ملخص: شكّلت الأيام الأولى للجائحة صدمة حقيقية تسببت في ارتفاع إفراز هرمون الأدرينالين في أجسامنا، وهو هرمون مسؤول عن تخليصنا من الشعور بالألم حتى نتمكن من مواجهة الأخطار الماثلة أمامنا، كما أنه يحفز أدمغتنا على اليقظة الشديدة لمساعدتنا على اتخاذ أفضل القرارات في أجزاء من الثانية. وبعدها مرّت علينا حقبة عانينا فيها آلاماً نفسية مبرحة لفترة طويلة من الزمان، وكان مبعث هذه الآلام 3 احتياجات نفسية عميقة لم تتم تلبيتها: حاجتنا إلى اليقين والسيطرة والتواصل. ونحن الآن في مرحلة التعافي التي قد تكون الأكثر إيلاماً للجميع، لأننا بحاجة إلى البحث بصورة أعمق لإعادة ترتيب أوراقنا وتعويض ما فاتنا واستعادة القدرة على النمو. ويقدم كاتب المقالة، وهو أحد مؤسسي "معهد دراسات الخلايا الدماغية للقادة" (Neuroleadership)، 3 نصائح في هذا الصدد: 1) لا تتحرك بسرعة أكبر من اللازم. فكلما اقتربت من خط النهاية، زادت احتمالية اندفاعك وتعرضك لانتكاسة أخرى. 2) قدِّر التقدم المحرز. وحدِّد المهارات التي أُصيبت بالضمور، وتذكّر أن التقدم التدريجي هو مفتاح التعافي. 3) تذكّر أننا جميعاً نعمل ونحن مصابون بالجراح. فاحرص على إبداء التعاطف مع نفسك والآخرين.
كنت أمارس رياضة الجري كالمعتاد، ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى وقع الحادث. كنتُ أجري بسرعة على الحافة العشبية لإحدى الطرق الواقعة وسط الغابات الشجرية، وفجأة زلّت قدمي اليسرى في حفرة والتوى كاحلي.
كان الألم مبرحاً لدرجة أنه أصابني بالصدمة، وهي سلسلة من الظواهر الأيضية التي تبدأ بإفراز هرمون الأدرينالين. وللأدرينالين تأثيرات أخرى متعددة باعتباره جزءاً من بقايا ماضينا التطوري، عندما كان يمنحنا الطاقة اللازمة التي تساعدنا على هزيمة الحيوانات المفترسة. حيث يخلّصنا من الشعور بالألم، حتى نستطيع تجاوز حالة الخطر الماثلة أمامنا في اللحظة الراهنة. كما أنه يحفز أدمغتنا على اليقظة الشديدة لمساعدتنا على اتخاذ أفضل القرارات في أجزاء من الثانية.
وقد تحدث هذه الأنواع من الصدمات بسبب الصدمات النفسية، وكذلك الإصابات الجسمانية بطبيعة الحال. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث خلال الأيام الأولى للجائحة، عندما بدا أن العالم كله من حولنا قد تغيّر بين عشية وضحاها.
وحينما نتعرّض للصدمة نحن والآخرون، فإن هذا يؤثّر بصورة لافتة على طبيعة العلاقة فيما بيننا. وقد قال لي أحد الرؤساء التنفيذيين مؤخراً: "كانت بداية هذا الأمر هي الجزء السهل"، مردداً ما سمعته من مئات المسؤولين التنفيذيين الآخرين. "كنا جميعاً نشعر بالحماس، وشاركنا هذه التجربة المذهلة، واضعين نصب أعيننا مهمة واضحة ساعدتنا على الحفاظ على تركيزنا. كنا بحاجة إلى إنقاذ الشركة وحماية عملائنا وإبقاء السفينة عائمة. مقارنة بالوضع الحالي، كانت تلك الأيام الأولى أشبه بالنسيم".
يعمل الدماغ خلال مرحلة الصدمة على فعل كل ما يلزم لاجتياز الأزمة في اللحظة الراهنة. وعندما تنحسر الصدمة ويبدأ إحساسنا بالألم، تبدأ المشاكل في الظهور.
وبدأت المرحلة الثانية من الصدمة العالمية التي عمّت الجميع، مرحلة الألم، في أبريل/نيسان 2020 تقريباً حينما أدركنا أن جائحة فيروس كورونا لن تنتهي في غضون شهر أو شهرين.
استمرّت هذه الآلام النفسية المبرحة لفترة طويلة من الزمان، وكان مبعثها 3 احتياجات نفسية عميقة لم تتم تلبيتها. أولاً: تم إغفال حاجتنا إلى اليقين. فحياتنا مبنية على أنماط موثوقة نادراً ما تتغير أو تتبدل، مثل مكان تعليق ملابسنا ومواعيد تناول الإفطار والطريقة التي نذهب بها إلى مقر العمل. وتشير الدراسات إلى أن الظواهر اليقينية، مهما بدت تافهة، تنشّط شبكات المكافأة في الدماغ، في حين أن الغموض، مهما بدا هيناً، ينشّط المراكز الدماغية المسؤولة عن الاستجابة للمخاطر الجسيمة، باستخدام شبكات مشابهة لتلك التي يحفّزها الألم الجسماني. وعدم وجود أنماط موثوقة يعني أننا سنشعر بآلام حقيقية بسبب عجزنا عن التفكير في المستقبل لأبعد من بضعة أيام.
أمّا الحاجة النفسية الثانية التي لم تتم تلبيتها، فهي رغبتنا في فرض السيطرة أو الحصول على الاستقلالية التي تعرّضت للانهيار التام تحت وطأة المعلومات الجديدة المتضاربة حول الفيروس. فقد ظللنا لفترة طويلة من الزمن لا نعرف ما إذا كانت الكمامات الطبية قادرة على إحداث فارق حقيقي أم لا، أو ما إذا كانت الوقاية من العدوي تقتضي ترك الطرود البريدية الواردة إلينا لمدة 48 ساعة قبل فتحها، أو ما إذا كان الذهاب لشراء البقالة أمراً لا يستدعي الخوف أم أنه يشكل خطراً على الحياة. ولأن البشر يتوقون إلى فرض السيطرة، فإن تراجع الشعور بقدرتنا على الإسهام في صناعة الأحداث التي تحدّد مصائرنا قد حفزنا أكثر على الحذر.
وأخيراً، هناك رغبتنا في التواصل مع الآخرين، أولئك الذين نلتجئ إليهم عادة عندما تسوء الأمور، والتي انهارت تماماً مع عمليات الإغلاق. لقد ولّت الأيام الخوالي التي كنا نعانق فيها أحباءنا لمواساتهم ونلتمس مشاعر الدفء بلمسة من صديق، أو حتى القدرة على البقاء بالقرب من الآخرين. وشعرنا بدلاً من ذلك بألم العزلة الذي أثبتت الدراسات أنه قد يتسبب في إضعاف صحتنا أكثر من التدخين.
بدأ الألم يتضاءل هذا الصيف مع بدء تلقي التطعيمات، واعتقدنا أننا قد أوشكنا على تجاوز أسوأ الصعوبات. وكنا مستعدين للعودة إلى المقرات المكتبية أو قضاء إجازاتنا، وإذا بنا نتفاجأ بظهور "متحوّر دلتا"، ومن بعده "أوميكرون".
وهو ما يقودنا إلى المرحلة الحالية، أي مرحلة التعافي التي قد تكون الأكثر إيلاماً على الإطلاق. إذ نحتاج في هذا الوقت إلى إعادة ترتيب أوراقنا وتعويض ما فاتنا واستعادة القدرة على النمو. ولكننا قد نكون في هذه المرحلة غير قادرين على التخلي عن حذاء المشي أو مفارقة مكتبنا المنزلي، بحيث يصعب علينا تحمل الموقف. وقد علمتنا التجربة خلال الأشهر الأخيرة أنه من السهل جداً أن تتلاشى آمالنا ونقع في مستنقع اليأس إذا شعرنا بأننا نواجه انتكاسة.
ولكي نتعامل مع هذه المرحلة الأخيرة شديدة الصعوبة، علينا أن نبحث بصورة أعمق لتسهيل هذه المرحلة الانتقالية، خاصة أننا نركز على العودة إلى الروتين الطبيعي في العمل. وفيما يلي 3 أفكار يجب مراعاتها في أثناء مرحلة التعافي:
لا تتحرك بسرعة أكبر من اللازم
بعد شهر من الراحة التامة والمواظبة على وضع كمادات الثلج على قدمي، أُصيبت عضلاتي بالضمور، لكنني لم أكن أعرف ذلك. فبعد بضعة أيام من العودة إلى ممارسة الجري، قبل الموعد الذي حدّده لي طبيبي المعالج، شعرت بوخز مؤلم في كاحلي، واضطررتُ إلى تعليق حذاء الجري لمدة شهر آخر عانيت خلاله الشعور بالإحباط.
فكلما اقتربتَ من موعد التعافي، زادت احتمالية اندفاعك وتعرضك لانتكاسة أخرى. هذا لأننا نميل إلى زيادة السرعة كلما اقتربنا من إكمال شيء ما. وتجعلنا رؤية خط النهاية نركض بشكل أسرع في كل الاتجاهات، كما أنها تجعلنا نشعر بمزيد من التوق إلى الوصول إلى النهاية.
وقد استعجل الكثير من الشركات في وضع خطط العودة إلى المقرات المكتبية خلال فصل الخريف، لكن الجائحة كان لها رأي آخر. وأنهكت بعض الشركات فرق المشاريع عن طريق تغيير الأهداف عدة مرات، قبل أن تدرك أن مرحلة التعافي الحالية ستستغرق وقتاً طويلاً. وأعادت شركات أخرى فتح مقراتها المكتبية، لكنها ما لبثت أن اكتشفت أن نسبة ضئيلة من الموظفين شعروا بالأمان الكافي للعودة.
ما الدرس المستفاد من كل هذا؟ تريّث حتى يكتمل شفاء كاحلك، أو حتى يصبح موظفوك جاهزين حقاً للعمل، قبل الإقدام على إجراء تغييرات محورية. وعندما تضع هذه الخطط، حاول تنفيذها ببطء، وامنح الجميع الكثير من الوقت لاستيعاب تلك الخطط ومعالجتها. فلا نزال كلنا ضعفاء بعض الشيء.
قدِّر التقدم المحرز
بمناسبة الحديث عن الضعف، فقد تسببت قرابة عامين من العمل من المنزل في ضمور الكثير من المهارات الاجتماعية. فقد نسي بعضنا كيفية التعامل بصورة متحضرة في الأماكن العامة أو القواعد السلوكية التي يجب مراعاتها عند حضور اجتماع في الغرفة نفسها أو كيفية إدارة الشعور المعتاد بالتوتر في مكان العمل، بالإضافة إلى كافة أشكال مشاعرنا الأخرى.
وهناك فوائد عدة لتوصيف المهارات التي أُصيبت بالضمور والتوترات التي نعانيها نتيجة لذلك. فقد أثبتت الدراسات أن استخدام الكلمات في توصيف المشاعر الصعبة يساعد على إخمادها، لأن التوصيف يضع مسافة بين خبراتنا وأحاسيسنا.
سيُصاب بعض القادة بالإحباط عندما لا تسير الأمور بسرعة. لكن التقدم التدريجي هو مفتاح التعافي. ولكي تحقق أدمغتنا الأهداف بعيدة الأجل، يجب أن تتلقى أدمغتنا إشارات إيجابية تدل على التقدم المحرز، مهما كان صغيراً، وتحفزها على إفراز هرمون الدوبامين. لذا احرص على الاستمرار في الاحتفال بالفوز، مهما بدا صغيراً.
تذكّر أننا جميعاً نعمل ونحن مصابون بالجراح
قد يكون أهم الدروس المستفادة في مرحلة التعافي هو التحلي بالصبر. ويرتبط التعاطف الذاتي خلال الشدائد بالقدرة على التحمل الأكثر استقراراً، كما أنه يعتبر مؤشراً على الرفاهة. فما أسهل أن نغرق في التفاصيل في أوقات التعافي والعزلة لدرجة تجعلنا ننسى أن الآخرين يعانون من أجل التعافي أيضاً. وقد أثبتت الأبحاث أن التعاطف لا يساعدنا فقط على التحلي بالصبر مع أنفسنا، بل إنه يزيد أيضاً من قدرتنا على التحلي بالصبر مع الآخرين الذين قد يعانون الصعوبات ذاتها أيضاً.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، من المهم ملاحظة أن الدراسات حول طول الفترة الزمنية اللازمة للتعافي من الصدمات قد أثبتت وجود تباينات كبيرة. حيث يتعافى بعض الأشخاص خلال أشهر قلائل، بينما يحتاج البعض الآخر إلى سنوات. ولن تسير أية من عمليتيّ التعافي بالطريقة ذاتها، سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي، لذا فإن إبداء التعاطف مع الآخرين، أينما كانوا، يعتبر أمراً بالغ الأهمية للخروج من مرحلة التعافي أقوى مما كنا.
ما زلتُ أمارس رياضة الجري هذه الأيام، لكنني لم أعد أمارسها كالسابق. فقد تعافى كاحلي، لكنه لم يعد إلى كامل قوته، لذلك أمارس الجري على الشاطئ فقط. صحيحٌ أنني أحنُّ إلى المسارات العشبية، لكنني أدرك أيضاً أنني ما زلت في مرحلة التعافي.