يُعد الأطباء والممرضون وغيرهم ممن يعملون في الخطوط الأمامية في مجال رعاية المرضى مصدراً محتملاً مهماً للابتكارات التي يمكنها تحسين صحة المرضى وتقليل تكلفة الرعاية الصحية. لكن تحويل الأطباء إلى رواد أعمال ليس بالأمر السهل. نظراً إلى وظائفهم اليومية -التي تشمل عادةً البحث العلمي وكتابة طلبات الحصول على المنح والتعامل مع المرضى في المراكز الطبية الأكاديمية- فهم يملكون من الوقت القليل، وغالباً ما يفتقرون إلى الخبرة اللازمة لتحويل فكرة إلى منتج قابل للتطبيق. فماذا عن مسرعات الأعمال والأسواق الناشئة؟
صمّم "مستشفى بوسطن للأطفال" (Boston Children's Hospital)، مسرّع ابتكار للتغلب على هذه العقبات. وفي الأيام الأولى من إطلاق المسرع (اُطلِق في أوائل عام 2016)، نعتقد أن المسرع حقق نجاحات كافية لإثبات أن نموذج العمل يمكنه أن يجدي نفعاً. وفي عامه الأول، نجح المسرّع في إشراك أكثر من 300 طبيب وباحث وإداري، والتأثير في أكثر من 25 قسماً في المستشفى. وأسهم في تسريع 9 مشروعات وأطلق 3 منها بصفتها شركات ناشئة نجحت في جمع أكثر من مليوني دولار من التمويل الاستثماري.
وعندما أجرينا دراسة استقصائية على الأطباء في جميع أقسام المستشفى في أوائل عام 2016، وجدنا أن 98% من 79 طبيباً مشاركاً، كان يرون أنفسهم كمبتكرين، أو منفتحين على المشاركة في أنشطة الابتكار الرقمي، ولكن 34% منهم فقط كانوا يجربون التكنولوجيا الرقمية في الممارسة الطبية.
اقرأ أيضاً: كيف نبدأ ثورة في مجال ريادة الأعمال؟
أخذنا هذه النتائج بالاعتبار عندما أطلقنا "مسرع الابتكار والصحة الرقمية" (Innovation & Digital Health Accelerator). تحول نهجنا سريعاً إلى التدقيق في الأفكار الأولية، وتطوير الواعدة منها من خلال توفير الدعم المخصص وفي الوقت المناسب. يوفر هذا النموذج السريع من ردود الفعل قيمة عالية لفرقنا الطبية. فحتى عندما لا نقبل مشروعاتهم على الفور، تكون الفرق متحمسة لإعادة النظر فيها، مما يأخذهم أحياناً إلى اتجاه غير متوقع وأكثر إنتاجية.
لماذا يجب أن تبني مسرع الأعمال الخاص بك؟
في البداية، فكرنا في التعاقد مع أحد المسرعات الموجودة أصلاً. نظرنا في أكثر من 10 برامج، منها المتخصصة في الرعاية الصحية ذات الصلات القوية ببيئة العمل لمجال الرعاية الصحية وبرامج أخرى خارج مجال الرعاية الصحية. ولكن لم يتطابق أي منها تماماً مع أطبائنا المبتكرين لأسباب عديدة:
1- كانت هذه البرامج تميل إلى التعاون مع الشركات الناشئة أكثر من مشروعاتنا التي ما زالت في مرحلة مبكرة.
2- لم يتوافق النموذج الخاص بهذه البرامج مع الجداول الزمنية المزدحمة للأطباء - خاصةً وأن الغالبية العظمى من الأطباء المبتكرين المتقدمين لإحدى منح المسرعات لدينا ليس لديهم أي نية في ترك وظائفهم اليومية للسعي وراء ريادة الأعمال بدوام كامل.
3- لم تتمكن الكثير من هذه البرامج من التعامل الكبير مع المشروعات المتنوعة التي أردنا دعمها - من الخوارزميات إلى التطبيقات إلى الأجهزة.
4- لم تكن هذه البرامج مصممة لتقديم التوجيه والدعم لمراحل التطوير المختلفة التي ستمر بها مشروعاتنا، بداية من الفكرة، ووصولاً إلى تأسيس الشركة.
لذلك، قررنا في النهاية تصميم مسرع الأعمال الخاص بنا داخلياً، ما قدم لنا ميزة إضافية تكمن في إمكانية تطوير الابتكارات ضمن الإطار الطبي، حيث يمكن اختبار الأفكار ونشرها.
تصميم مسرع أعمال داخلياً
يوفر نموذجنا تحليل عمل أولي، وتعليقات شخصية من فريق داخلي خبير في تطوير الأعمال والصحة الرقمية. يوفر النموذج التوجيه والإرشاد، ودعم التطوير، والتمويل المخصص لاحتياجات كل مشروع. ومن العناصر الأساسية لقدرتنا على تسريع الابتكارات الرقمية هي مجموعتنا الكاملة للتطوير وعلوم البيانات التي تضم نصف فريقنا المكون من 50 شخصاً، وهي مسؤولة عن إيجاد الابتكارات الرقمية واختبارها وتنفيذها.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لرائد الأعمال أن يجعل من التنوع مصدر ربح ونمو؟
ولتعزيز قدراتنا الداخلية، شكلنا شبكة خارجية من الخبراء والمتعاونين في هذا المجال. وقد سمح لنا هذا بتوفير مجموعة واسعة من الخدمات وتوسيع نطاق ابتكاراتنا بسرعة أكبر. ففي بعض الحالات، ساعدنا في تكوين شركات ناشئة جديدة، وفي حالات أخرى، ابتكرنا تقنيات تغير الطريقة التي نعتني بها بالمرضى في "مستشفى بوسطن للأطفال".
ونعزو نجاحنا حتى الآن إلى العناصر التالية:
1- بناء العقلية التجارية:
نحث من بداية المشروع على التفكير الريادي. يبدأ الأمر مع تقديم طلب المنحة الخاصة بنا: في حين أن الكثير من مبتكرينا معتادون على كتابة طلبات المنح البحثية، يُعد الطلب الخاص بنا شبيهاً أكثر بمسابقة خطة عمل تجاري. وفي المرحلة التالية، نشارك بفاعلية مع الأطباء المبتكرين فحص أفكارهم ودراستها من منظور تجاري. وفي النهاية، حتى إذا قررنا أن أفكارهم المبدئية ليست واعدة من الناحية التجارية، يكتسب المبتكرون منظوراً جديداً وقدرة على تقييم أفكارهم المستقبلية من منظور تجاري.
2- إصدار حكم مبكر:
عندما فتحنا أبوابنا لأول مرة أمام الابتكارات الداخلية، كنا قلقين من إمكانية استقبالنا للكثير من الأفكار منخفضة المستوى التي سنضطر إلى رفضها. وللمساعدة في تصنيف الأفكار وعدم إهدار وقت الأطباء، قدمنا جلسة بعنوان "الفرص السريعة" (Opportunity SPRINT)، وهي جلسة سريعة مدتها 90 دقيقة تجمع الفريق الطبي مع خبراء استراتيجيين في الأعمال، وخبراء تقنيين، وأطباء، وأحياناً مع الآباء والمرضى.
اقرأ أيضاً: كيف لريادة الأعمال أن تستفيد من الثورة الصناعية الرابعة؟
ومن العناصر الأساسية لجلسة الفرص السريعة "طاولة الفرص السريعة" (SPRINT Deck)، وهو مخطط نموذجي يرصد المشكلة والحل ومقترح القيمة الفريد والمنافسين والنظراء واتجاهات السوق والاقتصاد وغيرها من المعايير. ويؤدي هذا بطبيعة الحال إلى إجراء مناقشة يمكن أن يسمع الأطباء خلالها وجهات نظر متعددة، وتلقي المشورة لمساعدتهم في تطوير أفكارهم، أو تركيزها أو إعادة توجيهها حسب الحاجة.
وفي أحد الأمثلة، قدم اثنان من أبرز أطباء المسالك البولية -الطبيبان آلان بي ريتيك، ومايكل كورتايز- تصميماً أولياً لجهاز يمكنه تحسين التدخلات الطبية لعلاج انسداد مجرى البول السفلي للجنين، وهي حالة طبية خطيرة لا يوجد علاج مثالي لها. وبعدما أدركنا خلال جلسة الفرص السريعة أن سوق طب الأطفال الصغيرة لن تدعم تصميم جهاز جديد، جمعنا هذا الفريق في النهاية مع شركة "بوسطن ساينتيفيك" (Boston Scientific)، لتطبيق تقنيات الشركة الحالية. والآن المنتج في مرحلة ما قبل التجربة السريرية.
3- الرفض البنّاء:
في جلسات الفرص السريعة، يكون رفض الأفكار بمثابة فرصة للتعلم، وفرصة لمشاركة المبتكرين وتشجيعهم على إعادة صياغة أفكارهم. وجدنا أنه حتى الأشخاص الذين رُفِضت أفكارهم شعروا أن وقتهم لم يضع. ومع العديد من المشكلات التي لم تجد حلولاً لها في مجال الطب، نريد من مبتكرينا أن يعودوا إلينا بأفكار أكثر قابلية للتطبيق.
4- بناء فريق متنوع:
يتميز الأطباء بقدرتهم على التفكير، لكنهم بحاجة إلى متعاونين ذوي مواهب أخرى. حلل باحثون في "جامعة ستانفورد" الأميركية 231 شركة ناشئة متخصصة في صناعة الأجهزة الطبية، ووجدوا أن أكثر الشركات إنتاجية استعانت بطبيب مبتكر واحد على الأقل. ولكن عندما شكّل الأطباء أكثر من 40% من فريق الابتكار، انخفضت الإنتاجية بسرعة، وهي تُقاس بعدد موافقات "إدارة الدواء والغذاء" (إف دي أيه).
اقرأ أيضاً: لماذا تستطيع الشركات الناشئة أن تحصل على التمويل بسهولة لكن بكميات قليلة؟
وبمجرد أن نقرر تسريع الابتكار، فإننا نستثمر بكثافة في تشكيل فرق متخصصة متعددة المجالات تقدم المزيج المناسب من الدعم الفني وإدارة الأعمال والمشروعات وتتأقلم مع جداول أعمال الأطباء. يعمل هذا الأمر على زيادة مشاركة الأطباء، ويضمن الحصول على وجهات نظر متنوعة، ويضفي شعوراً بأهمية ريادة الأعمال في كل مشروع.
على سبيل المثال، يهدف أحد مشروعاتنا، الذي يُطلق عليه "التنبؤ بحالة المريض" (Prediction of Patient Placement)، إلى تحسين تصنيف الحالات في غرفة الطوارئ من خلال التنبؤ باحتمال قبول المريض في نهاية المطاف استناداً إلى البيانات السريرية.
ولضمان التكرار السريع، جمعنا بين طاقم غرفة الطوارئ واثنين من مهندسي البرمجيات ومصمم لتجربة المستخدمين ومصمم بصري ومحلل أعمال ومدير مشروعات. اليوم، تُستخدم أداة "التنبؤ بحالة المريض" في قسم الطوارئ بـ "مستشفى بوسطن للأطفال"، مما يساعد المستشفى على التنبؤ باحتياجات قدرة استيعاب المرضى داخلياً، وبالتالي يمكنها مساعدة المستشفى على تقليل النفقات أيضاً.
5- توظيف خبرات مدير ريادي:
لا توجد استراتيجية واضحة لبناء مشروعات جديدة داخل بيئة الرعاية الصحية عالية التنظيم، ويستغرق إطلاق تقنيات جديدة في مجال الرعاية الصحية وقتاً طويلاً. وفي حين أن مهارات الجميع ضرورية، فإن رائد الأعمال أو الرئيس التنفيذي المؤسس هو الشخص الذي سيصل بالابتكار إلى خط النهاية.
تُعد شركة "نيوروموشن لابز" (Neuromotion Labs)، خير مثال على ذلك. إذ نشأت الشركة عن فكرة للدكتور جيسون كان وزملائه في قسم الطب النفسي بـ "مستشفى بوسطن للأطفال"، وهي استخدام الألعاب والأجهزة القابلة للارتداء لمساعدة الأطفال على اكتساب القوة العاطفية. وبعد الأبحاث والتجارب السريرية اللاحقة في المستشفى، موّلت إحدى منح الابتكار المبكرة الدكتور كان عام 2011، ووفرت موارد لتطوير البرمجيات عام 2016.
وبعد ذلك بفترة وجيزة، اخترنا مرشحاً متمرساً ورائد أعمال لشغل منصب الرئيس التنفيذي وهو كريغ لوند، الذي كان عنصراً رئيسياً في إطلاق شركة ناشئة مدعومة من المشروع، وجمع أكثر من مليون دولار في مرحلة التمويل الأولي (تمويل البذرة). ووصلت الشركة إلى نهائيات مسابقة مسرعة الأعمال "ماس تشالينج" (Mass Challenge)، وبدأت بتسويق منتجاتها التي شملت تطبيقاً للأجهزة اللوحية، وجهازاً قابلاً للارتداء بتقنية الارتجاع البيولوجي، مرفقين بتدريب ودعم من طاقم مدرّب.
6- مدخلات المجال:
لمنع مسرعة الأعمال الخاصة بنا من أن تصبح محدودة النظر ومن أن تركز على المجال الداخلي فقط، أصبح لدينا مجلس استشاري كبير من أبرز رواد الأعمال والمستثمرين والشركاء الاستراتيجيين والأطباء في المجال. ويستند المجلس إلى وجهة نظر السوق في عملية التقييم، ويوفر الإرشاد المستمر لمحفظة المسرعة الخاصة بنا.
تعدُ مسرعات الأعمال والأسواق الناشئة والتقنيات الرقمية بتحويل مجال الرعاية الصحية. يمكن لأطباء الخطوط الأمامية لعب دور مركزي في ابتكار هذه التطبيقات الجديدة، بل ينبغي عليهم ذلك، ولكن لا يمكنهم فعل ذلك وحدهم. وللنجاح في ذلك، يحتاج هؤلاء الأطباء إلى مجموعة من الدعم المتخصص ونظام ابتكار يستوعب احتياجاتهم الخاصة.
اقرأ أيضاً: كيف تدير مؤسسة حكومية كرائد أعمال؟