خضعت وسائل الإعلام الأميركية لرقابة صارمة مع اتهام المحلّلين والسياسيين لها، وحتى الصحفيين أنفسهم بالتحيّز والميل إلى استخدام أسلوب الإثارة في تغطيتها للانتخابات الرئاسية، مما ولّد لدينا الشعور بالخذلان. وصرّح النُقّاد عبر الطيف السياسي أن الأخبار المزيفة والهجمات الإلكترونية لعبت دوراً كبيراً في تحديد مسار الأحداث. وتمحور المنطق السائد على فحوى "لو": لو كانت وسائل الإعلام أقلّ تأثراً بالقصص المروّعة، ولو طُهّرت وسائل الإعلام من التحيز، ولو أُلغيت الأخبار المزيفة وقُلّصت الهجمات الإلكترونية، لكانت النتيجة مختلفة. وامتازت عملية انتقال الرئاسة بالموقف نفسه: لو كانت وسائل الإعلام أقل تشتتاً والعناوين أكثر دقة.
التفكير بهذه الطريقة مغرٍ، لكنه يُخطئ الهدف، لأن وسائل الإعلام أدت دورها الذي وُجدت من أجله بالضبط، بالنظر إلى الحوافز التي تحكمها. ليس الأمر أن وسائل الإعلام تميل إلى استخدام أسلوب الإثارة، بل أن نموذج أعمالها يقودها في هذا الاتجاه. إن اتهامات التحيّز لا تجعله حقيقياً، بل غالباً ما يكمن التحيّز في عين المُشاهد، لأن الأخبار المزيفة والهجمات الإلكترونية هي محفّزات وليست أسباباً. لذا، فإن القضايا التي تواجهنا هيكلية.
سوف أطرح هنا سؤالاً: إذا كانت وسائل الإعلام ستغطّي الانتخابات مرة أخرى، فهل يمكن أن نتوقّع أي اختلاف بالنظر إلى تجاربنا السابقة؟ جوابي هو لا مع دعوة للتأمل، وذلك لسببين اثنين: طريقة صناعة الأخبار وتضخيمها، والتي تمثّل جانب العرض، والطريقة التي يعالج بها المستهلك الأخبار، بمعنى آخر جانب الطلب.
ويلزم هنا توضيح بعض الأمور. لا يتعلّق التحليل هنا بالمرشّح الذي يستحق الفوز أو الذي كانت رسالته "أفضل". بل يهتم بدراسة وسائل الإعلام وتغطيتها، وتحديد أسبابها الجذرية، وفهم ما يجب أن نتوقعه في المستقبل.
الجانب الأول، العرض: الترابط مهم أكثر من المحتوى أو المال
الحملات السياسية هي حملات تسويقية تتضمّن رسائل تهدف إلى بيع منتج ما، ومثل المسوّقين، يُصاب السياسيون بهوس الرسائل التي يُطلق عليها الصحفيون تسمية "المحتوى"، إضافة إلى عددٍ قليل من المقاييس الرئيسية التي حققت نجاحاً تاريخياً، مثل مقدار الإعلانات التلفزيونية، وعدد "الجنود المشاة"، وكثافة عمليات الاقتراع، والتركيبة السكّانية للناخبين. لكن في الحملتين الأخيرتين اللتين شاركتْ فيهما هيلاري كلينتون، وهي الانتخابات التمهيدية لعام 2008 وانتخابات عام 2016، فازت بمعظم هذه المقاييس وفشلت في الانتخابات.
تجدُر الإشارة هنا إلى اثنين من التطورات: الأول والأكثر وضوحاً هو أن وسائل الإعلام التقليدية لم تعد هي الطريقة الوحيدة لنشر الكلمة. يمكن لأيّ مرشح التواصل مباشرة وعلى الفور مع الملايين من الأفراد، إذ تشهد شركات الإعلام شكلاً متطرفاً من أشكال المنافسة التي تأتي مع التقنيات الرقمية: الجميع اليوم يمثّل شركة إعلامية.
والتطوّر الثاني والأهم هو أن وسائل الإعلام الاجتماعية متميزة عن وسائل الإعلام التقليدية في ربطها المستخدمين ببعضهم. وهذا يعني إمكانية نشر الرسائل بسهولة وسرعة أكبر، قارن عدد المرات التي تشارك فيها إعلاناً تلفزيونياً وتغريدة.
وللتداعيات ثلاثة أوجه:
لا ينجح المنتَج الأفضل دائماً. إذا كنت تدير حملة تعتمد على النظام المحوري، فسوف تجذب المتابعين واحداً تلو الآخر، حتى إذا كان لديك أفضل منتج أو مرشح. بينما سوف تنتشر رسالتك وميزتك بسرعة عند إطلاقك منتجاً أو مرشحاً يربط المستخدمين. وقد تعلمتْ شركة "آبل" (Apple) ذلك بالطريقة الصعبة. كان جهاز "ماكنتوش" (Macintosh) متفوقاً على أي جهاز كمبيوتر آخر ابتداء من عام 1984، ولمدة 20 عاماً. لكن بحلول عام 2004، انخفضت حصّته السوقية إلى 3%. كان لدى شركة "آبل" منتج رائع، لكن لدى "مايكروسوفت" (Microsoft) شبكة من المستخدمين المترابطين. ونظراً لتزايد استخدام الأفراد لأجهزة الكمبيوتر الشخصية، ولتصميم الشركة البرمجيات لهم، أصبحوا الخيار التلقائي للجميع تقريباً.
تفوّت غالبية المؤسسات ورجال الأعمال هذا النقطة، فالتركيز على إنشاء أفضل محتوى أو منتج فقط، يسفر عن الخسارة بسبب اتصالات المستخدم غير المستغلة، وهي ظاهرة أسميها "فخّ المحتوى". وهو ما يفسر سبب تنازل الشركات التي أرست استراتيجياتها على المحتوى عن القيادة الرقمية لتلك التي ركزت على الارتباطات.
تأمل شركة وسائل الإعلام الاسكندنافية "شيبستيد" (Schibsted)، التي صَمّمت تحولاً رقمياً مثيراً للإعجاب من خلال فلسفة الترابط. وركزت جهودها على كسب حصة أغلبية سوق الإعلانات الرقمية المصنّفة في أوروبا، وهو منتج يربط بين المشترين والبائعين. ثم حوّلت تركيز الأخبار من المحتوى الرائع إلى المحتوى المتأصّل في السؤال: هل يمكننا مساعدة القراء في مساعدة بعضهم البعض؟ لم يكن ما عرضته خلال أزمة الرماد البركاني في عام 2010، قصصاً حائزة على جوائز حول أسباب الثوران أو تداعياته الصحية، بل كان أحد التطبيقات المتركز حول المسافرين والذي سمح للقراء بتبادل خطط السفر وتقديم عروض رحلات لبعضهم البعض. وبالمثل، وجد العديد من الناخبين الأميركيين أن المحتوى الصحفي خلال انتخابات عام 2016 أقل أهمية مما كانوا يختبرونه في حياتهم الخاصة.
ميزانيات التسويق الأكبر لا تؤتي ثمارها. في عالم رقمي مليء بفوضى المنتجات، لا تُنفق أفضل الحملات التسويقية أي شيء تقريباً. لم يُنفق متجر "جيه سي بيني" (JC Penny) أي أموال على الإعلانات التلفزيونية خلال سوبر بول 2015، ولكن حملة "القفّازات" كانت واحدة من أكثر الحملات مشاهدة. اعتمدت الحملة على "تويتر" (Twitter) فقط، وانتشرت بسرعة بفعل الأخطاء الهجائية المتعمّدة. وبمجرد أن يجتذب المنتج "المترابط" المستخدمين، يصبح هؤلاء المستخدمون فعلياً قوة المبيعات. وتعتبر شركات "فيسبوك" (Facebook)، و"أوبر" (Uber)، و"إير بي إن بي" (Airbnb) كلها أمثلة على ذلك. لقد أنفق دونالد ترامب نصف ما أنفقته كلينتون خلال الحملة.
التوقعات مهمة. تؤثر التوقعات حول النمو المستقبلي في العوالم المترابطة على ما يختاره المستخدمون الحاليون، فيريد الأفراد أن يكونوا على منصة ناجحة. وقد أسفر ذلك عن استراتيجية تُعرف باسم المنتجات الوهمية، وهو مصطلح يحدث عندما تعلن الشركات عن نقاط القوة التي قد لا تمتلكها أو من المفترض أن تُطلق منتجات وشيكة لجذب المستخدمين. تدبّر كلمات ترامب الأولى في إعلان يونيو/تموز عام 2015 عن ترشحه "واو. ووه. هذا حشدٌ كبيرٌ من الأفراد. الآلاف... هذا أبعد من توقعات أي شخص. لم يسبق حضور حشدٍ كهذا من قبل". لم تكن هذه مجرد رسالة حملة، كانت محاولة لتشكيل التوقعات وتحفيز الترابط.
الجانب الثاني، العرض: تُحدد التقييمات الرسائل الواجب تضخيمها
إن المرحلة الأولى من الحملة التسويقية هي تحديد كيفية إنفاق أموال التسويق الخاصة بك، ومكان هذا الإنفاق. والمرحلة الثانية هي التأثير على كيفية تضخيم رسالتك. وإحدى أهم الآليات لذلك هي الإعلام التقليدي أو ما يسمى "التغطية الإعلامية المكتسبة". فيمكنك إنفاق الكثير في المرحلة الأولى والحصول على القليل من التضخيم في المرحلة الثانية، أو العكس.
إن إعادة توظيف الرسالة نفسها لن يُكسبها أي تضخيم، كما لا تكشف الأخبار "العادية" فوضى المعلومات في البيئة الإعلامية الحالية، الأحداث الكبيرة والمثيرة للدهشة هي من يؤدي هذا الدور. وينبع انحياز الإعلام نحو الأحداث الكبرى من ثلاث سمات لاقتصادها:
تكاليف ثابتة. لا تعتمد تكلفة تغطية بطولة الجولف ما إذا كان تايغر وودز داخل اللعبة. ولكن التقييمات والإيرادات ستتضاعف في حال مشاركته. وتؤثر الظاهرة نفسها على القرارات المتعلقة بتغطية قصص الأخبار أو التجمعات السياسية.
نموذج قائم على الإعلان. يُعتبر الإعلان وغيره من الرسوم غير المباشرة، مثل رسوم مشغلي محطات الكابل، رسوماً أساسية لاقتصاديات معظم وسائل الإعلام، وقد يخلق ذلك تحيزاً، فيكون عدد المشاهدين أكثر أهمية مما إذا كان المشاهدون يحبون التغطية. ما يهم هو أن تشاهد التغطية الإخبارية، وليس ما إذا كنت على استعداد لرمي الكرسي لشعورك بالاشمئزاز. لطالما كانت التكاليف الثابتة محورية في اقتصاديات وسائل الإعلام. وظهر الإعلان في وقت لاحق في أوائل القرن العشرين، وأصبحت الأخبار أكثر إثارة منذ ذلك الحين. وهذا ليس أمراً مستغرباً: إن المقياس الرئيسي الذي تُقيّم من خلاله المنافذ الإخبارية هو التقييمات التي تحظى بها، أو مشاهدات الصفحة التي تحققها، أو النسخ التي تبيعها.
الآثار غير المباشرة. لا يجذب الحدث الكبير في وسائل الإعلام والترفيه المشاهدين إلى الحدث نفسه فحسب، بل يحثُّ المشاهدين على متابعة الأحداث أو المنتجات ذات الصلة، والمنتجات السابقة للشركة أيضاً. فمن المرجح أن يشاهد الأفراد الذين يتابعون برنامجاً تلفزيونياً البرنامج التالي على القناة نفسها، على سبيل المثال.
ويعني كل عامل من هذه العوامل بشكل فردي أن للتقييمات أو عدد مشاهدات الصفحة أو حجم الجمهور بمعنى آخر أهمية كبيرة لشركات الإعلام. كما تؤدي جميعها معاً إلى تثبيت التصنيفات وإقصاء أي شيء آخر تقريباً. وتعزّز المنافسة هذه الديناميكية، مما يجعل حجم الجمهور بمثابة المقياس الذي تُقاس من خلاله المؤسسات الإعلامية. والنتيجة هي "فقاعة الترشيح" التي تعمل ضمنها الشركات.
يكون التحيّز في الأحداث الكبيرة أكثر وضوحاً في عالم الترفيه، فقد أصبح لفت الانتباه أمراً صعباً بمرور الوقت. وهذا ما يفسر الاتجاه نحو الترويج العرضي، العروض التكميلية، والامتيازات في البث التلفزيوني والأفلام حيث يكون المشاهدون على دراية بالفعل بالقصة الأساسية، والمؤلفين الكبار في الكتب بهدف توليد الدعاية، وسبب ميل البطولات الرياضية الناجحة إلى تحقيق المزيد من النجاح مع الوقت، فيستقطبون الكثير من المشاهدين، مما يسمح لهم بإنفاق المزيد على اللاعبين النجوم، الذين يجذبون بدورهم المزيد من المشاهدين. قد يكون النجاح أكثر ارتباطاً بالوعي منه بالجودة. عندما نُشرت رواية نداء الوقواق (Cuckoo’s Calling) تحت اسم مستعار وهو روبرت غالبريث عام 2013، بيع منها حوالي 1,500 نسخة في الشهر الأول. وبعد الكشف عن أن المؤلفة الحقيقية هي مبتكرة سلسلة هاري بوتر جوان رولينغ (جي كيه رولينغ)، ارتفعت المبيعات إلى أكثر من مليون.
وقد سمح استغلال الأحداث الكبيرة بنمو بعض الشركات الإعلامية مع الوقت. على سبيل المثال، دخلت قناة "فوكس نيوز" (Fox News) سوق المنافذ الإخبارية عن طريق الكابل المزدهرة عام 1996، وشهدت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد المشاهدين بعد أحداث "الأخبار الكبيرة" وهي انتخابات عام 2000، والهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول، وبدء الحرب في العراق. عندما اجتذبت الأحداث المشاهدين إلى أخبار الكوابل بشكل عام، نمت تقييمات "فوكس" مع تقييمات الشبكات الأخرى. لكن أكثر المشاهدين الذين تابعوا قناة فوكس استمروا في متابعتها حتى بعد مُضي الحدث، عندما أدركوا أن تغطية الشبكة كانت مختلفة.
تنشأ أحداث كبيرة في الحملات السياسية بإحدى ثلاث طرق، تحدث الطريقة الأولى بشكل متقطع وغير متوقع، كما هو الحال مع حادثة إطلاق النار في سان برناردينو أو ظهور شريط هوليوود. ويمكن لتوقيت مثل هذه المفاجآت أن يحمل المنفعة أو الضرر بشكل خاص (انظر: جيمس كومي). أما الطريقة الثانية هي من خلال التعريف بالاسم. فتصبح الأحداث أكثر جدارة بالنشر إذا كانت مصحوبة باسم كبير. والطريقة الثالثة هي عن طريق خلقها. وقد فَهِمَ ستيف جوبز هذا الأمر أكثر من معظم المسؤولين التنفيذيين للتكنولوجيا، لهذا السبب ارتقى بإعلانات منتجاته إلى الأسلوب الفني: كان على كل شركة إعلامية تغطية الإصدار الجديد لشركة "آبل". كما فَهم ترامب هذا أكثر من أي مرشّح آخر، ففي كل مرة أدلى فيها بتعليق استفزازي حول موضوع جديد، حظي بتغطية المنافذ الإخبارية.
وتساعد هذه القوى في تفسير سبب حصول ترامب على تغطية إعلامية أكثر بكثير من بيرني ساندرز، على سبيل المثال، الذي كان يروّج لرسالة شعبية شبيهة بالمعارضة. لكن الشَعبوية وعدم المساواة ليستا أخباراً، أما إطلاق لقب المغتصبين على المهاجرين المكسيكيين والتعهد ببناء جدار تُعتَبر من الأخبار الهامة. إذاً، لم يكن نموذج شعبوية ساندرز خبراً. أما شعبوية ترامب كانت كذلك. إن السبب متجذرٌ في اقتصاديات وسائل الإعلام، وليس في جهد الصحفيين والمبرمجين التنفيذيين أو تفضيلاتهم. وقد خلقت مجموعة التكاليف الثابتة، والنموذج الذي يعتمد على الإعلانات، والآثار غير المباشرة اختلافاً مذهلاً في التغطية الإعلامية المكتسبة خلال الانتخابات التمهيدية: 2 مليار دولار لترامب و300 مليون دولار لشركة"ساندرز" (Sanders). أما الإعلان التلفزيوني نادراً ما كان له شأن، وقد كان لكلينتون السبق في الاثنين على حد سواء.
قد تُسفر المنافسة عن نتائج عكسية
عادة ما تقود المنافسة والشركات الخاصة التي تعمل وفق مصلحتها الذاتية إلى أسواق تعمل بشكل جيد، لكن ليس دائماً. فقد يحدث استثناء عندما توجد العوامل الخارجية مثل الآثار الجانبية على الأشخاص أو الشركات الأخرى والتي لم تؤخذ عادة في حسبان الجهات الخاصة. والأمثلة الأساسية على ذلك هي تدخين السجائر أو التلوث، أو مدير متجر في سلسلة متاجر كبيرة يسعى إلى اتخاذ إجراءات تُفيد متجره الفردي، ولكنها تضر بعلامة الشركة الأم. إن السعي وراء مصلحتك الذاتية في مثل هذه الحالات (في هذه الحالة، كشركة إعلامية) لا تُعزّز بالضرورة الصالح العام، أو حتى الشخصي.
احتاجت شركة "نتفليكس" (Netflix) في عام 2009 إلى محتوى عالي الجودة لتنمية أعمالها المتدفّقة. ويمكن الحصول على هذا المحتوى من استوديوهات هوليوود فقط. وقد شهدت الاستوديوهات النمو في أعمال "نتفليكس" على أقراص الفيديو الرقمية (DVD) لمدة عقد، والآن، مع وضع مساومة أقوى في سوق البث كان بمقدور الاستديوهات عدم الترخيص لـ "نتفليكس" ووأدها في المهد، كما أن مبدأ البيع الأول الذي سمح لمالكي الأقراص الرقمية إعادة البيع لا ينطبق على قطاع البث. لذلك، مُنحت "نتفليكس" التراخيص، وسرعان ما أصبحت العملاق الذي لم يرغبوا في رؤيته ينمو. لماذا تصرّفت الاستوديوهات ضد مصالحها الخاصة؟
لو كان بإمكانهم الموافقة بشكل جماعي على عدم الترخيص لـ "نتفليكس"، لكانت النتيجة مختلفة. لكنهم لم يستطيعوا ذلك. أذعنت شركة "فياكوم" بادئ الأمر، فسجّل الترخيص حلقات برنامج "بيفيس وبات هيد" فقط (Beavis and Butt-head). ولا يمكن لعرض واحد، كما قيل، خلق عملاق بث. وما كان من الجميع إلا اتبّاع هذا المنطق.
لم يكن الأمر هو عدم وعي مزودي المحتوى بما كان يحدث، بل كان عدم تمكنهم من التنسيق. وهذا هو السبب في سماح الصحف لـ "جوجل" (Google) بالولوج إلى محتواها من أجل أخبار "جوجل". ولهذا السبب سلموا المحتوى إلى "فيسبوك" من أجل نموذج المقالات الفورية في العام الماضي.
والأمر سيّان مع الحملة السياسية الأخيرة. لو تجاهل كل منفذ إعلامي تجمعات ترامب وخطاباته، لكانت قد دفعت بسخاء لمنفذ إعلامي واحد لتغطيتها. ولا يمكن للآخرين تحمل عدم تغطية الحدث مجرد تغطية منفذ إعلامي واحد له.
وقد تآلفت هذه الأحداث بشكل مثير في نهاية الحملة عندما أعلن ترامب عقد مؤتمرٍ صحفي ليدلي بياناً رئيساً حول شهادة ميلاد الرئيس أوباما، والتي كانت مجرد كذبة قد دعمها لفترة طويلة لكنها اكتسبت زخماً في التغطية الإعلامية قبل عدة سنوات. وقد ظهرت وسائل الإعلام كلها تقريباً. كيف لا يمكنهم تغطية تصريح رئيس من قبل مرشح رئاسي؟ لكن المؤتمر كان خدعة، لم يكن هناك تصريح حقيقي، بخلاف أنه لن يكون هناك المزيد من التصريحات حول هذا الموضوع.
هذه هي معضلة السجين المتمثّلة في إعداد تقارير وسط المنافسة: إن اتباع مصلحتك الذاتية لا يؤدي دوماً إلى تعزيز الصالح العام. وقد أدى الوضع إلى إثارة أحد البيانات المثبطة والصريحة على الإطلاق من مسؤول إعلامي في أوائل عام 2016، عندما سُئل رئيس نظام البث في كولومبيا عن اهتمامه غير المتناسب الذي أولاه لترامب، فما كان منه إلا الرد قائلاً "قد لا يكون الأمر جيداً لأميركا، لكنه جيد جداً لنظام البث الكولومبي".
ولم تكن الشبكة وحدها، فقد تمتعت المنافذ الإخبارية عن طريق الكابل بمكاسب مماثلة في عام 2016، واعتُبرت تلك السنة أفضل عام لها على الإطلاق. وفي الوقت نفسه وصلت ثقة الجمهور في الصحافة إلى أدنى مستوى في التاريخ.
جانب الطلب: يستهلك المستهلكون ما يريدون
إحدى أطول المناقشات في مجال التسويق ليست حول إذا ما كانت أعمال الدعاية قائمة، ولكن حول كيفية عملها. وأحد الآراء هو أن التسويق يُقنع المستهلكين بالشراء. قد لا تُعجبك أغنية ما عند سماعها لمرة واحدة، لكن سماعها مراراً وتكراراً قد يؤدي إلى إعجابك بها، بغض النظر عن مدى جودة الأغنية أو سوئها، وهذا ما يُقصد بعبارة "كل الدعاية هي دعاية جيدة". ويجادل آخرون بأن التسويق يزيد الوعي فقط دون تغيير المعتقدات. وسماعك المتكرر لأغنية لا تتناسب مع ذوقك يجعلك وفق هذا المنطق أقل احتمالاً لشرائها.
هل تُغيّر تقارير وسائل الإعلام ما نؤمن به، أم أن تفضيلاتنا تشكل وسائل الإعلام التي نختار مشاهدتها في المقام الأول؟
تشير غالبية الأبحاث إلى أن الاحتمال الأخير أساسي: فتُحدد تفضيلاتنا الموجودة مسبقاً وسائل الإعلام التي نشاهدها إلى حد كبير. وإحدى أكثر النتائج الموثوقة في دراسة الترفيه التلفزيوني هي متابعة المشاهدين للبرامج التي تشبه شخصياتهم. فيتابع كبار السن برامج تضمّ شخصياتٍ كبيرة بالعمر، ويتابع المشاهدين الصغار عروضاً تضم أفراداً بعمرهم. وينطبق الأمر نفسه على النوع والعرق والدخل. كما يظهر تأثير مماثل في الأخبار، فنشاهد منافذ إخبارية تتفق تقاريرها مع معتقداتنا. ومن المرجح أن يتابع المشاهدون الذين يتبنون آراء حزب اليمين قناة "فوكس"، بينما يميل الأشخاص اليساريون إلى مشاهدة قناة "إم إس إن بي سي" (MSNBC). وتنطبق فروق مماثلة على اختيارات البرامج داخل الشبكة، فيمكن أن تختلف البرامج الموجودة على الشبكة نفسها في مواقفها.
سوف تكون هذه الأنماط في مشاهدة الأخبار محيرة إذا كان كل ما يعرضه مقدمو الأخبار هو توفير معلومات موضوعية يمكن التحقق منها. ومثل البرامج الترفيهية، تختلف البرامج الإخبارية والقنوات في مواقفها، وفي الطريقة التي يتم بها الإبلاغ عن المعلومات، والتي يُشار إليها في كثير من الأحيان باسم وجهة نظر، وفي المعلومات التي يقدمونها، أو بمعنى أخر جدول الأعمال. إن مواقف المواد الإخبارية مهمة عندما يتابع المشاهدون البرامج الإخبارية والقنوات التي تتناسب مواقفها مع أذواقهم ومعتقداتهم.
يتم تضخيم هذا النمط من التصنيف حسب المعتقدات بمرور الوقت من خلال العديد من العوامل الإضافية. الأول هو التنافس بين وسائل الإعلام، لأنه قد أسفرت التقنيات الرقمية عن ظهور عدد كبير من منافذ الإعلام الجديدة، والتي تلبّي كل منها أذواقاً أكثر تخصصاً. والعامل الثاني هو الانحياز التأكيدي للمشاهدين الذي يقودنا إلى رفض المعلومات الصحيحة التي لا تتفق مع معتقداتنا. إن الانحياز التأكيدي متجذرٌ بعمق في السلوك البشري. ولا يؤثر ذلك على كيفية معالجة المعلومات فحسب، بل أيضاً على الأشخاص الذين نرتبط بهم، مما يؤدي إلى إنشاء "فقاعات الترشيح". ويزيد تعزيز هذه الفقاعات عبر خوارزميات موقع الويب المصممة لتخصيص المعلومات التي نتلقاها بناءً على سلوكياتنا السابقة. يخدم أثر الإقناع لوسائل الإعلام أيضاً في ترسيخ هذه الفقاعات. وحتى تأثيرات مقنعة صغيرة يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة في انتخابات قريبة.
يزيد كل عامل من استقطاب المشاهدين، والذي قد وصل – بناءً على بعض المقاييس – إلى مستويات غير مسبوقة. وتصوغ هذه العوامل معاً كيفية ردنا على التحيز في وسائل الإعلام. فكّر في الجدل الدائر حول التحيز الإعلامي لليسار واليمين، والذي يرجع إلى عدة عقود وتزايدت حدته بمرور الوقت. وما يجعل مناقشات التحيز شائكة جداً هو أننا لا نتفق أبداً على معنى التحيز. يميل كل من النقاش والدراسات إلى التركيز على تقارير وسائل الإعلام، أي على المحتوى. لكن الدراسات تظهر أن المحتوى ليس المكان الوحيد الذي يُولّد التحيز. تُبيّن التجارب أنه عندما يشاهد شخصان لهما معتقدات مختلفة المحتوى نفسه بالضبط، تختلف تصوراتهم عن التحيز.
أضف إلى هذا كله أن التداعيات تصبح عميقة.
أولاً، نحن نشاهد ما نؤمن به، ولكن لا نشاهد ما لا نؤمن به. هذا هو تأثير الفرز على أساس المعتقدات.
ثانياً، يمكن أن تكون للتغطية السلبية عواقب غير مقصودة. عند سماعك لمصدر لا تثق به، وتقديمه تقارير لا تتفق مع معتقداتك، سوف يزداد شعورك بالازدراء. الاستثناء النادر هو عندما تكون الأحداث قابلة للتحقق بشكل لا يقبل الجدل، على سبيل المثال، مسألة مَن القائل في حوادث شريط هوليوود. خلال موسم الانتخابات، أيّدت المزيد من الصحف كلينتون أكثر من أي مرشح للرئاسة في تاريخ الولايات المتحدة. وأقرت صُحف معروفة بتأييدها الجمهوريين دعمها لكلينتون، إضافة إلى تأييد صُحف أخرى لم يُعرف عنها دعم أي مرشح من قبل. لكن لم يكن أي منها مهماً، كان المحتوى التحريري في الأساس غير ذي صلة.
ثالثاً، وللسبب نفسه، يمكن أن تساعد اتهامات التحيز في وسائل الإعلام في توفير منفذ إخباري. كلما زُعم أن قناتك المفضلة متحيزة من قبل أفراد لا تتفق معهم، ازدادت مشاهدتك لهذه القناة. لم يكن ترامب أول من لاحظ هذه الظاهرة: في أيام "فوكس نيوز" الأولى، كان كبار المسؤولين التنفيذيين يعترفون في كثير من الأحيان أن اتهامات التحيز تساعدهم. ولم يكن هذا التحيز محدداً للناخبين الذين يميلون إلى حزب اليمين. عندما غرّد ترامب بعد الانتخابات شكاوى حول "نيويورك تايمز" (New York Times)، و"فانيتي فير" (Vanity Fair)، شهد كل من منفذي البيع زيادة في الاشتراكات، لذا ترسّخ اتهامات التحيز المعتقدات وتعزّز الاستقطاب.
وما يبعث على التأمل بوجه الخصوص هو أن هذا كله ليس له أي صلة بالمشكلة التي لطالما استُنكرت في الأخبار المزيفة. تخلّص من جميع الأخبار المزيفة التي يمكنك التحقق منها، تماماً كما يجب على شركة "فيسبوك" وغيرها فعله بالتأكيد، ولكن ستبقى فقاعات الترشيح والاستقطاب واتهامات التحيز الإعلامي.
أين يقودنا هذا؟
تتّحد ثلاثة قوى لخلق التغطية الإعلامية للحملات السياسية التي نراها اليوم: ألا وهي وسائل الإعلام المتّصلة والتي تنشر الرسائل بشكل أسرع من وسائل الإعلام التقليدية، والتكاليف الثابتة، ونماذج الأعمال المعتمدة على الإعلانات في الوسائط التقليدية التي تضخم الرسائل المثيرة، وأنماط استهلاك أخبار المشاهدين، مما يؤدي إلى تصنيف الأفراد عبر وسائل الإعلام استناداً إلى معتقداتهم، ويجعل الرسائل التي يتفقون عليها بالفعل أكثر فعالية. وكل من هذه القوى يعزز الآخر. ولن تتمكّن حتى أفضل حملة تسويقية من النجاح دون هذه العوامل التمكينية، ولن يكون للأخبار المزيفة أو المعلومات المسربة من الهجمات الإلكترونية أي تأثير يذكر.
أُثيرت أسئلة عادلة حول غياب الصحافة الاستقصائية في وقت مبكر من الحملة، والمعادلات الخاطئة في إعداد التقارير، واستخدام نشطاء الحملات المدفوعة كخبراء في الأخبار التلفزيونية. لكن كان للتكنولوجيا الرقمية وحوافز الأعمال التجارية تأثيرٌ أكبر على التغطية الإعلامية من تأثير القرارات التحريرية وأصوات الناخبين المفقودة. وكان لفقاعة التصنيف تأثير كبير بمقدار تأثير فقاعات الترشيح. إن القوى العاملة هنا، والمتمثلة في البحث عن الربحية والمنافسة والمصلحة الذاتية هي أشياء نحتضنها كأميركيين بصورة جذرية.
التنافس في وسائل الإعلام يُفضي إلى الكفاءة، وكذلك إلى التحري والتوازن، والأشياء الجيدة كلها. لكنه يفشل في استيعاب العوامل الخارجية من تغطية مربحة ولكنها مثيرة. إنه يفضي إلى التمايز والمزيد من الأصوات التي تُعتبر جيدة أيضاً ومحور الجهود التنظيمية، ولكنه يسفر أيضاً عن التجزئة والاستقطاب وفقاعات الترشيح الخطيرة التي لا يمكن اختراقها.
من المغري توسيع التحليل بين التسويق والسياسة إلى حدٍ أبعد. فهما مختلفان في النواحي الهامة. والأمر الأبرز أنه يمكنك الفوز في مجال التسويق من خلال الاستراتيجيات التي تستغل حدث التحيز الكبير في وسائل الإعلام مثل الخطاب الذي يشد الانتباه، ومعتقدات المستهلكين من خلال الادعاءات التي تشوه منافسيك. وتجذب هذه الاستراتيجيات المستهلكين المناسبين لعلامتك التجارية. لكن اتباع النهج نفسه في السياسة الرئاسية محفوف بالمخاطر بشكل لا يصدق، لأنك عندما تفوز، تخدم الجميع، وليس فقط أولئك الذين "اشتروا منتجك". ورغم هذه الاختلافات، فإن اقتصاديات العرض والطلب التي تشّكل الاستراتيجيات الرقمية في مجال الأعمال تتّبع الأسلوب ذاته في السياسة أيضاً.
الأمر الذي يقود إلى استنتاجي: حتى إذا استطعنا "إعادة الضبط" بطريقة ما، سيكون علينا أن نتوقع نوع التغطية نفسه الذي حصلنا عليه. فالمشاكل عميقة وهيكلية.
ما السبيل إذاً؟ لا توجد إجابات سهلة على هذا السؤال. ويُشير هذا التحليل أساساً إلى الحلول التي لن تجدي نفعاً. لن تنفع الجهود الطوعية في ضبط النفس من قبل الصحفيين أصحاب النوايا الحسنة، بسبب نماذج الأعمال والمنافسة القائمة على الإعلانات. لن يُغير الحد من الأخبار المزيفة من حقيقة تجاهل الناخبين للأفكار المخالفة لمعتقداتهم. ولن تُحلّ التحديات الهيكلية لوسائل الإعلام أو تُغيّر حوافزها. يتعيّن على شركات الإعلام والقائمين عليها وزبائنهم وجميعنا البحث عن طرق لمواجهة هذه التحديات. ولا يمكن أن تكون المخاطر أفدح مما هي عليه الآن.