في صراعها من أجل البقاء على قيد الحياة في عصر التسوّق عبر الإنترنت، وجدت متاجر التجزئة التقليدية نفسها تلجأ إلى الاستراتيجية الأزلية المتمثّلة في خفض النفقات المخصصة للعاملين. ففي قطاع المتاجر الكبيرة متعدّدة الأقسام في الولايات المتّحدة الأميركية، تراجع عدد الموظفين في المتجر الواحد بنسبة تفوق 10% خلال العقد الماضي، في حين تراجع متوسط أجر الموظف الواحد بنسبة 4%. لكنّ جدول الرواتب والأجور ليس الشيء الوحيد الذي يطاله مقص التقشّف: فقد تعرّضت الموازنات المخصّصة للتدريب إلى التقليص هي الأخرى. توصّل مسح أجرته شركة "آكسونيفاي" (Axonify) المتخصّصة ببرمجيات التدريب إلى أنّ ثلث العاملين في متاجر التجزئة لا يتلقّون أي تدريب رسمي، وهذه هي النسبة الأعلى بين كل القطاعات التي شملها المسح. ولم تكن فكرة تخفيض أعداد موظفي المتاجر وتقليل التدريب الذي يحصل عليه العمّال فكرة جيّدة قط، لكنّها فكرة سيّئة الآن بالتحديد، لأنها تحرم المتاجر التقليدية من أكبر ميزة تملكها بالمقارنة مع متاجر التجزئة الإلكترونية، ألا وهي وجود إنسان بشحمه ولحمه يمكن للزبون أن يتحدّث معه وجهاً لوجه.
يتمثّل جذر المشكلة في أنّ معظم متاجر التجزئة لا تعلم كيف تحدّد الحجم المثالي للموظفين والتدريب اللذين يحتاج إليهما كل متجر. نستعرض في هذه المقالة طريقة القيام بذلك. وإذا ما طُبّقت هذه الطريقة بأسلوب منهجي، فإنها قادرة على أن تزيد إيرادات المتاجر الحالية بمقدار 20% كما وجدنا. وعلاوة على ذلك، إذا قوبلت الزيادة في أعداد الموظفين في بعض المتاجر بتخفيضات في أعدادهم في متاجر أخرى، وغطّى المنتجون تكلفة التدريب من المنتجات، فإنّ توليد مبيعات أعلى لن يكلّف شيئاً أو ستكون تكلفته ضئيلة، ولذلك فإنّ معظم الأرباح الإجمالية الناجمة عن ذلك التحسين ستدخل في خانة الأرباح الصافية.
عيوب المقاربات التقليدية
من المفهوم أن تُعامل متاجر التجزئة التقليدية اليدَ العاملة على أنها تكلفة متغيّرة يمكن الاستغناء عنها، فهي ثاني أكبر بند مصاريف بالنسبة للغالبية، ويمكن للمتاجر أن تخفضها بسرعة بمجرّد تشغيل من يعملون بدوام جزئي لساعات أقل. لكنّ المشكلة في هذه المقاربة تتمثّل في أنها تتجاهل الحقيقة البسيطة القائلة إنّ مندوبي المبيعات هم من يحقق المبيعات. فمقابل كل دولار يوفّره متجر التجزئة من تكاليف الموظفين، ربما يخسر بضعة دولارات من الإيرادات وهوامش الأرباح الإجمالية إذا ما ترك الزبون المتجر خالي الوفاض لأنه لا يستطيع العثور على موظف متمرّس ليساعده. ويمكن أن يخلق ذلك دوّامة سلبية يقود فيها تراجع أعداد الموظفين إلى خدمة زبائن سيئة، الأمر الذي يتسبّب بتراجع إضافي في الإيرادات وجولة جديدة من تسريح القوى العاملة. وتستمر حالة التقهقر هذه حتى تغلق المتاجر أبوابها إلى الأبد، كما فعل 7,795 متجراً في الولايات المتحدة الأميركية في 2017، وهو أعلى رقم على الإطلاق. يكمن السبب وراء هذه الاستراتيجية العمّالية الخاسرة فكر خاطئ تدرّسه كليات الأعمال. فنحن نعلّم طلابنا الإدارة بالأرقام. وهذه ليست فكرة سيئة باستثناء أنها تقود رجال وسيّدات الأعمال إلى إعطاء وزن زائد للأشياء التي يسهل قياسها، بينما لا تعطي إلا وزناً ضئيلاً لما لا يمكن أن يُقاس بسهولة. بالنسبة لصاحب متجر التجزئة، تكلفة جدول الرواتب والأجور والتدريب واضحة. أمّا تأثير العدد الكافي من مندوبي المبيعات المتمرّسين بعملهم على الإيرادات فهو أصعب على القياس. يفتح هذا الاختلال في التوازن الباب أمام الوهم التالي: يقنع أصحاب متاجر التجزئة أنفسهم أنهم إذا ما قلصوا جدول الرواتب والأجور بنسبة 5%، مثلاً، في الأسابيع القليلة الأخيرة من الربع المالي للإيفاء بالأرباح التي وعدوا بها وول ستريت، فإنّ ذلك لن يؤثّر على خدمة الزبائن. ولكن مع مرور الوقت يتضح أن لهذا الأمر تأثير.
وما يزيد الطين بلّة هو الإطار الذي يستعمله أصحاب متاجر التجزئة لتزويد متاجرهم بالموظفين. فبحسب تجربتنا، يتعامل معظمهم مع كل المتاجر كما لو أنها واحدة ويحدّدون موازنة العاملين لكل متجر وفق نسبة مئوية ثابتة للمبيعات المتوقعة في ذلك الموقع. لكنّ إضافة عمّال إلى متجر معيّن تزيد الإيرادات وفق وتيرة متناقصة. إذ يوجد مستوى معيّن لأعداد الموظفين في كل متجر يوازي بصورة مثالية بين الإيرادات الإضافية التي يولّدها العمّال وتكلفة اليد العاملة الإضافية. (عند المستوى الصائب، آخر دولار ينفق على اليد العاملة سوف يولّد دولاراً واحداً من هوامش الأرباح الإجمالية). فإذا ما وصل أصحاب متاجر التجزئة إلى تلك النقطة المثالية في كل موقع، فإنّ بعض المتاجر في نهاية المطاف ستضم نسبة أعلى من الموظفين إلى الإيرادات بالمقارنة مع المتاجر الأخرى.
فما هي المتاجر التي تميل إلى الاستفادة من العدد الأكبر نسبياً من العمّال؟ إنّها المتاجر التي تنطوي على إمكانية تحقيق مبيعات أكبر (التي يُشار إليها بالحجم الوسطي لسلّة المشتريات والحجم الوسطي للدخل في المنطقة التي تخدمها) ومنافسة أكبر (التي يُشار إليها بعدد المتاجر المنافسة – ولاسيما بحضور أحد متاجر سلسلة "وول مارت" (Walmart) ضمن دائرة نصف قطرها خمسة أميال). وتُعتبرُ الخدمة الأفضل التي يوفّرها العدد الأعلى من الموظفين هامّة تحديداً إذا كان لدى المنافس متجر على بعد شارع واحد يمكن للزبائن أن يذهبوا إليه إذا شعروا بالتعب بسبب انتظار مندوب مبيعات لمساعدتهم في متجركم.
لذا فإنّ المفتاح الأساسي للخروج من براثن هذه الدوّامة السلبية لا يتمثّل في التخلي عن الإدارة بالأرقام، وإنما يتمثّل في الإدارة بالأرقام "الصحيحة" التي لا تقتصر على مجرّد حساب تكلفة مندوبي مبيعات المتاجر المدرّبين جيّداً وإنما أيضاً "القيمة" التي يحققونها.
خفض تكاليف تعيين الموظفين يمكن أن يقود إلى إيرادات وهوامش أرباح أدنى إذا غادر الزبون المتجر خالي الوفاض لأنه لا يستطيع العثور على موظف متمرّس لمساعدته.
الوصول إلى المستويات المثالية من أعداد الموظفين
دعونا نراجع الآن كيف يمكن تحديد المستويات المناسبة من أعداد الموظفين في المتاجر الفردية. يشمل ذلك ثلاث خطوات:
استعمال البيانات التاريخية حول تغيّب الموظفين عن العمل لتقدير أثر أعداد الموظفين. قد لا يدرك أصحاب متاجر التجزئة الأمر، لكن هم أصلاً لديهم طريقة لاحتساب كيفية تأثير أعداد الموظفين على الإيرادات، وذلك عن طريق دراسة الأرقام المتعلّقة بما يحصل عندما يغيب المندوبون عن العمل بسبب المرض، أو المشاكل الشخصية، أو القرار بترك العمل، وهكذا دواليك. فعلى سبيل المثال، إذا كان المخطط هو أن يعمل 30 شخصاً في متجر ولم يحضر إلا 27 فقط، فما هو الفرق بين المبيعات الفعلية والمبيعات التي كانت متوقعة؟ فإذا ما كانت التوقعات قد تحققت، ربما يكون عدد الموظفين في المتجر زائداً عن اللزوم. وإذا ما كان الفرق هو 10% أقل، فإنّ زيادة أعداد الموظفين بواقع 10% ستسهم بزيادة الإيرادات بمقدار 10% على الأرجح.
يحتاج الوصول إلى نتائج ذات دلالة إحصائية إلى وجود عيّنة كبيرة، بطبيعة الحال. نحن نستعمل أدق البيانات المتاحة لأطول فترة يمكن لصاحب متجر التجزئة أن يوفّرها لنا بطريقة مريحة، وهي عادة ما تأخذ شكل بيانات لسنة كاملة من المبيعات وجداول الرواتب والأجور الأسبوعية. لكن لا يجب أن يغيب عن بالكم أنّ هناك قوى أخرى تؤثّر على المبيعات، مثل الإعلانات والأحوال الجوية. نحن نجمع البيانات الخاصّة بهذه العوامل أيضاً ونُنشئ باستعمال نظام تعلّم الآلة نموذجاً للطلب قادراً على التنبؤ بالمبيعات في متجر معيّن بناءً على مستوى أعداد الموظفين فيه، وغيره من العوامل المحفّزة. بعد ذلك، وباستعمال التحليل الذي يعطينا إيّاه هذا النموذج، نقسّم المتاجر التابعة لأحد أصحاب المتاجر إلى ثلاثة مستويات: المتاجر التي تستفيد من زيادة أعداد العمّال، والمتاجر القادرة على الاستمرار بالعمل في وجود أعداد أقل من العمال، والمتاجر التي تضمّ العدد المناسب من الموظفين.
التثبّت من صحّة النتائج. ميزة الخطوة الأولى هي أنها لا تحتاج إلى الكثير من الجهد نسبياً، لكنّكم بحاجة إلى تجربة مصمّمة وفق ضوابط شديد الدقّة للحصول على نتائج أدق، لأنّ نسبة التغيّب عن العمل في المتاجر الفردية تتفاوت عشوائياً نوعاً ما. فبعض المتاجر قد يشهد الكثير من حالات التغيّب، وبعضها قد يشهد القليل منها، أو لا يوجد تغيّب على الإطلاق. كما أنّ التغيّب عن العمل ليس أمراً متّسقاً مع مرور الوقت، فقد يشتدّ وطأة في بعض أيام الأسبوع أو لا يكون له نمط منتظم: قد يكون 1% في يوم من الأيام و10% في اليوم التالي في متجر معيّن. لذلك من المفيد إجراء اختبارات على عيّنة من المتاجر من المستويين الأولين. غيّروا مستوى أعداد الموظفين في مجموعة منتقاة من المتاجر وقارنوا النتائج مع ما يحصل في المتاجر المنتقاة بغرض ضبط التجربة – أي المتاجر المشابهة التي تحافظون على مستويات ثابتة من أعداد الموظفين فيها. فإذا ما زدتم جدول الرواتب والأجور في 25 متجراً خاضعاً للاختبار بنسبة 10% وأبقيتم النسبة ثابتة في 25 متجراً مخصّصة لضبط التجربة، وارتفعت الإيرادات بنسبة 8% في الأولى و1% في الثانية، في المجموعتين، بوسعكم الاستنتاج أنّ التأثير الصافي لمستويات أعداد الموظفين هو 7%. وهذا يسمح لكم بدراسة محفّزات الإيرادات الأخرى، غير جدول الرواتب والأجور، التي كانت قد تسبّبت بهذا الارتفاع بنسبة 1% في مجموعة الضبط في هذا المثال.
بما أنّ نسبة الأرباح الناتجة عن الإيرادات الإضافية تعد أحد الأمور المهمة كما يتّضح، يجب عليكم مراقبتها أيضاً من خلال احتساب هوامش الأرباح الإجمالية على المبيعات الإضافية مطروحاً منها الرواتب والأجور الإضافية المطلوبة لتحديد نسبة الأرباح.
تحديد المستويات المثالية من أعداد الموظفين على مستوى شبكة المتاجر بأكملها وقياس النتائج. على فرض أنّ التجربة في الخطوة الثانية أثبتت صحّة نتائج تحليل البيانات الذي أجريتموه في الخطوة الأولى، فقد حان الوقت لتطبيق النتائج على مستوى شبكة المتاجر بأسرها. أضيفوا عمّالاً إلى المتاجر التي أظهر تحليلكم أنها قد تستفيد من المزيد من اليد العاملة، وقللوها في المتاجر التي تحتاج إلى عدد أقل من الموظفين، ودعوا الباقي منها وشأنه. بعد ذلك، وبما أنّ نتائج تجربتكم ما تزال تفتقر إلى الدقة التي تريدونها، أجروا مرّة أخرى تقويماً لأثر التغييرات للتأكّد من أنها تعطي النتائج المرجوّة. لكنّ هذه الخطة الجديدة والمحسّنة للتوظيف ليست النهاية، لأنّ العوامل التي أثّرت فيها سوف تتغيّر مع مرور الوقت. ويحتاج أصحاب متاجر التجزئة إلى تكرار هذه العملية المؤلّفة من ثلاث خطوات، ربما سنوياً، لتعديلها مع تغيّر العالم المحيط بهم.
كما سبق وذكرنا آنفاً، عندما يتطابق التزايد في أعداد الموظفين في بعض المتاجر مع التناقص في أعداد الموظفين في متاجر أخرى، فإن الإيرادات الإضافية الناجمة لن تكلّف أصحاب المتاجر أي شيء. لكنّ الزيادات الصافية في أعداد العمّال لا يجب أن تحدث إلا إذا كانت تقود إلى زيادة كبيرة في الأرباح. ورغم أنّ جني ثمار إضافة العمّال يستغرق بعض الوقت في العديد من القطاعات، إلا أنّ المكاسب فورية في المتاجر القادرة على الاستفادة من الموظفين الإضافيين بطريقة مثمرة. لذا لا يجب على أصحاب متاجر التجزئة الخشية من أنهم سيواجهون فترة أولية من تراجع الأرباح.
لاحظنا النتيجة الإيجابية لهذه المقاربة الثلاثية الخطوات في إحدى سلاسل متاجر التجزئة المتخصّصة التي تضم أكثر من 800 متجر. شملت قائمة محفّزات المبيعات التي أخذناها بالحسبان عندما عملنا مع هذه السلسة كلاً من العمل الموسمي، ومختلف الأنشطة التسويقية، والعروض الترويجية. وباستعمال برمجية إحصاء تدعى "ستيت" (Stata) أنشأنا نموذجاً للطلب واستعملناه لتوقّع المبيعات بناءً على هذه العوامل ومستويات أعداد الموظفين. كشفت البيانات أنّ 300 متجر ستستفيد من إضافة عمّال آخرين، و300 متجر يمكنّها التكيف مع أيدي عاملة أقل، في حين أن 200 منها ضمّت العدد المناسب من العمال.
قدّرنا أنّ 100 من المتاجر في المستوى الأول ستحقق زيادة في الإيرادات تفوق 5% إذا ازدادت أعداد الموظفين فيها بواقع 10%. وقرّر قادة سلسلة المتاجر هذه إجراء تجربة في 16 فرعاً تنطوي على إمكانات عالية، الأمر الذي أكّد الارتفاع الذي تنبأنا به في الإيرادات. وسّعت السلسلة القوى العاملة في 168 متجراً بدا أنّ إضافة عمّال إليها سيعزّز المبيعات والأرباح، وراقبت الإيرادات اليومية في هذه المتاجر الخاضعة للاختبار، و504 متاجر مخصّصة لضبط التجربة على مدار 182 يوماً. فماذا كانت النتيجة؟ نمت إيرادات المتاجر الخاضعة للاختبار بمقدار 5.1%، في حين ظلت إيرادات متاجر الضبط مستقرّة دون زيادة. علاوة على ما سبق، زادت المتاجر الخاضعة للتجربة من أرباحها التشغيلية بمقدار 6% تقريباً.
أينا نتائج مشابهة أيضاً في متاجر تجزئة أخرى عملنا معها. ففي إحدى الحالات، أظهر تحليلنا أنّ كل دولار إضافي أنفقته السلسلة على الرواتب والأجور ولّد ما بين 4 دولارات و28 دولاراً على هيئة إيرادات إضافية، بحسب حالة كل متجر. وقد كشفت استبيانات رأي الزبائن السبب. العاملان المحفّزان الأهم لرضا الزبائن كانا القدرة على العثور على مندوب مبيعات بوسعه تقديم المساعدة، وما إذا كان ذلك الشخص متمرّساً، وهما بالضبط العاملان اللذان تطرّقنا إليهما هنا.
في إحدى سلاسل متاجر البقالة التي أجرينا أبحاثاً معها، رأينا فروقاً كبيرة في حجم سلّة المشتريات بين مختلف الفروع. كما وجدنا أن المتاجر ذات سلال المشتريات الأكبر حجماً أنجح في مطابقة أعداد الموظفين مع حركة الزبائن خلال النهار.
يمكن لمتاجر التجزئة متعدّدة الأقنية أيضاً استعمال هذه المقاربة التي طوّرناها لتحقيق المستوى الأمثل من أعداد الموظفين. وهي بحاجة إلى أن تدرك أنّ مندوبي المبيعات لا يحفّزون المبيعات في المتاجر فقط، وإنما على الإنترنت أيضاً، وبعدّة طرق، مثل تشجيع الزبائن على إنشاء حسابات على الإنترنت مع الشركة. لذلك عند إجراء متاجر التجزئة متعدّدة الأقنية تحليلاً لترى ما إذا كانت متاجرها التقليدية تضمّ أعداداً أكثر أو أقل من المطلوب من الموظفين، يجب عليها إدراج هذه العوامل ضمن مقاييسها.
زيادة معرفة مندوبي المبيعات بالمنتج
تحديد العدد الصحيح للعمّال في كل متجر هو جزء فقط من القصّة، إذ تُعتبرُ نوعية مندوبي المبيعات هامّة للغاية أيضاً. فمندوب المبيعات عديم الكفاءة قد يكون أسوأ من عدم وجود مندوب على الإطلاق. لكن كما ذكرنا آنفاً، ثمّة نزعة لدى متاجر التجزئة للتباخل في الإنفاق على التدريب.
يمكن للمندوب أن يستفيد من نوعين من البرامج: التدريب على إنجاز العمليات، وتحديداً كيفية إنجاز مهام من قبيل إعادة تعبئة الرفوف بالمنتجات، وإنجاز عملية إرجاع الزبون لمنتج معيّن، والتدريب على التعرّف على المنتجات وتحديداً مزايا المنتجات التي يعرضها المتجر، ليكون بمقدورهم مساعدة الزبائن على اتخاذ قرار بخصوص ما يريدون شراءه. يقدّم معظم أصحاب متاجر التجزئة الذين نعرفهم نسب محدودة من كلا النوعين من التدريب. والسبب في ذلك هو أنّ التدريب باهظ التكلفة، وهم لا يعلمون ما إذا كانت منافعه تبرّر التكلفة، ولا سيما نظراً لظاهرة دوران الموظفين التي ابتليت بها متاجر عديدة.
نركّز في هذه المقالة على التدريب الهادف إلى التعريف بالمنتجات. لكنّنا نؤمن أنّ أصحاب متاجر التجزئة يجب أي يستثمروا أيضاً استثماراً إضافياً في التدريب على إنجاز العمليات. فقد وجد باحثون آخرون، وأبرزهم صديقتنا وزميلتنا زينب تون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أنّه عنصر أساسي في نموذج يقود إلى موظفين أكثر تفاعلاً، وزبائن أكثر رضاً، وأداء مالي متفوّق.
إذا ما أراد أصحاب متاجر التجزئة قياس تكاليف التدريب الهادف إلى التعريف بالمنتجات ومنافع هذا التدريب، يجب عليهم اتباع هذه الخطوات الثلاث:
متابعة مبيعات كل مندوب، وتحفيز الموظفين على الحصول على التدريب الذي يساعدهم في بيع كميات إضافية. عمولة المبيعات هي الطريقة الأبسط لفعل ذلك، ولكن حتّى لو كان المندوبون يتقاضون رواتب مقطوعة، فإنّ المعلومات التي تخصّ عمليات البيع التي ينجزونها هي رأي تقويمي مفيد لهم. لا يدفع بعض أصحاب متاجر التجزئة عمولة، وتحديداً من لديهم فريق مبيعات صغير، لأنهم يريدون من مندوبي المبيعات أن يعملوا بروح الفريق الواحد. في هذه الحالات، وحدة التحليل المناسبة هي الفريق، وليس الفرد.
تحديد مصادر المعلومات عن المنتجات. إذا كنتم تبيعون منتجات تابعة لشركات كبرى، فإنّ هذه الشركات هي حليفاتكم وقد تدفع تكاليف التدريب على ما تقدّمه من منتجات. ففي نهاية المطاف، هي مهتمّة أكثر منكم حتّى بتوفير توصيف دقيق لمزايا منتجاتها للزبائن. فإذا ما دعمت الشركات الكبرى فاتورة تكاليف التدريب، فإنّ إسهامكم يجب أن يتمثّل في توفير وقت مندوب المبيعات أثناء العمل لتلقي التدريب.
جمع البيانات حول النشاط التدريبي ومقارنتها بالبيانات الخاصة بمبيعات الموظفين الأفراد. الفكرة هنا هي تقرير ما إذا ما كان مندوبو المبيعات الذين يحصلون على تدريب أكثر يبيعون كميات أكبر أيضاً. بوسعكم قياس الساعات التي يمضيها الموظفون في التدريب، لكن من الأفضل حتّى قياس المعرفة الموضوعية التي اكتسبوها، وهذا أمر بوسعكم إنجازه عن طريق اختبارات عبر الإنترنت. ولكن مرّة أخرى، من المهم أخذ العوامل الأخرى التي تؤثّر على المبيعات بالحسبان. ويحظى مدى خبرة مندوب المبيعات تحديداً بالأهمية، وكذلك نوبات عمله في أمريكا، (مبيعات السبت عادة أعلى من مبيعات يوم الأربعاء)، وعدد مندوبي المبيعات الآخرين الذين يعملون في الميدان معه.
عندما طبّقنا هذه العملية في سلسلة متاجر "ديلاردز" (Dillard’s) متعدّدة الأقسام، والتي تمتلك ما يقارب 300 متجر في الولايات المتحدة الأميركية، كانت النتائج ذات دلالة كبيرة. فقد دخلت ديلاردز في شراكة مع "إكسبرت فويس" (Expert-Voice) (التي كانت تُعرَف سابقاً باسم "إكسبرتيسيتي" (Experticity)، وهي شركة توفّر مساقات تدريبية طوعية عبر الإنترنت وفق مبدأ التوجيه الذاتي لمندوبي المبيعات في متاجر التجزئة. أمّنت المساقات التي يرعاها صنّاع السلع التي تبيعها ديلاردز لمندوبي المبيعات معلومات حول مزايا منتجات كل شركة كبرى ذات علامة تجارية معروفة. حصل مندوبو المبيعات على عمولات، ممّا منحهم الحافز لتعلّم كيفية بيع المزيد، بينما منحت الشركات الكبرى التي طوّرت التدريب مندوبي المبيعات حسومات على منتجاتها، بناءً على عدد المساقات التدريبية التي كان الموظفون قد حصلوا عليها. وبما أنّ المساق التدريبي الواحد لم يكن يزيد على 20 دقيقة، فإنّ العديد من هؤلاء المندوبين استكملوا أكثر من مساق واحد.
بعد جمع البيانات حول تاريخ التدريب، وإنتاجية المندوبين في مجال المبيعات على مدار عامين، وعدد سنوات خبرتهم وغير ذلك من العوامل المؤثرة المذكورة آنفاً، أنشأنا نموذجاً لتقويم مدى تأثير التدريب. وجدنا أنّه في مقابل كل مساق تدريبي على الإنترنت حصل عليه مندوبو المبيعات، ازدادت نسبة مبيعاتهم بواقع 1.8%. وبما أنّ التدريب كان طوعياً، لم يشارك جميع مندوبي المبيعات فيه، لكنّ المعدّل الوسطي للمبيعات في الساعة للأشخاص الذين تلقّوا التدريب ارتفعت بنسبة لافتة بلغت 46% مقارنة مع مبيعات المندوبين الذين امتنعوا عن الحضور. كما أنّ المندوبين الذين حضروا التدريب كانوا أصلاً يحققون قدراً أعلى من المبيعات في الساعة مقارنة مع من لم يحضروه، وهذا تسبّب تقريباً بنصف الفَرْق البالغ 46%. لكنّ مقارنة نسب المبيعات قبل التدريب وبعده أظهرت أن التدريب تسبّب ببقيّة الفَرْق. وبما أنّ المندوبين درسوا المساقات ضمن وقتهم الشخصي، فإنّ معظم هوامش الأرباح الإجمالية من التدريب على الإنترنت دخلت في خانة الأرباح الصافية.
وبهدف دراسة العوامل التي حفّزت على الوصول إلى هذه النتائج الإيجابية، أجرينا مسحاً شمل أكثر من 800 مندوب مبيعات ممّن حصلوا على التدريب. أفاد هؤلاء أن المنفعتين الأساسيتين من التدريب كانتا الثقة الأكبر بقدرتهم على البيع، والمعرفة الأكبر بمواصفات المنتج عموماً، وهذه معرفة كان بوسعهم وضعها موضع التطبيق العملي عند بيع منتجات أخرى ضمن الفئة ذاتها. في الحقيقة، اتّضح من نتائجنا أنّ تأثيرات التدرّب على علامة تجارية محدّدة امتدّت لتشمل علامات تجارية أخرى. فالتدرّب على بيع أحذية "نيو بالانس" (New Balance)، مثلاً، لم تقد إلى زيادة مبيعاتها فقط، وإنما مبيعات جميع الأحذية الرياضية أيضاً.
في مقابل كل مساق تدريبي على الإنترنت حصل عليه مندوبو المبيعات، ازدادت نسبة مبيعاتهم بواقع 1.8%. كما سجّل المعدّل الوسطي للمبيعات في الساعة للأشخاص الذين تلقّوا التدريب ارتفاعاً بنسبة لافتة بلغت 46% مقارنة مع مبيعات المندوبين الذين امتنعوا عن الحضور.
أخيراً، أردنا أن نفهم ما إذا كانت منافع التدريب موحّدة لدى جميع المندوبين، وإذا كانت الإجابة بالنفي، من هم الأشخاص الذين حققوا الاستفادة القصوى من التدريب. هل أصبح "النجوم اللامعون" أكثر تألقاً، أو هل ساعد التدريبُ أصحابَ الأداء الأضعف في تحسين أدائهم، ليساعد بذلك في تحقيق التكافؤ؟ قبل التدريب، قسّمنا مندوبي المبيعات ضمن أربع مستويات بحسب سجلاتهم السابقة، حيث وضعنا كبار الباعة في المستوى الأول، بينما وضعنا ذوي المهارات الضعيفة في البيع في المستوى الرابع. يُظهر تحليلنا للنتائج أنّه في مقابل كل مساق تدريبي حصل عليه المندوبون، زاد المندوبون الذين ينتمون إلى المرتبة العليا مبيعاتهم بمقدار 1.6% (وهو قريب جدّاً من المعدّل الوسطي لجميع المندوبين والبالغ 1.8%). أمّا الفائدة بالنسبة للمندوبين في المستوى الثاني فقد بلغت 4.2%، أي أكثر من ضعفي المعدّل الوسطي. أمّا بالنسبة لمن يَشْغَلُون المستوى الثالث فقد بلغت نسبة المنفعة 1.4%. لكنّ التدريب لم يكن له أثر على أداء مندوبي المبيعات الذين كانوا في القاع. من الواضح أن التدريب يمكن أن يساعد أفضل مندوبي المبيعات وأن يُعطي دفعة إيجابية قوية لمبيعات المندوبين التوّاقين إلى التحسين. وإذا ما راقبتم النتائج، بوسعكم أيضاً أن تحدّدوا الموظفين الذين يجب أن يُنقلوا إلى مناصب أخرى ضمن الشركة أو أن يُسرّحوا منها.
توفير التدريب على المنتجات وإنجاز العمليات هو جزء من استراتيجية أوسع نؤمن نحن بها، ألا وهي النظر إلى موظفي المتاجر بوصفهم من أصول الشركة الأساسية التي يجب تعظيمها، وليس تكلفة يجب تقليلها إلى الحدّ الأدنى. دافعت زينب تون بطريقة مقنعة بأنّ معاملة العمّال بالحسنى هي طريقة مربحة لجميع الأطراف. وأظهرت دراسة حديثة في "غاب" (Gap) أنّ إحدى طرق فعل ذلك، والمتمثلة بإعطاء الموظفين جداول زمنية متسقة ويمكن التنبؤ بها بشكل أكبر، أفضت إلى زيادة كبيرة في الإيرادات. وفي مقابلة نشرت في الآونة الأخيرة في "هارفارد بزنس ريفيو"، كشف رئيس "وول مارت" في الولايات المتحدة الأميركية أن سلاسل متاجر التجزئة الكبيرة، التي تعرّضت لسهام النقد لسنوات طويلة بسبب طريقة معاملتها لعمّالها، تصلها الرسالة، وقد عملت على تحسين الأجور والمنافع، إضافة إلى توفير التدريب على العمليات الإجرائية.
من المنتظر على نطاق واسع استمرار هلاك متاجر التجزئة التقليدية خلال العقد المقبل. فقد تنبأت دراسة حديثة لـ "يو بي إس" (UBS) أنّه بحلول 2025، سيكون 30 ألف متجر إلى 80 ألفاً قد أغلقت أبوابها في الولايات المتحدة الأميركية. كما سيتزايد عدد السلاسل التي ستتوقف عن العمل. وما لم تغيّر متاجر التجزئة طريقة توظيفها لعمّالها، وتحديد جداولهم الزمنية، وتدريبهم، فإنّها معرّضة لخطر أن تكون بين صفوف الضحايا. المقاربة التي نقترحها ليست معقّدة، وهي تثمر نتائج فورية تقريباً. وقد حان الوقت لكي يتخلّى أصحاب متاجر التجزئة عن الطرق القديمة وغير الفاعلة في العمل، ولكي يدركوا أنّ موظفي المتجر هم واحد من أفضل الأسلحة في معركتهم لاستقطاب المستهلكين.