إن سألت أحد القادة عن طريقة استجابته لأزمة أو فرصة جديدة مهمة فسيقول لك على الأرجح إنه يعرف ما يجب عليه فعله، وهذا مفاجئ لأن غالبية الأزمات والفرص تنطوي على عناصر غير متوقعة. قال لنا قائد تنفيذي يتمتع بنفوذ كبير عملنا على تدريبه سابقاً: "في أي أزمة أسارع للعمل، وأتخطى أي حاجز أواجهه بأي طريقة ممكنة، وأقود فريقي من المقدّمة". لا شك في أن هذا الأسلوب يتسم بالحزم، ولكن مساره محدود لا سيما في الحالات عالية الخطورة، ماذا يحدث إن واجه القائد عقبة لا يستطيع تجاوزها؟
اتّبع قائد آخر من متدربينا نهجاً مختلفاً؛ إذ كان يتمتع بقدرة كبيرة على تفويض العمل للآخرين بهدوء عجيب، وكان هذا الأسلوب ناجحاً في التعامل مع الأزمات إلى أن واجه أزمة ولّدت لدى فريقه شعوراً بالضياع والارتباك، وحافظ على ثباته وهدوئه كالعادة وقال لفريقه: "لا تقلقوا، أنا واثق من قدرتكم على التوصل إلى حلّ". لم يتوصل الفريق إلى أي حلّ، ونمت الخلافات بين أفراده إلى أن خسرت الشركة موقعها الريادي في السوق بعد بضعة أشهر.
من خلال عملنا مع كبار القادة بوصفنا مدربَين ومستشارَين، لاحظنا أن القائد حين يواجه مواقف خطيرة أو غير مألوفة يلجأ غالباً إلى أسلوبه المعتاد في القيادة، ويتصرف وفقاً لبديهته ويتبع السلوكيات والمواقف التي اعتاد نجاحها. ولكن إذا تعطلت البيئة التشغيلية فلن يكون بالإمكان الاعتماد على ردود الفعل البديهية على الرغم من ملاءمتها لحالات أخرى. ولكي يضمن القادة فعالية استجاباتهم، لا بد لهم من الخروج عن إطار ردود الفعل المعتادة وإتاحة مزيد من خيارات التصرف الفورية في اللحظات الحاسمة.
يندر أن تتوفر في المناصب القيادية خريطة عمل توضح مساراً محدداً للاستجابة في المواقف المفاجئة، ولذلك من الضروري أن يتمتع القائد بالقدرة على وضع عدة مسارات تؤدي إلى نفس الوجهة كي يضمن النجاح. يضع القائد الناجح عدة خيارات تتيح له تعديل مساره فور ظهور أزمة أو فرصة مفاجئة واتخاذ الإجراء الأمثل، سواءً كان تنفيذ استراتيجية تضمن توليد نمو مضاعف للأعمال أو مواجهة تهديد كارثي محتمل أو توجيه الفريق ليخوض في مجال عمل مجهول.
نعلم من واقع خبرتنا أن نجاح القائد مرتبط بقدرته على التحرك، أي أن يكون متنبهاً للأولويات ويتيح عدة خيارات لنفسه لتتوفر أمامه عدة طرق لتحقيق النجاح، وأن يؤكد موقعه المتميز ويحافظ على تفاعله مع أصحاب المصالح لضمان استمرار تأييدهم له [نوضح إطار العمل هذا في كتابنا: "القيادة الفورية" (Real Time Leadership). نناقش في هذا المقال الخطوة الثانية الحاسمة من نموذجنا، ونتمعن تحديداً في 4 أساليب قيادية شائعة والحالات التي ينجح فيها كل منها، ونقترح عملية للتنقل بين هذه الخيارات بصورة فورية.
فكرة المقالة باختصار
المشكلة
يلجأ القائد غالباً في مواجهة الأزمات أو الفرص إلى أسلوبه القيادي الأساسي الذي اعتاد نجاحه في السابق، ولكن كي يضمن فعالية استجاباته، لا بد له من الخروج عن إطار رد الفعل المعتاد وإتاحة مزيد من خيارات التصرف الفوري.
نموذج جديد
في هذا المقال، يقترح المؤلفان نهجاً يسميانه "المواقف الأربعة" لمساعدة القادة على توليد عدة خيارات لأساليب التواصل الشخصي.
العملية
يجب أن يحدد القائد موقفه الأساسي أولاً، ويضع خطة لاستخدام المواقف البديلة في الحالات المختلفة والاستعداد للانتقال من الموقف غير المجدي إلى موقف أفضل حسب الحالة.
نهج المواقف الأربعة
قاد عالما النفس الأميركيان، تشارلز (ريك) سنايدر وشين لوبيز عشرات الدراسات التي تثبت أن قدرة الإنسان على تحقيق هدفه تزداد إذا وضع لنفسه عدة مسارات محتملة. يفترض أغلبنا أن النجاح في مهمة ما يتعلق بالاجتهاد وقوة الإرادة، ولكن سنايدر ولوبيز وضّحا ضرورة ترافق قوة الإرادة مع "قوة الطريقة" من أجل تحقيق النتائج الإيجابية. تقول أبحاث العالِمَين إن الإنسان في الوضع المثالي يملك 4 خيارات أو مسارات لتحقيق أهدافه (الأولويات الخارجية)، وتوضّح أهمية تحديد هويتك بوصفك قائداً من حيث مكامن قوة شخصيتك وقيمك (الأولويات الداخلية) وأفضل الطرق للتواصل مع الآخرين (الأولويات الشخصية).
واستناداً إلى هذه الأبحاث عملنا على تطوير نهج نسميه "المواقف الأربعة" لمساعدة القادة على توليد خيارات التواصل الشخصي. خذ مثلاً لاعب رياضة التنس الذين يغيرون وضعياتهم بصورة فورية من أجل الاستجابة على أفضل نحو للكرة المندفعة تجاهه من فوق الشبكة. يقوم نهجنا في أساسه على أحد مبادئ علم النفس التطوري وظهور ردود فعلنا الأساسية التلقائية في الظروف الخطيرة أو المفاجئة (مثل المواجهة والهروب). وفي عالم القيادة الأكثر تطوراً، يساعد نهج المواقف الأربعة القادة على تحديد عدد أكبر من الخيارات الشخصية وإتاحتها. المواقف هي كالتالي:
الإقدام. اتخذ موقفاً فاعلاً واعمل على حل المشكلة، تتضمن إجراءات هذا الموقف اتخاذ القرار وإرشاد الموظفين، وتوجيههم وتحديهم ومواجهتهم.
التريث. اتخذ موقفاً تحليلياً وراقب ما يحدث واجمع البيانات واستوعبها، تتضمن الإجراءات تحليل المعلومات وطرح الأسئلة وربما إرجاء القرارات.
التعاون. اتخذ موقفاً تعاونياً وركز على الاهتمام بالآخرين والتواصل معهم. تتضمن الإجراءات التعاطف مع الموظفين وتشجيعهم وتدريبهم.
الإحجام. في حين ينطوي موقف التريث على المراقبة والتحليل، ينطوي موقف الإحجام على السكون وضبط النفس كي تفسح المجال ليعمل عقلك الباطن على إظهار الحل الجديد، يساعد هذا الموقف على تهدئتك إذا انفعلت أيضاً. تتضمن إجراءات هذا الموقف التفكير والتخيل والسكون عن طريق ممارسة تمارين التنفس العميق.
من أجل النجاح في التعامل مع لحظات القيادة الحاسمة هذه، يتعين على القائد أن يطوّر قدرته على تبنّي هذه المواقف الأربعة والتنقل بينها حسب الحاجة. خذ المثال التوضيحي التالي عن واحدة من عملائنا، ولنسمها أريج، التي استلمت مؤخراً منصب مديرة أحد قطاعات العمل الرئيسية في إحدى شركات التكنولوجيا.
وجدت أريج نفسها في مأزق وطلبت مساعدتنا، إذ كانت على خلاف مع الرئيس التنفيذي كثير التقلبات المزاجية وهو لم يكن شخصاً يمكن الاعتماد عليه لأنه يناقض نفسه ويغير موقفه ويقطع الكثير من الوعود التي لا يمكن للشركة الوفاء بها، قالت لنا في جلسة التدريب الأولى: "التصقت بي صفة العدوانية في اجتماعات مجلس الإدارة. لكني لا أقول سوى الحقيقة، وهذا ضروري، إلا أني أُلام على ذلك".
ومن خلال حوارنا معها تمكنا من تحديد فجوة جلية بين وجهة نظرها ووجهة نظر الآخرين، وكان موقفها الأساسي يتمثل في الإقدام بقوة. أريج محامية تتمتع بمهارة عالية في المناظرة، وكان أثرها أكبر بكثير مما تدركه، وكان من الواضح أنها تحتاج إلى التغلب على رد فعلها الطبيعي والتوصل إلى طرق فعالة أخرى للنجاح. وضحنا لها المواقف الأربعة وطلبنا منها التفكير في بدائل لأسلوبها الأساسي، فاعترضت قائلة: "لكن يجب أن أكون صادقة".
أجبنا: "بالتأكيد، ويمكنك استخدام المواقف الأخرى مع الحفاظ على أصالتك وصدقك في الوقت نفسه".
ناقشنا معها المواقف الأربعة واحداً تلو الآخر، ورأت أنها تستطيع التعامل بمهارة أكبر مع الحالات التي يناسبها موقف الإقدام عن طريق تعديل حدة ملاحظاتها، وإذا تعلّمت أن تعتمد موقف التريث وتتمهل في المواجهة فستتمكن من إبطاء ردود فعلها وتحديد الوقت الاستراتيجي المناسب للتدخل. وإذا اعتمدت موقف الإحجام فستحظى ببعض الوقت للتنفس بعمق وتحييد رد فعلها تجاه الرئيس التنفيذي وتصفية ذهنها. أصبنا جميعنا بالدهشة حين أدى السؤال عن موقف التعاون إلى انتقال أريج إلى طريقة عمل جديدة؛ بناءً على عمل الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال، إيمي إدموندسن، البالغ الأهمية حول الأمان النفسي، طرحنا على أريج السؤال التالي: "ماذا لو تمثلت مهمتك في اجتماع مجلس الإدارة في منح الرئيس التنفيذي والمدراء شعوراً بالأمان؟"
فتبنت أريج هذا النهج على الفور إذ بدا متوافقاً مع جانب الحماية من عقليتها، وبدأت على الفور التفكير في تبعاته؛ دعم الرئيس التنفيذي سيساعد على تهدئته غالباً وتهوين الاجتماع على الجميع، كما أنها في موقف التعاون ستتمكن من تحمّل تناقضاته لأنها ستفهم أن رد فعله الأول لا يمثل قراره النهائي دائماً. بناءً على ذلك قررت أن تدعم بحماس آراءه المتماشية مع تقييم لجنة التنفيذيين والامتناع عن مواجهة اقتراحاته المناقضة على نحو لا إرادي إلا إذا كان مجلس الإدارة سيصوت على هذا المقترح. بعد اعتمادها هذا النهج تحسنت سمعتها لدى مجلس الإدارة بدرجة كبيرة وأصبحت تُعرف بأنها تقود بالسلم لا بالحرب.
حتى إن لم تكن في ظرف يستدعي التفكير الفوري في استجابتك، يمكنك الاستفادة من نهج المواقف الأربعة كي تتعرف على الخيارات المختلفة وتضع خطة لاستجابتك بصورة مسبقة.
تنفيذ العملية
كيف تتبع نهج المواقف الأربعة من دون مدرب تنفيذي؟ نقترح عليك عملية من 5 خطوات للتعامل مع الفرص المهمة والأزمات، سواءً ظهرت فجأة أو على مدى فترة طويلة من الزمن. ستساعدك هذه العملية على اختيار مسار التقدم بدلاً من أن تسير وفقاً لردود الفعل اللاإرادية.
حدد موقفك الأساسي. قيّم ارتياحك لطريقة تعاملك مع الآخرين في كل موقف. يحتاج جميع عملائنا غالباً إلى تنفيذ هذا التمرين من أجل تحديد مواقفهم الأساسية، ولكن إن لم تتمكن من تحديد موقفك الأساسي بدقة فتمعن في التقييمات التي حصلت عليها، مثل تقييم الأداء بطريقة 360 درجة. فمن الممكن أن ترى أنك قائد متعاون لأنك تفضّل القرارات القائمة على الإجماع، ولكن هل هذا التقييم دقيق؟ عندما تمسك بزمام الأمور بصفتك قائداً يندر أن يقول موظفوك الحقيقة حول طريقة عملك، ولذلك من الضروري أن تكون صادقاً مع نفسك.
فكّر في الحالات ذات المخاطر العالية. هل يختلف موقفك تحت الضغط عن موقفك الأساسي؟ فكر في الحالات التي تمكنت فيها من تغيير موقفك بصورة فورية حين لم يولّد موقفك الأساسي النتيجة المرجوة وقارن هذه اللحظات مع أوقات عاندت فيها وتمسكت بأسلوب غير مجد: ما منعك من الانتقال إلى خيار آخر؟ العادة أم الذعر؟ كيف يمكنك الاعتماد على تجاربك الناجحة السابقة وتفادي ارتكاب الأخطاء في آن معاً؟
حدد الموقف المثالي بناءً على شخصية من تتعامل معه. يألف معظم القادة الذين نعمل معهم القاعدة الذهبية التي تقول إن عليك معاملة الآخر مثلما تحبّ أن يعاملك، ولكن أفضلهم يطبق القاعدة البلاتينية التي تقول إن عليك معاملة الآخر مثلما يحب هو أن تعامله، وهذا يختلف عن معاملته وفق ما ترغب فيه أنت لو كنت مكانه. تخيل شخصاً انطوائياً يقاطعه فجأة شخص منفتح يقصد تشجيعه بخطاب حماسي، أو على العكس، تخيل شخصاً منفتحاً يحتاج إلى تشجيع ولكنه يشعر أن الآخر يتجاهله، إلا أنه لا يدرك أن هذا الشخص انطوائي يقصد إفساح المجال له ليتمكن من التفكير. كي تتمكن من تطبيق القاعدة البلاتينية في حياتك ينبغي لك أن تراقب نفسك والآخرين بحرص، انتبه إلى لغة الجسد ونبرة الصوت والنظر المباشر وردود الفعل على كلامك وتحركاتك.
ضع خطة. حين تظهر مشكلة شخصية أفسح المجال على الفور للتوصل إلى طريقة التعامل معها. قد لا يستغرق ذلك أكثر من بضع ثوان، ولكن المهم هو أن تأخذ لحظة لتفكر بوضوح في هدفك كي تكون استجابتك للمشكلة مدروسة، كيف تريد أن تتفاعل مع المشكلة الآن؟ اِعلم أنك قد تلجأ لا شعورياً إلى موقفك الأساسي، ولكن تذكّر أنه بإمكانك اختيار موقف آخر، يجب علينا جميعنا التراجع عن بعض المواقف وتطوير قدرتنا على تبنّي مواقف أخرى.
حتى إن لم تكن في ظرف يستدعي التفكير الفوري في استجابتك، يمكنك الاستفادة من نهج المواقف الأربعة كي تتعرف على الخيارات المختلفة وتضع خطة لاستجابتك بصورة مسبقة. فلنقل فرضاً إن عليك إعلام أفراد فريقك عن تغيير الاتجاه الاستراتيجي في الشركة، مثل الانتقال من مبادرة شاملة لتحويل التكاليف إلى تنفيذ استراتيجية للنمو. أولاً، اعتمد موقف الإقدام وأنشئ قائمة من الخيارات حول طريقة كسب تأييد أفراد الفريق. وعندما ترى أنك فكرت في جميع الخيارات، اعتمد موقف التريث وفكر بموضوعية أكثر، اسأل نفسك: "ما الأمور الأخرى التي ستدفع أفراد الفريق إلى الموافقة؟" ثم اعتمد موقف التعاون من خلال استشارة الآخرين حول الخيارات المتاحة، فذلك سيخلق مناخاً إيجابياً قائماً على الثقة يزيد قدرة الآخرين على تقبّل التغيير. ثم اعتمد موقف الإحجام وانتظر ظهور الأفكار الجديدة، توقف عن التفكير في المسألة وضعها جانباً واترك عقلك الباطن يعمل.
تنبه لما يدل على ضرورة تغيير موقفك. كي تتمكن من تحقيق الأثر الذي ترجوه يجب أن تتنبّه لأي أثر سلبي يوقعه موقفك الحالي على الآخرين، فذلك سيدل على أن الوقت مناسب للانتقال إلى موقف آخر. إذا كان موقف الإقدام هو موقفك الأساسي (كما هو حال كثير من القادة)، فاعلم أن اعتماده بصورة دائمة أو بقوة سيؤدي إلى تثبيط الآخرين لا سيما إن كنت في منصب تتمتع فيه بالنفوذ. انتبه في الاجتماعات مثلاً إلى المدة التي تتحدث فيها مقارنة بالآخرين، ويمكن لبرامج نسخ النصوص الآلية تقديم بيانات توضح درجة سيطرة صوتك في الاجتماع. يصاب معظم القادة بالدهشة عند معرفة أنهم يبالغون في اعتماد موقف الإقدام وأن انتقالهم إلى موقف الإحجام أو التعاون ضروري. ركز على الاستماع إلى الآخرين بهدف فهمهم، انتبه إلى نفسك حين تتدخل في الحوار وحين تتوقف عن الاستماع إلى الآخرين وتبدأ التفكير في جوابك. بعد أن ينهي أحدهم حديثه، تنفس 3 مرات قبل أن تجيب.
إذا كان موقف التريث هو موقفك الأساسي فاحرص على مراقبة رد فعل فريقك: هل يتفاعل أفراده بحماس وتيقظ؟ هل يغرقون أنفسهم في البيانات؟ قد يكون اعتمادك على تحليل البيانات مقنعاً، ولكن المبالغة في الموضوعية سينفر الآخرين منك؛ لن يعمل أفراد فريقك بحماس طوال الليل لتلبية موعد نهائي وشيك، ولكنهم سيعملون بحماس لأجل قائد ملهِم وعطوف. كما يتعين عليك أن تراقب نفسك، هل تمتنع عن التدخل عندما يكون فريقك بحاجة إلى رأيك؟
عندما يكون التعاون هو موقفك الأساسي الذي تلجأ إليه لا إرادياً، احذر من أن تعتمده للتهرب من المحادثات الصعبة أو للتسامح مع الأداء الضعيف لمجرد أنك "عطوف"؛ قد يصعب عليك بصفتك قائداً عدم فعل شيء لمساعدة موظف يعاني مشكلة ما، ولكن الدعم يختلف عن الحماية. راجع سلوكك على مدى الأسبوع أو الشهر الماضي وتحقق من عدد المرات التي تغاضيت فيها عن مشكلة في أداء أحد موظفيك خشية أن تجرح مشاعره بملاحظاتك، هل أشدت بأحد أعضاء الفريق في الوقت الذي كان عليك حثه على تحقيق نتائج أفضل لأنك خفت من أن يبدي رد فعل سلبياً؟ خذ مثلاً فرخ الدجاج الذي يحاول جاهداً كسر البيضة ليخرج منها؛ يجب ألا تتدخل لمساعدته لأن ذلك قد يؤدي إلى موته، في حين أن استمراره بضرب البيضة يقوي عضلاته كي يتمكن من البقاء على قيد الحياة لاحقاً.
من النادر أن يكون موقف الإحجام أساسياً، ولكن البعض يبالغون في اعتماده حين تكون المخاطر كبيرة ويقفون عاجزين عن التصرف أحياناً في مواجهة تهديداتها، وهذا يؤدي إلى أخطاء الإغفال. راجع جدول مواعيدك وتحقق من الحالات التي لم تستجب فيها للآخرين أو قابلت مخاوفهم بالرفض لأنها رفعت مستوى التوتر لديك، هل تفاديت حالة ما، مثل نقاش صعب بين أفراد الفريق، على أمل أن تعالج المشكلة نفسها أو أن يعالجها الآخرون من دون أن تتدخل؟ إن كنت عرضة لإبداء هذا السلوك فابذل جهدك لمعرفة الحالات التي تبديه فيها ولاحظ شعورك في أثنائها، وفكّر في المواقف الأخرى التي يمكنك اعتمادها للتعامل مع هذه الحالات.
عموماً، يكون من الأفضل اعتماد موقف الإقدام حين يبدو فريقك حائراً ويحتاج إلى المساعدة لتحفيزه على العمل أو تنظيمه؛ ويكون اعتماد موقف التريث أفضل حين يكون من الضروري الحصول على مزيد من المعلومات لدعمك أو دعم فريقك أو أصحاب المصالح؛ ويكون موقف التعاون هو الأنسب حين يحتاج الآخرون إلى الدعم والتشجيع والتحفيز؛ أما موقف الإحجام فهو الأنسب حين يتعين على أفراد فريقك التوصل إلى الحل من دون تدخلك ويكون حضورك عائقاً لتقدمهم، وفي نفس الوقت يتعين عليك بث الهدوء والثقة في نفوسهم إذا بدا عليهم التوتر (للاطلاع على الملخص يمكنك مراجعة الشكل التوضيحي "دليل نهج المواقف الأربعة").
أياً كان الموقف الذي تعتمده، احرص على أن تستخدمه بالدرجة الملائمة للحالة. مثلاً، يمكن أن تأخذ مشاركتك في موقف الإقدام شكل الرأي الإرشادي أو الاقتراح، ويمكنك اعتماد موقف التريث كي تفكر بعمق في مسألة ما أو في مجموعة أسئلة دقيقة. يجب أن يعتمد اختيار الإطار المناسب على ما سيناسب الشخص الآخر أكثر في الحالة المعنية، ومع سعيك لتحسين قدرتك على استخدام كل موقف في الحالة المناسبة من الأفضل أن تعدّل سلوكك وفقاً لمستوى راحتك؛ إذا كان موقف الإقدام غير مريح لك مثلاً فحاول أن تقول شيئاً واحداً مختلفاً عما تقوله عادة، وإذا رأيت أنك لا تتريث بما يكفي فحاول أن تطرح أسئلة بدلاً من أن تقدم رأياً.
لن يكون النهج الذي ساعدك للارتقاء إلى الدور القيادي ملائماً دوماً للتعامل مع المواقف التي تواجهها بصفتك قائداً.
تطبيق نهج المواقف الأربعة بصورة فورية
يتوقف إتقان نهج المواقف الأربعة على القدرة على فهم كل لحظة وتغيير الموقف بسرعة في الظروف التي تسبب التوتر، وفي المواقف ذات المخاطر العالية ستضطر إلى اعتماد المواقف الأربعة كلها معاً. خذ مثلاً أحد عملائنا الذي بذل جهداً كبيراً لإتقان المواقف الأربعة، وتمكن بعد ذلك من تفعيلها كلها معاً في لحظة ضغط شديد؛
تلقى الرئيس التنفيذي للشؤون المالية في شركة عامة للرعاية الصحية، نذير، أنباء بأن أكبر وحدة عمل في شركته لم تحقق توقعات الإيرادات الأخيرة، ما يشكل تهديداً لإيرادات الشركة الفصلية. عقد نذير اجتماعاً طارئاً مع الرئيس الجديد لخط العمل، تامر، ولاحظ أن تامر متوتر بشدة ومرهق كما لو أنه لم ينم منذ أيام.
لم يتمكن نذير من تحديد الموقف الأمثل لبدء الاجتماع على الفور، لذلك اختار موقف الإحجام كي يرى ما سيحدث وتنفس بعمق كي يهدئ نفسه؛ فلاحظ أن موقفه الأساسي هو التريث والاستفسار من تامر عن الوضع، وأدرك أنه يشعر بالصدمة بسبب نقص الإيرادات، ولكن بما أن تامر هو المسؤول أمام الرئيس التنفيذي فلم ير نذير ضرورة في أن يقسو عليه هو أيضاً، كما شعر بالغضب من نفسه لأنه وافق على التوقعات التي تبين أنها غير منطقية. اعتمد نذير موقف التعاون وقال لتامر: "هذا الوضع صعب علينا جميعاً.
لكن كيف حالك أنت؟" تفاجأ تامر بالسؤال إذ إنه كان يتوقع توبيخاً، فاسترخى وتحدث عن العبء التي تحمله فريقه بأكمله. قال نذير: "لقد حصل ما حصل، فلنعمل على حل المشكلة معاً". فأومأ تامر برأسه موافقاً. ثم انتقل نذير إلى موقف التريث، وتصدى لرد فعله اللاإرادي المتمثل بطرح سيل من الأسئلة، ولجأ إلى طرح سؤال مفتوح ليخفف شعور تامر بضرورة أخذ وضع دفاعي: "كيف يمكننا التعامل مع هذا الوضع كي نعالج الأسباب الرئيسية للمشكلة؟" اقترح تامر أن يبدآ باستكشاف العوامل التي أدت إلى العجز وتقدير أدوار البيئة التشغيلية وتحديات التنفيذ وأخطاء نموذج التوقعات، وتمكنا بالعمل معاً من تحديد مصدر المشكلة وطورا خطة لتعويض بعض النقص في الإيرادات.
وعندما بدا أن الاجتماع اقترب من نهايته طرح نذير سؤالاً آخر: "ماذا أيضاً؟" أدى أسلوبه الهادئ إلى تحفيز تامر على التحدث صراحة، فقال: "اتخذتم أنت والرئيس التنفيذي قراراً من القمة إلى القاعدة لزيادة أهداف إيرادات وحدتنا عندما كان المشهد العام متذبذباً، لم نرغب في تخييب أملكما فبالغنا في توقعاتنا. لو أنك سألتني آنذاك لكنت أخبرتك أن احتمال تحقيق هذه التوقعات لا يصل إلى 20%".
كان سماع هذا الكلام صعباً على نذير، ولكنه عرف أنه يلخص جوهر المشكلة، وباعتماد موقفيّ الإقدام والتعاون قال: "تامر، نحن ما زلنا في مرحلة التعارف، كنت أدرك أن التوقعات مبالغ فيها ولكني كنت أظن أن احتمالات تحقيقها تصل إلى 60%. لو كنت أعلم ما قلته للتو لكنت تراجعت عن توجيهاتنا حول أهداف الإيرادات".
أجاب تامر: "لكن لم يبد أنك تتقبل النقاش في الأمر". حين فكر نذير في الرد الأخير، عاد إلى موقف التعاون وقال: "لا أريد أن تظن ذلك، ولا ضير في أن تملك وجهة نظر قوية. اِعلم من الآن فصاعداً أني أنا والرئيس التنفيذي نفضل خوض نقاش حقيقي، ويجب ألا تتردد في التعبير عن رأيك".
وتابع معتمداً موقف الإقدام وقال: "من المحتمل أن نصدر قراراً لا يعجبك، ولكن يجب أن تخوض معنا حواراً عميقاً نتوصل من خلاله إلى قرار أفضل يصب في صالح الشركة". قدّر تامر صراحة نذير وتقبّل التوجيهات الجديدة، ولم تكن تلك آخر مرة يواجه فيها نذير مشكلة في وحدة عمل تامر، ولكن بفضل استجابة نذير المرنة كانت تلك آخر مشكلة ناجمة عن سوء التواصل وعدم تقديم الآراء الصريحة.
يتطلب خلق الخيارات في إدارة العلاقات الشخصية مهارات الملاحظة الفورية الدقيقة والقدرة على ضبط النفس في الحالات المشحونة والمثيرة للتوتر، ولكن الأهم هو أنه يتطلب التواضع للإقرار بأن النهج الذي ساعدك للارتقاء إلى الدور القيادي لن يكون ملائماً دوماً للتعامل مع المواقف التي تواجهها بصفتك قائداً. لا يمكن لأي مؤسسة الاستمرار تحت قيادة أشخاص يتمسكون بأسلوبهم الوحيد للتعامل مع جميع الحالات، والمرونة والقدرة على التكيف ليسا عاملين أساسيين في قدرة أفضل المؤسسات على الصمود والاستمرار فحسب، بل وفي نجاح أفضل القادة أيضاً.