يجب على مجالس إدارة الشركات التطرق إلى الأسئلة التي تدور حول الاستدامة المؤسسية بطريقة جديدة وعاجلة، لتجنب تعرضهم إلى وابل من الانتقادات من قبل المستثمرين لعدم اتخاذهم أي إجراء. وفي أحدث مؤشر على التدقيق المتزايد من قبل مجتمع المستثمرين بخصوص الاستدامة، أعلنت شركة "ياهو" في عام 2018 أنها ستبدأ في نشر تقييمات الاستدامة للشركات المطروحة للتداول العام. وبالتالي، يجب أن يتّسم كل مجلس إدارة شركة مدرجة "بالشفافية فيما يتعلق بالاستدامة" بهدف الوفاء بالتزاماته. وتتمثل الخطوة الأولى لتحقيق الاستدامة في الإدارة في فهم نتائج الاستدامة في المجالات البيئية والاجتماعية والإدارية وكيفية استخلاصها، والمعلومات التي تكشفها هذه النتائج، وكيفية استخدامها مِنْ مختلف أصحاب المصلحة في الشركات. وندرج فيما يلي دليلاً لهذه النتائج ومعناها بالنسبة إلى المدراء.
تقييم الاستدامة
لطالما نُظر إلى "الاستدامة" في اللغة الحديثة بوصفها اختصاراً غامضاً يعني الحفاظ على التوازن البيئي مع تجنب الإضرار بالبيئة واستنزاف الموارد الطبيعية. بينما يُنظر إليها ويجري قياسها في عالم الأعمال والمستثمرين على نحو أكثر شمولية وفق ثلاث فئات مختلفة، متمثّلة في المجالات البيئية والاجتماعية والإدارية، ويشمل الإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالتدابير "البيئية" انبعاثات الغازات الدفيئة، واستخدام المياه، وتصريف النفايات، وأكثر من ذلك. ويشتمل الإفصاح عن المعلومات التي تخص القضايا "الاجتماعية" التنوع وعلاقات العمل وسلامة المنتج وصحة وسلامة الموظفين وتنمية المجتمع والمزيد. بينما يضم الإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالقضايا "الإدارية" الأخلاقيات وتنوع مجلس الإدارة وتكوينه وحقوق المساهمين ودور سلاسل التوريد والمزيد.
في حين اتّسم بعض أعضاء مجلس الإدارة "بالشفافية في مجال الاستدامة والقضايا البيئة والاجتماعية والإدارية" على نحو متزايد خلال السنوات القليلة الماضية، لم تدرك العديد من الشركات الأخرى أهمية هذه القضايا، ولم يشعر مديروها بالحاجة إلى تثقيف مجلس الإدارة في هذا المجال. إن الشركات الكبرى التي تستخدم منظور الاستدامة والمقاييس المرتبطة بها قد تبنّت هذه السياسة طوعاً إلى حدٍ ما بهدف خدمة أغراضها التجارية الاستراتيجية ولإدراكها أنها أصبحت ممارسة شائعة بين رواد الصناعة والمنافسين، أو لأنها ملزمة بموجب القانون على توفير إفصاح عن المعلومات المتعلقة بالقضايا البيئية والاجتماعية والإدارية.
اختلاف درجات الاستدامة. تُحدد هذه الدرجات خارجياً من قبل أطراف ثالثة وتستند إلى عمليات إفصاح الشركة عن المعلومات المتعلقة بالقضايا البيئية والاجتماعية والإدارية الثلاث المميزة. بشكل عام، كلما تفصح شركة ما عن سياستها المتبعة فيما يخص هذه القضايا الثلاث، تزداد درجة الاستدامة التي تتلقاها، وتصبح الشفافية جزءاً من إدارتها الرشيدة ويصبح سلوكها أكثر قابلية للقياس. وعلى الرغم من أن هذه العملية ليست إجبارية بالكامل، إلا أنها تتبع عادة ثلاث خطوات:
- منصات الكشف - توجد عدة معايير لتوفير إطار عمل حول كيفية قيام الشركة بالإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالقضايا البيئية والاجتماعية والإدارية، مثل المبادرة العالمية لإعداد التقارير ومجلس معايير محاسبة الاستدامة. حيث تختار الشركات أحد المعايير وتُفصح عن المعلومات بشكل عام من خلال تقديم تقرير رسمي سنوي عن الاستدامة أو نشر هذه المعلومات على موقع الشركة على الإنترنت أو كلا الوسيلتين. وغالباً ما تُجري الشركات تقييماً للأهمية النسبية عن طريق القيام بدراسة استقصائية لأصحاب المصلحة داخل وخارج الشركات بهدف تحديد الموضوعات التي يجب الإفصاح عنها.
- شركات التصنيف - يوجد الآن العديد من شركات التصنيف التي تتمثل مهمتها في تقييم المعلومات التي تُفصح عنها الشركات حول القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية وتحديد الدرجة المُستحقّة لهذه الشركات، مثل "ساستيناليتيكس" (Sustainalytics) مع حصة ملكية تملكها شركة "مورنينغ ستار" (Morningstar)، وشركة "انستيتيوشونال شيرهولدار سيرفيسز" (Institutional Shareholder Services)، ومؤشر "مورغان ستانلي كابيتال انترناشيونال" (MSCI)، بالإضافة إلى أشهر وكالتي تصنيف فيما يتعلق بالاستدامة، ألا وهما شركة "ستاندرد آند بورز" (Standard and poors– S&P) وشركة "موديز" (Moody's). في معظم الحالات، تُصنف الشركات تلقائياً بناءً على عمليات الإفصاح في المجال العام، سواء كانت الشركة ترغب في مثل هذه التصنيفات أم لا. وتستند النتائج عادةً إلى مقياس من 1 إلى 100 نقطة. كما تأخذ وكالات التصنيف في حسبانها قضايا الشركة المثيرة للجدل، بالإضافة إلى مجالات مشاركة منتجاتها، مثل الكحول والقمار والتبغ وغير ذلك.
- تقارير التقييم: تباع نتائج الاستدامة بعد ذلك من قبل شركات التصنيف إلى المنافذ الإعلامية المهتمة، مثل "بلومبرغ" المتخصصة في محطات التداول، أو الشركات الاستشارية الوكيلة، أو وسائل الإعلام مثل "ياهو". ويُسفر نمو مستوى الشفافية السريع عن توفير مقارنات سهلة بين الشركات.
وبالنسبة إلى المستثمرين ومديري الأصول والمستشارين، تسمح نتائج الاستدامة، أو نتائج القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية بإجراء تقييم سريع حول مدى فاعلية إدارة الشركة. ويمكن لهذه الدرجات أيضاً التنبؤ بالمخاطر المحتملة أو الفرص غير المستغلة. على سبيل المثال، ذكرت شركة "ساستيناليتيكس" مخاوف تتعلق بالإدارة قبل اندلاع فضيحة الانبعاثات من محركات الديزل من سيارات شركتي "فولكس فاغن" و"فيات كرايسلر". ويمكن إدراج النتائج في نماذج تقييم الأسهم أو السندات وتجميعها على مستوى المحفظة الاستثمارية. كما أنها تتيح إجراء أفضل تحليل مقارن وإجراء عمليات الفحص ووضع معايير مرجعية داخل وخارج الصناعة أو القطاع أو المنطقة، كما يمكن استخدامها لابتكار منتجات استثمارية.
أما بالنسبة إلى العملاء المحتملين والحاليين في الشركة، تشجع النتائج القوية على شراء المنتجات من قبل المستهلكين ذوي التفكير المستدام. وقد تكون هذه الدرجات حاسمة عندما تكون الشركة جزءاً من سلسلة التوريد، خاصةً عندما تفرض الشركات المصنعة للمعدات الأصلية ممارسات مستدامة على مورديها.
وبالنسبة إلى الموظفين، يمكن أن تمثل النتائج القوية الفخر والمشاركة، أما بالنسبة إلى الموظفين الجدد، فقد تمثل هذه النتائج المعنى والهدف والعوامل الحاسمة للفوز بالمنافسة على المواهب اللازمة للحفاظ على استدامة الشركات.
في السنوات الأخيرة كان فهم الاستدامة والقضايا البيئية والاجتماعية والإدارية أمراً صعباً بسبب اختلاف الصناعات والشركات، ولم تكن طرق ممارسات المستدامة وإجراءاتها واضحة. ومع ذلك، ظهر عدد من الممارسات الشائعة التي توفر التوحيد القياسي والشفافية والتي تواصل تطورها في هذا المجال. كما طورت وكالات التصنيف أطر عمل مشتركة وتمتلك بيانات كافية لتتبع الشركات وإجراء المقارنات فيما بينها. بالإضافة إلى توفّر مجموعة كاملة من موارد التدريب، بما في ذلك الأدوات القائمة على الإنترنت والمؤتمرات والاستشاريين والموظفين الداخليين. وبالتالي، توجد مجموعة راسخة من أدوات التعلم التي توفر الفهم الكافي لمجالس الإدارة والشركات.
مسؤولية مجلس الإدارة
يجب على مجالس الإدارة معرفة تصنيفات الاستدامة الخاصة بشركاتها ومراجعتها وتتبعها، حيث يجب أن تفهم هذه المجالس كيفية استخلاص نتائج الاستدامة هذه وكيفية الإبلاغ عنها بشكل منتظم عن طريق خدمات التصنيف المختلفة. وبالنظر إلى الاهتمام المتزايد في هذا المجال، قد ترغب مجالس الإدارة في تعيين مديرين يمتلكون خبرة في هذا الموضوع. كما يجب تكليف لجنة محددة من قبل مجلس الإدارة بمهمة الإشراف. لكن لا يجب أن تكون استراتيجية مجلس الإدارة في مجال القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية تتعلق بتتبع النتائج فقط. ويشير عدد متزايد من الانتقادات إلى القيود المفروضة على عمليات الإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالقضايا البيئية والاجتماعية والإدارية التي يكون هدفها الوحيد هو "الحصول" على الدرجات العالية من دون خطة لتحقيق تأثير حقيقي. وبالتالي، لا بدَّ أن تكون النتائج هي الدافع.
ويتطلب واجب الأمانة المهنية من أعضاء مجلس الإدارة فهم الاستدامة وتأثير تصنيفات القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية على قيمة كل من المؤسسة والمساهمين، بالإضافة إلى مسؤولياتهم الاستشارية والإشرافية الرئيسة. ويوجد مجموعة متزايدة من البيانات التي تؤكد أن الشركات التي تتبنى ممارسات الاستدامة تتفوق على نظرائها. حيث وجدت إحدى الدراسات التي أجرتها كلية "هارفارد للأعمال" أن استثماراً بقيمة دولار واحد على مدى 20 عاماً حقق عائداً قدره 28 دولاراً في تلك الشركات التي تركز على القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية مقابل 14 دولاراً للشركات التي لا تركز عليها. لقد أصبحت ممارسات القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية شائعة في مختلف الصناعات، وبالتالي، تخاطر الشركات التي لا تركز على هذه القضايا في جعل نفسها أقل قدرة على المنافسة نتيجة فقدانها الفرص الاستراتيجية وتجاهلها المخاطر المادية لأدائها المستمر وقيمتها. وهذا يعني ضرورة قيام مجلس الإدارة في إدارة قضية الاستدامة والقضايا البيئية والاجتماعية والإدارية والإشراف عليها بشكل مباشر.
على سبيل المثال، لم تعد آثار تغير المناخ مجرد توقعات مستقبلية، إذ نشهد اليوم الآثار المترتبة على تغير المناخ، بالإضافة إلى تداعيات ذلك على الناتج المحلي الإجمالي، حيث أصبحت العواصف التي كانت تحصل كل 100 عام تتكرر في غضون سنوات فقط، كما أن توغلات المحيطات اليوم لا تحدث بسبب العواصف وإنما بسبب المد والجزر، فضلاً عن أن درجات الحرارة القصوى تؤثر على الحياة اليومية والعمليات التجارية. هل تُعتبر هذه الاضطرابات عاملاً خطراً في المؤسسة؟ هل يمكن أن تعمل سلاسل التوريد مع مثل هذه الاضطرابات؟ هل يوجد فرص عمل جديدة نتيجة هذا التغيير؟ هل يوجد أسواق جغرافية جديدة يمكننا خدمتها؟ هل يوجد منتجات جديدة يمكننها ابتكارها؟
لا يمكن أن تتجاهل مجالس الإدارة السياق البيئي العالمي الذي يعزز الدافع لتحقيق الشفافية واهتمام المستثمرين. كما تستجيب الحكومات في جميع أنحاء العالم لظاهرة تغير المناخ من خلال أطر تنظيمية جديدة. على سبيل المثال، سنَّت مدينة نيويورك مؤخراً قانوناً جديداً سيسفر عن أكبر تخفيض لانبعاثات الكربون في أي مدينة في العالم من خلال إجراء تخفيضات كبيرة في الانبعاثات ذات الصلة بالمناخ في المباني. كما يحذر القانون من عواقب هذه المخاطر عبر فرض غرامات كبيرة، وإنشاء أسواق الكربون التي تهدف إلى خفض الانبعاثات، وتنظيم العمل بهدف تحسين استخدام الطاقة على نطاق غير مسبوق. في الوقت نفسه، يمكن إتاحة الفرص لابتكار تقنيات جديدة لتوفير الطاقة، وتطوير نماذج أعمال جديدة لتحسين عمليات استهلاك الطاقة، وتوفير قدرة إضافية للطاقة المتجددة. لقد أسفرت الزعزعة الناجمة عن الحرارة أو الفيضانات أو القوانين الجديدة عن إجبار المستثمرين للتفكير بطريقة مختلفة. ويجب على مجالس الإدارة أن تفكر بطريقة مختلفة أيضاً.
المرحلة المقبلة
مع تزايد أهمية الاستدامة المؤسسية بين المستثمرين وجميع أصحاب المصلحة، ينبغي أن يكون مجلس الإدارة مستعداً لفهم الآثار المترتبة على الشفافية في القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية المتنامية والفرص والمخاطر التي قد تليها. وعلى الرغم من أن مجالس إدارة الشركات العامة هي محور التركيز اليوم، فمن المحتمل أن تحدد معايير الاستدامة ومعايير القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية التوقعات التي قد تتوسع لتشمل مجالس إدارة الشركات الخاصة، لا سيما إلى الحد الذي تطمح فيه هذه الشركات إلى أن تصبح شركات عامة يوماً ما. في نهاية المطاف ستتوسع هذه المعايير لتشمل أولئك الذين يشرفون على المؤسسات التعليمية وغيرها من المؤسسات غير الربحية التي تحكمها مجالس الإدارة شريطة التزام هذه مجالس الإدارة بالأمانة المهنية تجاه الجهات المستهدفة المعنية بتحقيق الاستدامة في الإدارة.