ملخص: ما الذي تعنيه زيادة العمل الحر أو المستقل والعمل التعاقدي بالنسبة إلى هويات الأشخاص الذين يقومون بهذه الأنواع من الأعمال؟ عمل مؤلف هذه المقالة سائقاً لدى شركة بوستميتس (Postmates) وأجرى مقابلات مع سائقين آخرين وحضر اجتماعات افتراضية للشركة وأخرى قائمة على الحضور الفعلي، واطلع على المنتديات الخاصة بالسائقين على فيسبوك وريديت (Reddit) وغيرها من المواقع الإلكترونية وشارك فيها، وفحص القصص التي يرويها العاملون المستقلون بأنفسهم عن هوياتهم وما يفعلونه. ويدعونا إلى التفكير في كيفية جعل هذه الأنواع من الوظائف أفضل وأكثر إنصافاً وذات معنى أكبر لجميع أنواع العاملين المستقلين المؤقتين.
بالطبع كان طعام القطط الطري من فريسكس شريدز (Friskies Shreds) على الرف السفلي في آخر ممر بحثت فيه، فقد كان يوماً عصيباً. جثوت على ركبتي لتفقد المخزون، ثم تفحصت طلب العميل الظاهر على هاتفي: "أي طعام مقطَّع بطعم المأكولات البحرية مع الجبن ومن دونه. عشرون علبة بنكهات متنوعة". ولكن ألا تتعارض "النكهات المتنوعة" مع هذا الطلب المحدد بدقة "طعام مقطَّع بطعم المأكولات البحرية مع الجبن ومن دونه"؟ أم أن فئة المأكولات البحرية تضم نكهات متعددة؟ هل أفكر في هذا الأمر أكثر من اللازم؟
بصفتي أستاذاً في كلية إدارة الأعمال، والأهم من ذلك أنني ليس لدي قطة، كانت التجربة التي مررت بها في ذلك اليوم غير عادية. وبصفتي سائقاً لشركة بوستميتس (Postmates)، كانت هذه مجرد واحدة من 238 عملية توصيل أكملتها لمنصة توصيل الطعام الشهيرة كجزء من مشروع بحثي مثير للاهتمام استمر لمدة 18 شهراً ويهدف إلى تحقيق فهم أفضل للاستراتيجيات التي يستخدمها السائقون لبناء هوية عمل ذات معنى. خلال الفترة التي قضيتها في هذه الوظيفة، قدت السيارة لمدة 130 ساعة وأجريت مقابلات مع سائقين آخرين أتموا مجتمعين 170 ألف رحلة وعملية توصيل على منصات مماثلة (أوبر وليفت (Lyft) ودورداش (DoorDash) وغراب هاب (Grubhub) وإنستاكارت (Instacart)، وغيرها)، وحضرت اجتماعات الشركة الافتراضية والقائمة على الحضور، واطلعت على منتديات السائقين على فيسبوك وموقع ريديت (Reddit) ومواقع إلكترونية أخرى وشاركت فيها.
لم تكن النتائج التي توصلت إليها ونُشرت مؤخراً مفاجئة إلى حد ما. مثل العديد من العاملين من خلال التطبيقات في الاقتصاد حسب الطلب، تعرضت أنا أيضاً للتوبيخ من العملاء لعدم معرفتي بتصميم مبنى شقتهم أو قيود ركن السيارات أو رموز دخول الأبواب. وبالكاد تمكنت من كسب ما يزيد على الحد الأدنى للأجور، على الرغم من أنني اخترت القيادة في بعض الأسواق الأكثر ربحاً في البلاد واستخدمت الاستراتيجيات الأكثر فعالية التي أعرفها (مثل تجنب توصيل الوجبات التي من المعروف أنها تبرد بسرعة إلى الجانب الآخر من المدينة، وتجنب الذهاب إلى الأحياء التي بها عدد كبير للغاية من المباني السكنية التي تشبه المتاهة، وإعطاء الأولوية لعمليات توصيل منتجات متعددة في معاملة واحدة على الطلبات التي تحتاج إلى توصيل كل منتج على حدة).
ومع ذلك، تشير النتائج التي توصلت إليها إلى شيء أعمق، وربما يثير المزيد من القلق، بشأن الطبيعة المتغيرة للعمل وعلاقتنا به التي تتجاوز العمل عبر التطبيقات في الاقتصاد حسب الطلب. فما لاحظته وعشته هو نظام يقمع تميز العاملين وخبراتهم وتطلعاتهم إلى المستقبل، ويعامل الأشخاص كأنهم أسطر شفرة برمجية يجب نشرها وليس كبشر يجب تنمية مهاراتهم. وهذا يمثل مشكلة لأن العمل لا يقتصر على ترجمة الجهد البدني والفكري إلى أموال؛ فما نقوم به يومياً بوصفه عملاً هو جزء من قصة حياتنا الأشمل التي تجعلنا ما نحن عليه.
كان للمؤسسات على مر التاريخ دور حاسم في تشكيل هذه القصص المتطورة الأحداث للموظفين من خلال تزويدهم بالمساحة المادية والاجتماعية والنفسية اللازمة للتعامل مع المواقف المربكة أو المزعجة أو المثيرة للقلق التي تحدث في العمل. على سبيل المثال، توفر المؤسسات التقليدية لموظفيها البيئة والموارد المناسبة لتلقي أو تقديم المشورة والتشجيع والملاحظات والتدريب، ولمساعدة زميل على حل مشكلة أو تحسين نتيجة سلبية، ولبناء روابط اجتماعية من خلال شبكة آمنة ودائمة من زملاء العمل والمشرفين والموجهين. فهذه السمات التي تتسم بها المؤسسات التقليدية تساعد مجتمعة الموظفين على الإجابة عن سؤال "من أنا؟" في سياق عملهم.
وجدت أن العديد من السائقين في الاقتصاد حسب الطلب يجدون صعوبة في الإجابة عن هذا السؤال. فقد قال أحد السائقين الذين أجريت معهم مقابلات: "أحاول أن أُظهر شخصيتي، لكن التطبيق نفسه لا يتيح ذلك. فهو يضع معياراً ثابتاً ينص على إزالة العنصر البشري. وإذا حاولت إظهار شخصيتك، فإنه يمحوها. لذلك أشعر أنني روبوت بنهاية اليوم". قال سائق آخر بصراحة أكبر: "السائق غير مرئي [للعملاء]، كأنه لا وجود له".
لم أشعر بذلك إلا بعد أن قدت السيارة لأكثر من 40 ساعة في أسبوع واحد في لاس فيغاس، حينها أدركت هذا الواقع بنفسي. كما كتبت في بحثي، فإن ما عشته وما وصفه العديد من السائقين الذين أجريت مقابلات معهم كان شبيهاً بالتمرن على دراجة ثابتة؛ حيث لا يمكنك التحرك في أي اتجاه، وتقوم بالتبديل بكل قوتك ولكن من دون جدوى، فأنت حر الحركة ولكنك بلا روح وتفتقر إلى الإبداع، كأنك شيء متحرك وثابت في آن واحد.
يتناقض هذا بشدة مع الرسائل التي تستخدمها المنصات لجذب السائقين: يمكنك "التقدم دون قيود" (غراب هاب)، بينما "تتوجه نحو ما هو مهم" (ليفت). "من رسم الطموحات إلى بناء العلاقات" (غراب هاب - (GrubHub)) لـ "حقق هدفك أياً كان" (أمازون فليكس - (Amazon Flex))، إلى "يمكنك تحقيق أحلامك طويلة الأجل" (دورداش - (DoorDash)) إلى بإمكاننا أن "نعيد تصور الطريقة التي يسير بها العالم نحو الأفضل" (أوبر). وفي نهاية اليوم، ستكون "أنت المدير!" (شركة وايتر (Waitr)). ومع ذلك، بدت هذه الفرص بعيدة المنال، إن لم تكن مهينة للسائقين الذين شعر الكثير منهم "أنهم عالقون في دوامة [القيادة]، حيث لا يمكنهم الذهاب إلى أي مكان، ويستمرون على هذا الحال كل شهر تلو الآخر"، كما أوضح لي أحد السائقين.
ومع شعور السائقين بالإحباط بسبب عدم وفاء المنصات بوعودها، تحدث العديد منهم عن إحدى المفارقات الأساسية في نظام العمل حسب الطلب: الخصائص نفسها التي نظر إليها السائقون على أنها تهديد وتمحو شخصياتهم (التعامل مع الإدارة القائمة على الخوارزميات، وعدم إمكانية التواصل مع زملاء العمل، والقدر الضئيل من الحماية القانونية) أدت أيضاً إلى الحد من المخاوف المتعلقة بالمساءلة الشخصية. قال أحد السائقين: "أنت في سيارة مع شخص ولن تراه مرة أخرى، وليس لديك أي التزام تجاهه". وأضاف سائق آخر: "إذا كنت تعمل في شركة وتجلس مع مديرك، فيجب أن تكون حذراً بشأن أقوالك وردود أفعالك. ولكن في القيادة، إذا قلت إنني أحب اللون الأزرق وأنت لا تحبه فلا يهمني ذلك، لأن مديري غير مطلع على أفعالي وأقوالي".
نظراً إلى عدم التعرض للمراقبة من جانب زملاء العمل والمشرفين والعملاء المتكررين، تعلّق بعض السائقين بأوهام جامحة حول مستقبل أكثر جاذبية بنجاح ("تلتقي كل يوم بالعديد من الأشخاص [في أثناء القيادة]، ويمكن لأحدهم تغيير حياتك!"). وبرر آخرون التجارب السلبية الأكثر شيوعاً التي يواجهونها في أثناء القيادة (على سبيل المثال، قال أحد السائقين إنه يمتلك "سجلاً حافلاً" حيث "تقيأ أحدهم في سيارتي). بالإضافة إلى تشكيل تجاربهم داخلياً، إن لم يكن تشويهها، ذهب العديد من السائقين إلى المجموعات الخاصة بالسائقين على فيسبوك ومنصات أخرى لتبادل القصص حول الأشياء الجيدة والسيئة والسخيفة والمضحكة، سعياً إلى النقاش بشأن قصصهم الشخصية من خلال التواصل مع السائقين الآخرين ومقارنة أنفسهم بهم. فأساليب إدارة الهوية هذه أمدت السائقين بما يكفي من الراحة النفسية لمواصلة القيادة.
عندما قررت إنهاء انغماسي الطوعي في مجتمع السائقين، لم أستطع التخلص من الشعور أن تبدد شخصية العاملين المستقلين من خلال التطبيقات هو ميزة، وليس عيباً، في نموذج اقتصادي نبع من عمليات التحول الجارية في الاقتصاد العالمي. وهذا يشمل ترتيبات العمل المتزايدة الانتشار التي تتسم بضعف العلاقات بين صاحب العمل والعامل (التعاقد المستقل) والاعتماد القوي على التكنولوجيا (الإدارة القائمة على الخوارزميات والتواصل الذي تتوسط فيه المنصات) والعزلة الاجتماعية (لا يوجد زملاء عمل والتفاعلات مع العملاء محدودة).
الأهم من ذلك أن تأثيرات هذه التحولات تشمل دائرة أوسع بكثير من نوع العاملين المستقلين ذوي الأجور المنخفضة الذين درستهم؛ إذ يتعرض العاملون المستقلون عموماً إلى أسئلة وتحديات وجودية مماثلة. ومع الشمول الذي اكتمل تقريباً لقوة العمل المرنة والفلسفات القائمة على مبدأ "العميل أولاً"، فإن "العَقد النفسي"؛ أي التوقعات والالتزامات غير المكتوبة بين العاملين المستقلين والمؤسسات، معرض لخطر إعادة كتابته أمام أعيننا. في الواقع، يفتقر العاملون المستقلون من جميع الأنواع إلى الأشياء الثلاثة التي تقوم عليها العقود النفسية القوية: مهنة تتيح نمواً شخصياً وفرصاً للترقي ومجتمع يعزز الروابط الاجتماعية والشعور بالانتماء وقضية تضفي معنى وهدفاً على عمل الفرد.
تكمن التفضيلات والممارسات المتغيرة فيما يتعلق "بتأجير" المواهب بدلاً من "شرائها" لتحقيق أهداف المؤسسة في جوهر هذه المسألة. على سبيل المثال، كشف استطلاع لآراء المسؤولين في المناصب التنفيذية العليا وكبار المدراء أن أكثر من 90% يعتقدون أن الاستفادة من الأسواق الرقمية للعمل الحر أمر "مهم للغاية" أو "مهم إلى حد ما"، وأفاد أكثر من 50% أن استخدامهم المتوقع لمنصات المواهب الرقمية في المستقبل "سيزداد بشكل كبير".
ومن هذا المنظور، قد يكون الأربعون مليون أميركي الذين استعانوا بخدمات المنصات التكنولوجية، مثل أوبر وليفت ودورداش، كطيور الكناري في منجم فحم عالم العمل الجديد (حيث كان عمال المناجم يأخذون طيور الكناري معهم إلى مناجم الفحم لاكتشاف الغازات السامة لأنها حساسة جداً لها). وما يعيشونه اليوم، من المرجح أن يعيشه الملايين بشكل من الأشكال في المستقبل.
بالطبع لا توجد حلول سهلة لهذه المشكلات، فالكثير منها وجودية وستتطلب إجراء تقييم يشمل القيم والأولويات على المستوى المجتمعي. وفي غضون ذلك، قد لا تظل الطرق المألوفة لتحقيق الذات والتعبير عنها في العمل صالحة. مع استمرار القوى في تقويض الأشكال التقليدية لدعم الهوية، فإن تعريف الذات في العمل بصورة ذات مغزى سيعتمد على نحو متزايد على الكيفية التي نقوم بها جميعاً باستخدام وإساءة استخدام التكنولوجيات المبتكرة ونماذج الأعمال.
على سبيل المثال، كيف يمكن للشركات تطبيق الإدارة القائمة على الخوارزميات بطريقة لا تهدد العاملين ولا تبدد شخصياتهم؟ وكيف يمكن أن يؤدي التركيز على القصص التي تكمن وراء الهويات وتجعلها مفعمة بالحياة إلى مساعدة العاملين على إعادة تصور ما يريدونه ويستحقونه فعلاً من وظائف تطورت بسبب الجائحة وموجة الاستقالة الكبرى؟ هل ستكون البيئات الرقمية التي تصبح غامرة وواقعية على نحو متزايد، مثل "الميتافيرس"، بمثابة "مساحات قائمة على الهوية" بالنسبة إلى العاملين في المستقبل؟ كيف ستؤثر تقنية "ويب 3" (Web3)، وتحديداً ظهور أشكال جديدة من التنظيم (على سبيل المثال، المؤسسات المستقلة اللامركزية)، في الوظائف والعلاقات والقضايا المهمة للغاية بالنسبة إلى العاملين؟ ما الدور الذي يمكن أن تؤديه منصات التواصل الاجتماعي ومنتديات النقاش عبر الإنترنت والأنواع الأخرى من الأحاديث العفوية الافتراضية في مساعدة العاملين المستقلين على بناء هوية عمل والحفاظ عليها؟ باختصار، كيف يمكننا الاحتفاظ بالعنصر البشري في ظل أساليب إدارة الموارد التي تزداد ذكاءً وتنظيماً؟
حان الوقت لمناقشة هذه الأسئلة بجدية، بدءاً من هؤلاء الذين يصممون هذه التكنولوجيات ونماذج الأعمال ويديرونها وينظمونها (مهندسي البرمجيات والرؤساء التنفيذيين والسياسيين، على الترتيب) إلى هؤلاء الذين يدرسون ويعلمون ويساعدون الآخرين على التكيف مع آثارها المترتبة عليهم (الباحثين والمعلمين والاختصاصيين في علم النفس السريري، على الترتيب).
إن رفاهة العاملين المستقلين حول العالم على المحك، فكثير منهم يكافحون للإجابة عن سؤال "من أنا؟" في سياق عملهم.