خبير اقتصادي يشرح ما يمكن وما لا يمكن لمكافحة الاحتكار فعله

6 دقائق

تعتبر "الشركات الاحتكارية" مشكلة تعاني منها أميركا، وذلك وفق ما تنادي به مجموعة متنامية من المنتقدين. وتحدّث عن هذه المشكلة كل من جوزيف ستيغليتز، الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، وإليزابيث وارين، عضو مجلس الشيوخ من الحزب الديموقراطي. كما قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن شركة أمازون أنها "شركة احتكارية لا تدفع الضرائب". لذلك، يعود النقاد والسياسيون والمفكرون للاهتمام مجدداً بسياسة مكافحة الاحتكار.

ولكن، هل تحكم الشركات الاحتكارية أميركا فعلاً؟ وهل مكافحة الاحتكار هي الحل؟ للحصول على بعض الإجابات، أجريت اتصالات هاتفية ومحادثات عبر البريد الإلكتروني مع كارل شابيرو، أستاذ في كلية هاس للأعمال ضمن جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وخبير في مكافحة الاحتكار، كما عمل في وزارة العدل أثناء الفترات الرئاسية لباراك أوباما وبيل كلينتون، وفي مجلس المستشارين الاقتصاديين في عهد الرئيس أوباما.

يراجع شابيرو في بحثه الجديد أدلّة على تنامي التكتلات في الاقتصاد الأميركي، ويناقش اعتبار ذلك تراجعاً في التنافس ويحدد الدور الذي تمارسه مكافحة الاحتكار بحسب وجهة نظره. وأُورد في ما يلي مقتطفات من محادثتي معه، بعد تنقيحها بهدف الاختصار والتوضيح.

بشأن توقيت بحثه، "مكافحة الاحتكار في زمن الشعبوية":

يقول شابيرو: كان لانتخاب ترامب لرئاسة الولايات المتحدة دور في القيام بالبحث، ولكن الأمر أكبر من ذلك. أثناء انتخابات عام 2016 كان كلا الحزبين يقولان أنّ النظام مزوّر وأنّ ترامب لم يكن نزيهاً. وتوجه هذا الاتهام نحو الحكومة بصورة جزئية، ولكنه كان أيضاً موجهاً نحو الأعمال. ويبدو أنّ قلّة من الأميركيين يعتقدون أنّ الشركات الضخمة ذات النفوذ تتحكم بالنظام، وأنّ عامة الشعب والشركات الصغيرة لا تنال فرصاً عادلة.

وعلى وجه التحديد، تحدّث القليل من الصحافيين ومحللي السياسات والسياسيين عما يعتبرونه تراجعاً في التنافس بأميركا على مدى الأعوام الثلاثين أو الأربعين الماضية. وقمت بدراسة هذا الموضوع بالتفصيل في بحثي. ويلفت ادّعاءهم هذا انتباهنا إلى السؤال عما إذا كانت سياسة مكافحة الاحتكار قد خذلتنا نوعاً ما.

بشأن التكتلات الصناعية المتزايدة وما إذا كان ذلك يشير إلى تراجع التنافس:

في الحقيقة لسنا مهتمين بالتكتلات نفسها. فنحن نستخدمها كمؤشر للمنافسة في السوق. وأنا أقضي وقتاً طويلاً من بحثي في دراسة البيانات وأتساءل ما إذا كانت التكتلات في الأسواق الأميركية ازدادت فعلياً بصورة كبيرة على مدى الأعوام العشرين أو الثلاثين الماضية. ولكن هناك مشاكل كبيرة تتعلق بالمقاييس، وعندما نتفحص البيانات بدقة أكبر، نجد أنّ أغلب ما قيل عن التغييرات في التكتلات ليس له قاعدة سليمة. في غضون ذلك، لاحظت بعض التزايد في التكتلات ولكنه لا يصل إلى المستويات التي تدلّ على وجود عدد كبير من الشركات الاحتكارية أو حتى وجود تكتلات احتكارية متماسكة.

ولكن السؤال الأهم هنا هو: كيف نتصرف حيال تزايد أحجام التكتلات التي نراقبها؟ يوجد تفسيرين متباينين للأمر. أحدهما، هو أنّ ازدياد التكتلات في السوق يعني أنّ التنافس فيه أقل، وبذلك تكون المشكلة. وهذه ليست نظرية جديدة، إذ أنها كانت شائعة جداً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ويبدو أنّ هناك الكثير ممن يؤمنون بها دون الإدراك حقاً أنّ هناك وجهة نظر بديلة أكثر تماسكاً تقول أنّ سبب تزايد التكتلات يرجع لوفورات الحجم المتنامية. ما يعني أنّ الشركات الأكبر تكون أكثر كفاءة من الشركات الأصغر. وبذلك ستتغلب الشركات الكبيرة على منافساتها الصغيرة مع مرور الوقت. هذا ما يحدث بصورة طبيعية عندما تتنافس الشركات بوجود وفورات حجم ضخمة. وعندما يكون لديك وفورات حجم متنامية وتكون بعض الشركات أكثر كفاءة من غيرها، ستنمو الشركات ذات الكفاءة الأكبر وستصبح هي المسيطرة وستلاحظ تزايد التكتلات بوضوح. أضف إلى ذلك أنه من المنطقي لدى الاقتصاديين في المؤسسات الصناعية نشوء التكتلات في الكثير من الأسواق بصورة طبيعية. وبذلك يكون التفسير البديل هو أنه من الممكن أن يكون ما نراه اليوم من تكتلات متنامية، ما هو إلا تجسيداً للعملية التنافسية الدائرة.

بشأن الدور الأمثل لمكافحة الاحتكار والمبادئ المتبعة:

تُعد مكافحة الاحتكار موضع تلاق حزبي في الولايات المتحدة طويلة الأجل وقائمة على مبادئ راسخة، تتقيد بها وكالات تنفيذ مكافحة الاحتكار بالإضافة إلى المحامين الخاصين وأنظمة الاقتصاد المناهضة للاحتكار والمحاكم، واتفق عليها كل من يعمل في هذا المجال على مدى 50 عاماً، حتى أننا صدّرناها إلى جميع أنحاء العالم. ولكن المفاجأة هي أنّ هذه المبادئ طُرحت للنقاش من جديد. فقد بدأ الناس يشككون بها، ولكنهم باعتقادي لا يقدمون قاعدة منطقية لهذه الشكوك ولا حتى بديلاً قابلاً للتنفيذ.

إذاً، ما هي هذه المبادئ؟ يعتبر المبدأ الأساسي لمكافحة الاحتكار أنّ الهدف من هذه المكافحة هو ضمان استفادة المستهلك من القوى المتنافسة. وذلك يعني عدة أمور: أولاً، يتوجب ضمان عدم إنهاء المنافسة من قبل عمليات الاندماج. ثانياً، لا يمكننا السماح لشركات التكتلات الاحتكارية بالتواطؤ بدلاً من التنافس. ثالثاً، لا يمكننا السماح للشركات الكبيرة القوية أن توجّه ضربة لمنافسيها الذين يشكلون تهديداً لها أو تستبعدهم. فالقاسم المشترك هنا هو أنّ مكافحة الاحتكار تمنع الشركات من القيام بأشياء تعرقل العملية التنافسية وتضرّ المستهلك، سواء بمفردها أو كمجموعات. إذاً، هذا هو المبدأ الأساسي الذي نحاول تحقيقه عن طريق مكافحة الاحتكار.

والآن لنضع ذلك مقابل أمرين لا نقوم بهما. الأول، هو أنّ مكافحة الاحتكار لا تفكك ولا تنظّم شركة ما لمجرد أنها أصبحت كبيرة أو ذات نفوذ، فهناك قوانين وقيود تنظيمية أخرى تقوم بذلك. وإذا وجدنا أنّ صناعة ما تشكل احتكاراً بصورة طبيعية، لن يجدي التنافس في تلك الصناعة نفعاً. عندئذ، يجب أن نلجأ لقانون السعر أو معدل العائدات، وهذا ما نفعله مع شركات الخدمات العامة، لأن مكافحة الاحتكار لا تعاقب الشركات على نجاحها حتى إن أصبحت مسيطرة. في بعض الأحيان يكون هناك شركة واحدة ناجحة جداً وتكتسب موقعاً مسيطراً في السوق، حينها ستقبل مكافحة الاحتكار نجاحها على اعتباره جزءاً من عملية التنافس طالما أنّ هذه الشركة لا تستبعد منافسيها أو تشارك في الاحتكار. وذلك وفقاً لقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار الصادر عام 1980، والذي يجرّم الاحتكار فقط، وليس الشركة الاحتكارية. ثانياً، لا تحمي مكافحة الاحتكار الشركات الصغيرة من منافسة الشركات الكبيرة لها، لأنها تسعى لتحرير قوى التنافس وليس خنقها. على مدى أكثر من 100 عام، كانت هناك نزعات سياسية لحماية الشركات الصغيرة. ولكن إذا اعتبرنا ذلك هدفاً اجتماعياً هاماً، ينبغي علينا السعي لتحقيقه عن طريق وسائل مختلفة كنظام الضرائب أو القيود التنظيمية وليس عن طريق مكافحة الاحتكار.

تفاجئني درجة تشابه المناقشة الحالية والمناقشات التي جرت قبل 50 عاماً، أو التي جرت قبل 100 عام أيضاً. وكأن هناك دورة كل 50 عاماً تثور فيها مشاعر هؤلاء الشعبويين ويطالبون بمكافحة الاحتكار وإيجاد حلول لمشاكل معينة لا علاقة لها بالتنافس أساساً.

بشأن المشاكل التي لا تناسبها مكافحة الاحتكار:

تُعد أهم هذه المشاكل هي النفوذ السياسي المفرط للشركات الضخمة. أي نفوذها في اختيار المشرعين والتأثير على الكونغرس في ما يتعلق بقواعد التنفيذ، بدءاً من الأنظمة البيئية وصولاً إلى أنظمة العمل وقوانين الضرائب. ويخطر لي في بعض الأحيان أنّ تلك مشكلة كبيرة، وأنها بالفعل جزء من مشكلة أكبر، وهي الفساد المتفشي، حيث أصبح للمال نفوذ هائل في السياسة. ولست وحدي من يقلقه هذا الشأن، ولكن لا يمكن لمكافحة الاحتكار حلّ هذه المشكلة. بل يجب معالجتها عن طريق إصلاح تمويل الحملات الانتخابية وإيجاد شفافية أكبر وتعريف قانوني أوسع للفساد، وقيود تنظيمية أخرى تتوازى مع هذه المسارات.

أما المشكلة الكبيرة الثانية التي يطالب الناس الناس بحلها عبر مكافحة الاحتكار هي عدم المساواة في الدخل والثروات. وبصورة طبيعية، تساعد مكافحة الاحتكار الفعالة نوعاً ما في موضوع عدم المساواة لأنها تحمي المستهلك، ولكن لا يمكن أن تكون هي أساس حل هذه المشكلة. بل يجب أن يكون الحل مرتكزاً على نظام الضرائب وأنظمة أساسية أخرى كنظام الرعاية الصحية والتعليم.

بالنسبة إلى تنظيم المنفعة العامة، أو بعض الخطط التنظيمية الهامة الأخرى للحد من استقلالية الشركات التقنية الكبرى:

نحن الآن في مرحلة يكثر الحديث فيها عن هذا الأمر، ولا أظن أنه سينتهي قريباً. لست معارضاً بطبيعتي لصيغ معينة من القوانين التنظيمية إن كانت مصممة بصورة جيدة. ولكنني ببساطة أطالب ممن يقترح هذه القوانين أن يخبرنا: ما هي المشكلة التي يحاول حلها بالتحديد؟ وأي جهة ستضع هذا القانون؟ وكيف يمكن ضمان عدم الاستيلاء على هذه الجهة؟ وهل سيكون العمل بهذه القوانين ممكناً؟ على الرغم من أنّ القوانين البيئية والصحية وقوانين السلامة ناجحة جداً واستطاعت إنقاذ الكثير من الأرواح، إلا أننا على مدى 50 عاماً استنتجنا خلال تجارب مجموعة متنوعة من الصناعات أنّ القوانين المنظمة للأسعار والدخول والخروج غالباً ما تكون أموراً غير مجدية، والقوانين المنظمة لشركات الطيران هي خير مثال على ذلك، علماً أنها أُلغيت منذ 40 عاماً.

نعود إلى الشركات التقنية الحالية، وأحد الأمثلة عن مشكلاتها هو ضرورة كشف الدعايات السياسية ومن يدفع تكاليفها. لم لا؟ يبدو ذلك جيداً. ربما تكون هناك بعض المشاكل التقنية ولكنها تبدو فكرة حسنة حقاً. وهناك عدة قوانين متعلقة بتحكم المستخدمين بمعلوماتهم الشخصية ونشاطاتهم على الإنترنت، وهذه مشكلة أتوق لحلها أيضاً.

تتزايد شكوكي عندما يُفصح الناس عن مخاوف عامة حول نفوذ الشركات التقنية الضخمة ويأملون أن تقوم القوانين بمراقبة هذا النفوذ. خذ فيسبوك مثلاً، من الواضح أنها شركة ضخمة ذات نفوذ أسس على شبكتها الاجتماعية الهائلة. ولكن أيّ المشكلات يمكن للقوانين حلّها، وعن أيّ قوانين نتحدث بالتحديد؟ إذا كان هناك من يودّ اقتراح قانون واسع النطاق وقابل للتطبيق على شركة فيسبوك، فأنا كلي آذان صاغية. ولكن لا أظن أنه من السهل التحكم بالقوة الاقتصادية للشركة التقنية الضخمة عن طريق القوانين، إنما أفضل طريقة لفعل ذلك هي الحرص على إخضاعها لقوى المنافسة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي