة، أستخدم مصطلح الجوهر للإشارة إلى نقطة التقاطع بين المهارات الثلاث التي يملكها أفضل خبراء الاستراتيجيات؛ المهارة الأولى هي القدرة على تمييز المشكلات ذات الأهمية الحقيقية عن المشكلات الثانوية، والثانية هي القدرة على تقييم إمكانية معالجة المشكلات المختلفة، أما الثالثة فهي القدرة على التركيز وتجنب توزيع الموارد على أعمال أكثر مما يجب ومحاولة القيام بكل الأمور في آن معاً. تؤدي هذه المبادئ الثلاثة بمجموعها إلى تحديد الجوهر؛ أي الجزء الأهم من مجموعة التحديات الذي يمكن معالجته وثمة احتمال كبير لحله بواسطة مجموعة إجراءات مركزة ومتسقة.
فكرة الجوهر مجدية لأنها تعني تنسيق مصادر الطاقة وتوجيهها نحو هدف معين يتم اختياره؛ إذا كانت الطاقة ضعيفة فلن توقِع أي أثر، وإذا كانت قوية ولكنها مبعثرة وموزعة على عدة أهداف فلن توقِع أي أثر أيضاً، وإذا كانت الطاقة مركزة على الهدف غير المناسب، فمجدداً، لن توقِع أي أثر إيجابي، أما إذا كانت الطاقة مركزة على الهدف المناسب فستحقق إنجازات هائلة.
مصهَر الاستراتيجية
يمكن لفريق من كبار المسؤولين التنفيذيين إنشاء استراتيجية حقيقية عبر تخصيص وقت خاص للتمعن في التحديات وتحليلها واختصارها في مشكلة جوهرية محددة وابتكار إجراءات متسقة لمتابعة العمل على معالجتها. أسمي ورشة العمل هذه "مصهَر الاستراتيجية"، ومهما كان اسمها فمن الضروري فصلها عن المراجعات المالية ودورات وضع الميزانية.
يبدأ العمل في مصهَر الاستراتيجية بالتمعن في التغييرات التي تطرأ على التكنولوجيا والمجتمع وسلوك المشترين والقوانين والمشهد التنافسي والنتائج المحققة، ثم من المفيد مراجعة المشاريع السابقة الناجحة وغير الناجحة لتذكير المشاركين بمكامن قوة الشركة ومواطن ضعفها.
يتمثل سر نجاح مصهَر الاستراتيجية في التزام العمل مع التحديات بدلاً من أهداف الأداء أو الحالات المستهدفة المماثلة لها. يتمتع توضيح الطموحات والتطلعات بالقيمة دوماً، ولكن صياغة الاستراتيجية تتطلب انتباهاً مركزاً موجهاً نحو الحواجز والعوائق والمشكلات وغيرها من التحديات التي تعيق التقدم، بعبارة أخرى، هي استخدام لغة التحديات لا الأهداف.
وسر نجاح مصهر الاستراتيجية الثاني هو الوقت، فالفريق يحتاج إلى يومين على الأقل و3 أيام غالباً للانخراط بصورة كاملة في عملية حلّ المشكلات، حيث يقوم أفراده أولاً بطرح جميع خططهم ونقاطهم المفضلة قبل أن يبدأ كل منهم بتقبل طبيعة الموقف المعقدة.
وما إن تنخرط الفِرق في العملية فعلاً تعمل غالبيتها على وضع قائمة من 10 تحديات مختلفة أو أكثر، ويمكن إضافة المزيد من التحديات إلى القائمة من خلال دراسة المشاريع الحالية والسابقة والتمعن في المشكلات التي يعمل الفريق على حلها. ومع اكتساب الفريق خبرة أكبر سيتمكن من وضع قائمة بتحديات أقل إذ يدرك أفراده ضرورة التركيز.
لن تكون القائمة التي تضم ما بين 10 تحديات و25 تحدياً مفيدة إلا إذا تم اختصارها في هدف واحد أو هدفين فقط، ويتمثل صميم ورشة "مصهَر الاستراتيجية" في تقليل عدد الأعمال التي يجب القيام بها، لذلك فهي تتطلب تقييمات أعمق بدرجة متزايدة لأهمية تقليص مجموعة التحديات وإمكانية معالجتها. من أجل ضمان إمكانية معالجة التحديات، يجب أن تتوفر طريقة لإحراز تقدم كبير في معالجة المشكلة على المدى المنظور الذي يتراوح بين 12 و24 شهراً عادة، وإن لم يكن ذلك ممكناً فإما أن يفكك الفريق التحدي إلى مجموعة مكونات وإما أن يضعه جانباً. تعالج الاستراتيجية الجيدة سلسلة من الأهداف النهائية التي يمكن التغلب على كل منها مع مرور الوقت، ولا تهدر الوقت والطاقة للتعامل مع مشكلات وهمية أو غير مهمة.
الاستراتيجية التي تتشكل في مصهَر الاستراتيجية ليست رؤية بعيدة الأمد، بل هي خطة عمل للتغلب على التحديات الحيوية، وحتى إن بدا التحدي طويل الأمد يجب أن تكون خطة العمل قابلة للتنفيذ على الفور، وإن لم تكن كذلك فلن توقِع أثراً يذكر.
من المفهوم أن تؤدي تنحية الكثير من المشكلات لصالح مشكلة واحدة أو مشكلتين إلى إزعاج البعض، إذ لم تعد مشاريعهم أو مبادراتهم المفضلة ذات أولوية، ولكن من دون الفصل بين المشكلات الحيوية والمشكلات الأقل أهمية ستنشأ إجراءات وسياسات متعددة ومتضاربة تعرقل سير العمل في المؤسسة بصورة دائمة. وحين يتمكن المسؤولون التنفيذيون من فهم وتيرة إنشاء الاستراتيجيات الديناميكية الحقيقية بصورة تامة سيرون أن المشاريع التي تمت تنحيتها في هذه الجولة قد تشكل جوهر الجولات المقبلة.
يقلق معظم المسؤولون التنفيذيون بشأن الوجه العام لاستراتيجيتهم، فالموظفون والمستثمرون يتوقعون وصفاً عاماً لأهداف المؤسسة وأولوياتها الأساسية. ومن أجل التعامل مع هذا المطلب، يجب أن يقضي الفريق وقتاً كافياً على تشكيل الوجه العام للسياسات والإجراءات التي تم اختيارها، وفي هذا الخصوص من الأفضل تفادي الأهداف والتحدث عن التحديات الأساسية أو المهام العاجلة. ليس عليك توليد شعور بأن وثيقة الاستراتيجية هي سرد لكل الأمور المهمة وأنها ستُرضي الأطراف المعنية كافة. ربما كان ذلك مخالفاً للتقاليد ولكنه ضروري، فالاستراتيجية الفعالة تتعلق بالأمور ذات الأهمية الحاسمة لا بكل ما يفعله الجميع أو يرغبون بفعله.