لطالما كنا مفتونين بفكرة العوامل التي تصنع القادة وذلك في سعينا المستمر للمعرفة؛ فلماذا يبدو بعض الأشخاص قادرين على إلهام الآخرين بالثقة والولاء والعمل الجاد بشكل طبيعي، بينما لا يمكن لآخرين ممن لديهم القدر نفسه من الرؤية والذكاء القيام بذلك؟ يخطر هذا السؤال على البال بشكل مستمر لكن لا الإجابة عنه بسيطة، إلا أننا نؤمن أن الإجابة تتصل بشكل أو بآخر بالطرق المختلفة التي يواجه فيها الناس الشدائد. وفي الواقع، قادنا بحثنا الأخير إلى خلاصة مفادها أن قدرة الفرد على إيجاد المغزى في الأحداث السلبية والتعلم من أكثر الظروف صعوبة تشكّلان أحد أكثر المؤشرات والتوقعات الموثوق بها على القيادة الحقيقية. بمعنى آخر، فإن المهارات اللازمة للتغلب على الشدائد والنهوض منها أقوى وأكثر التزاماً هي نفسها المهارات التي تصنع القادة الاستثنائيين.
ولننظر إلى ما حصل مع رجل الأعمال سيدني هارمان. شغل هارمان منذ 34 عاماً منصبين تنفيذيين، وكان يبلغ من العمر وقتها 48 عاما، حيث كان الرئيس التنفيذي لشركة معدات الصوت التي شارك في تأسيسها هارمان كاردون (هي حالياً شركة "هارمان إنترناشيونال")، وأيضاً رئيس لمدارس الأصدقاء المعروفة باسم فريندز أوف وورلد كوليج، (حالياً: "برنامج فريندز وورلد")، وكانت كائنة في جزيرة لونغ آيلاند بالولايات المتحدة وتقوم فلسفتها على أن الطلاب، لا الأساتذة، هم المسؤولون عن تعليم أنفسهم. وكان هارمان يتنقل بين الوظيفتين ليعيش ما دعاه "الحياة المنقسمة"، إذ كان يغير ملابسه في سيارته ويتناول الغداء فيها خلال تنقله بين مكاتب هارمان كاردون ومصانعها وحرم فريندز وورلد. وفي أحد الأيام، وخلال حضوره في الجامعة، بلغه أن مصنع شركته الواقع في بوليفار بولاية تينيسي يعاني من أزمة.
هرع هارمان على إثره إلى مصنع بوليفار والذي كان منشأة "قبيحة وبشعة وسيئة من نواح كثيرة" على حد تعبيره ليجد أن المشكلة حدثت في قسم الصقل والتلميع، والذي يتألف من طاقم يزيد عن العشرة، أغلبهم من الأميركيين الأفارقة، ممن يقومون بأعمال شاقة للغاية تتمثل في تلميع المرايا وصقلها وما إلى ذلك في ظروف غير صحية غالباً. وكان من المفترض أن يحصل الرجال في المناوبة الليلية على استراحة قهوة في الساعة 10 مساء. وعندما رن الجرس المعلن عن تلك الاستراحة، قررت الإدارة بشكل تعسفي تأجيلها عشر دقائق أخرى سيُعلن عنها مع صوت جرس آخر. لكن كان لأحد أولئك العمال، "وهو رجل يدعى (نوح كروس)" رأياً آخر، بحسب هارمان والذي يضيف، "إذ قال لزملائه حرفياً، (أنا لا أعمل لدى الجرس، بل الجرس من يعمل لدي. يجب على مكان عملي أن يبلغني متى تكون الساعة العاشرة أو يمنحني ساعة يد. لن أنتظر عشر دقائق أخرى، سأذهب إلى استراحتي). ونال هو وباقي العمال الاثني عشر استراحتهم، إنما فتح ذلك بالطبع أبواب الجحيم".
وأوحى تمرد العامل المستند إلى مبدأ رفضه الخضوع لقاعدة الإدارة التي لا معنى لها لهارمان بشيء ما، حيث يضيف: "يجب توظيف التقنية لخدمة الناس، لا العكس. أدركت وقتها فجأة أن كل ما كنت أفعله في الجامعة قابل للتطبيق إلى حد كبير على قطاع الأعمال التجارية". وقام هارمان في السنوات التي تلت ذلك بتجديد المصنع وأعماله، محولاً إياه إلى شكل مشابه للحرم الجامعي، إذ باتت هناك دروس تُقدّم في المبنى، ومنها دروس بيانو، فضلاً عن تشجيع العمال على تحمل معظم المسؤولية فيما يتعلق بإدارة مكان عملهم. كما عمل أيضاً على إنشاء بيئة متسامحة مع المعارضة، وحتى مشجعة لها، حيث أعطت صحيفة بوليفار ميرور النابضة بالحياة والخاصة بالمصنع منفذاً إبداعياً وعاطفياً للعمال والذين قاموا بمدح هارمان بحماس على صفحاتها.
كان هارمان، بشكل غير متوقع، رائداً في الإدارة التشاركية، وهي حركة تواصل وضعت بصمتها على أماكن عمل متعددة حول العالم. ويقول هارمان إن الفكرة لم تكن فكرة عظيمة وُلدت من رحم مكتب رئيس تنفيذي وفُرضت على المصنع، بل نتجت بشكل عفوي من ذهابه إلى بوليفار، إذ كان إخماد تلك النيران سبب التحول الذي حصل مع هارمان والذي كان تحولاً إبداعياً. لقد قام هارمان بالربط بين فكرتين لا رابط بينهما ظاهرياً ليُنشئ مقاربة مختلفة جذرياً في الإدارة تعترف بكل من المزايا الاقتصادية والإنسانية لجعل مكان العمل مكاناً أكثر جماعية. وخطا هارمان خطوات أكثر خلال حياته المهنية، إذ شغل، بالإضافة إلى تأسيس هارمان إنترناشيونال، منصب نائب وزير التجارة في عهد جيمي كارتر. لكنه كان ينظر دائماً إلى الحادث الذي وقع في بوليفار على أنه الحدث الذي جعله ما هو عليه الآن في حياته المهنية، وحوله إلى اللحظة التي بات فيها قائداً.
وتعتبر تفاصيل قصة هارمان فريدة من نوعها، إلا أن الطابع العام لها ليس كذلك. فعند إجراء مقابلات مع أكثر من 40 من كبار القادة في قطاع الأعمال والقطاع العام على مدار السنوات الماضية، فوجئنا عندما اكتشفنا تعرضهم جميعاً – شيباً وشباناً – إلى تجارب شديدة، وغالباً ما تكون مؤلمة وغير مخطط لها، حولتهم إلى ما هم عليه الآن، وكانت السبب وراء قدراتهم القيادية المميزة.
وقررنا أن ندعو التجارب التي تشكل القادة باسم "البوتقات" تيّمناً بالأوعية التي كان يستخدمها الكيميائيون في العصور الوسطى في محاولاتهم لتحويل المعادن الأساسية إلى ذهب. وبالنسبة للقادة الذين قابلناهم، كانت التجربة هي البوتقة التي شكلت لحظة الحقيقة والاختبار العملي لهم، وكانت نقطة للتأمل الذاتي العميق الذي أجبرهم على أن يطرحوا أسئلةً على أنفسهم حول من يكونون وما الذي يهمهم. لقد تطلب منهم ذلك فحص قيمهم والتشكيك في افتراضاتهم وصقل حكمهم. وكانوا دائماً يخرجون من تلك البوتقات أقوى وأكثر ثقة في أنفسهم وأهدافهم مع خضوعهم لتغيير جوهري في داخلهم.
ويمكن لبوتقات القيادة أن تتخذ أشكالاً متعددة؛ منها ما هو عنيف كتعرض أولئك الأشخاص لأحداث تهدد حياتهم، ومنها ما هو واقعي مثل التشكيك في النفس. ولكن مهما كانت طبيعة البوتقة، كان الأشخاص الذين تحدثنا إليهم قادرين على الحديث عن تلك القصة وإعداد سرد متصل بها وذكر التحدي الذي تعرضوا له وكيف حاولوا التعامل معه وأصبحوا قادة أفضل. وعندما درسنا هذه القصص، وجدنا أنها أخبرتنا كيف يتشكل القادة الأفراد من ناحية، ومن ناحية أخرى ذكرت بعض الخصائص التي تبدو مشتركة بين جميع القادة، وهي خصائص تشكّلت، أو على الأقل كُشف عنها، في البوتقة.
التعلم من الاختلاف
تعتبر البوتقة، بحكم تعريفها، تجربة تحوليّة يخوضها الفرد ليصل إلى إحساس جديد أو متغير بالهوية. وربما ليس من المستغرب إذن أن تتضمن إحدى أكثر أنواع البوتقات شيوعاً التي وثقناها تجربة التعرض للتحيز. ويعتبر وقوع الفرد ضحيةً للتحيز أمراً مؤلماً بشكل خاص لكونه يجبره على مواجهة صورة مشوهة عنه، والتي غالباً ما تطلق العنان لمشاعر عميقة من الغضب والحيرة وحتى الانعزال. لكن تعتبر تجربة التعرض للتحيز حدثاً يُري المرء الدرب على الرغم من كل الصدمات التي قد تسببها، إذ تجعل من يتعرضون لها قادرين على اكتساب نظرة أوضح حيال أنفسهم، والدور الذي يلعبونه، ومكانتهم في العالم.
لنتأمل، على سبيل المثال، ليز التمان، والتي تشغل الآن منصب نائبة رئيس شركة موتورولا. وحصلت عملية التحوّل معها خلال السنة التي أمضتها في مصنع سوني لكاميرات الفيديو في ريف اليابان، حيث واجهت كل من القطيعة والتمييز بحسب النوع، إذ تقول، "كانت إلى حد بعيد أصعب شيء قمت به على الإطلاق". كانت ثقافة تلك البلاد، وبخاصة تركيزها على الجماعية بدل الفردانية، بمثابة صدمة وتحد لامرأة أميركية شابة، إذ شعرت بالغربة في عالم بعيد، فضلاً عن أنه كان عليها أن تواجه الاحتمال المرعب المتمثل في إثبات نفسها بصفتها المهندسة الوحيدة في المصنع وضمن بلاد فيها تعمل النساء عادة كمساعدات وفي السكرتاريا ويُعرفن باسم "سيدات المكاتب".
ونصحت امرأة أخرى جاءت إلى اليابان في ظل ظروف مماثلة التمان أن السبيل الوحيد لكسب احترام الرجال متمثل في تجنب التحالف مع سيدات المكاتب. ولكن في صباح أول يوم عمل لها، وعندما رن جرس استراحة القهوة، وجدت الرجال يتجهون إلى مكان والنساء إلى مكان آخر، مع قيام النساء في الوقت نفسه بترك مقعد فارغ لها على مائدتهن وعدم قيام الرجال بذلك. وأشارت غريزة التمان عليها بتجاهل التحذير بدلاً من إهانة النساء برفض دعوتهن.
وخلال الأيام القليلة التي تلت تلك الحادث، واصلت التمان الانضمام إلى النساء خلال فترات الاستراحة، وهو الخيار الذي منحها ملاذاً مريحاً أمكنها من خلاله ملاحظة ثقافة المكتب غير المألوفة. لكن لم يستغرق بها الأمر طويلاً لتلاحظ أن بعض الرجال أمضوا فترة الاستراحة في مكاتبهم في قراءة المجلات لتقرر بدورها أن في إمكانها القيام بالأمر ذاته أحياناً. وأخيراً، وبعد إنصاتها الشديد للمحادثات حولها، علمت أن العديد من الرجال مهتمون بركوب الدراجات الجبلية. وقامت التمان بالتواصل معهم طلباً للمشورة على اعتبار أنها كانت تريد شراء واحدة. وهكذا، وبمرور الوقت، قدمت نفسها كشخص غير منتم إلى مجموعة معينة، حيث كانت تجلس مع النساء أحياناً ومع الرجال أحياناً أخرى.
وصدف أن كانت واحدة من النساء اللاتي جلسن معها في يومها الأول، وهي سكرتيرة في القسم، متزوجة من أحد المهندسين. وأخذت السكرتيرة على عاتقها دعوة التمان إلى التجمعات الاجتماعية، وهو تحول في الأحداث ربما لم يكن يحدث لو أن التمان انعزلت عن زميلاتها في العمل في اليوم الأول، وتضيف: "لو جلست مع الرجال وقتها ولم أنظر إلى النسوة كحليفات، لما حدث ما حدث".
وبتذكر ما حدث، تؤمن التمان أن التجربة ساعدتها إلى حد كبير على اكتساب إحساس أوضح بنقاط قوتها وقدراتها الشخصية، وأعدتها للمواقف الصعبة الأخرى، إذ علّمتها فترة عملها في اليابان أن تراقب عن كثب وأن تتجنب القفز إلى الاستنتاجات بناء على الافتراضات الثقافية، وهي مهارات لا تقدر بثمن ومفيدة جداً لها في منصبها الحالي في موتورولا، حيث تقود الجهود لترسيخ التحالفات مع ثقافات الشركات الأخرى، بما في ذلك ثقافات عمليات موتورولا الإقليمية المختلفة.
كما أضحت التمان مؤمنة تماماً أنها لم تكن لتقدر على القيام بعملها في موتورولا لو لم تعش في بلد أجنبي وتعاني من اختلاف الثقافات، حيث تضيف: "حتى لو كنت جالساً في نفس الغرفة تتابع بالكامل ما يحدث، قد يفوتك الكثير في حال لم تكن تفهم الإطار المرجعي". وتُرجع التمان أيضاً بناء ثقتها في نفسها إلى البوتقة أيضاً، حيث تشير أنها باتت تشعر أن في إمكانها التعامل مع أي شيء يعترض طريقها.
ويمكن أن يشعر الناس بالإهانة من الاختلافات الثقافية حتى ضمن بلدانهم كما حصل مع موريل ("ميكي") سيبرت، أول امرأة تشغل مقعداً في بورصة نيويورك للأوراق المالية. تعرضت موريل للبوتقة في وول ستريت في الخمسينيات والستينيات، حيث كانت وول ستريت وقتها ساحة متحيزة بالنسبة للنوع لدرجة أن سيبرت لم تتمكن في البداية من الحصول على عمل كوسيط للأوراق المالية، ما اضطرها لإزالة اسمها الأول من سيرتها الذاتية ووضع اسم لا يدل على جنسها للحصول على عمل. كان عدد النساء قليلاً ومنعزلاً ضمن مناصب مثل السكرتاريا وبعض عمليات التحليل العرضية.. لكن لم يكسر ذلك سيبرت أو يهزمها، بل جعلها أقوى وأكثر تركيزاً وتصميماً على تغيير الوضع الراهن الذي استبعدها.
وعندما قابلنا سيبرت، وصفت لنا طريقتها في التعامل مع الأمر، إذ كانت تواجه هذه الحالة بطريقة من شأنها التقليل من قسوة التعليقات الهدامة لأقرانها من دون تدمير علاقتها بهن والضرورية لأداء عملها بفعالية. فوفقاً لسيبرت، كان جزءاً من ممارسة الأعمال وقتها تناول بعض المشروبات في فترة الغداء، إذ تضيف: "اسقِ شخصاً ما بعض الشراب، وستراه يتحدث عنك بلطف".
وبسبب عدم قدرتها على الحصول على تقدير لقاء العمل الذي كانت تنجزه لصالح أي من الشركات الكبرى في وول ستريت، قررت الاستحواذ على مقعد في بورصة نيويورك للأوراق المالية والعمل لحسابها الخاص.
وقامت في السنوات اللاحقة بتأسيس شركة موريل سيبرت أند كومباني (المعروفة حالياً باسم "سيبرت فايننشال كوربوريشن") وكرست نفسها لمساعدة الآخرين على تجنب بعض الصعوبات التي واجهتها كمحترفة شابة، حيث عملت كمدافعة بارزة عن النساء في قطاع الأعمال وقائدة في تطوير المنتجات المالية الموجهة إلى النساء، فضلاً عن عملها في مجال تثقيف الأطفال حول الفرص والمسؤولية المالية.
ولم نتمكن من لقاء المحامي والمستشار الرئاسي فيرنون جوردان ليدلي بدلوه هنا، لكنه يقدم بدوره تذكيراً قوياً حول كيف يمكن للتحيز أن يحدث تغييراً كبيراً في شخصية المرء بدلاً من أن يُشعره بالضعف. ففي كتابه "يستطيع فيرنون أن يقرأ! مذكرات" (In Vernon Can Read! A Memoir) (ببلك أفيرز، 2001)، يتطرق جوردان إلى الاستفزاز الكلامي القاسي الذي تعرض له خلال شبابه على يد رب عمله، روبرت مادوكس. عمل جوردان في خدمة عمدة أتلانتا السابق العنصري على العشاء، مرتدياً سترة بيضاء مع منديل على ذراعه، كما كان يعمل في الوقت نفسه سائقاً لمادوكس والذي كان يقول ساخراً كلما أتيحت له فرصة، "يستطيع فيرنون أن يقرأ!" كما لو أن معرفة شاب أميركي من أصل أفريقي للقراءة والكتابة مثيرة للغرابة.
كان التعرض لهذا النوع من سوء المعاملة على يد مادوكس ربما ليتسبب في تدمير رجل آخر. لكن قدّم جوردان في مذكراته تفسيره الخاص لتصرفات مادوكس السادية والتي تسببت في تمكين جوردان بدل أن تتسبب في إزعاجه. فعندما نظر جوردان إلى مادوكس من خلال مرآة الرؤية الخلفية، لم ير عضواً نافذاً في الطبقة الحاكمة في جورجيا، بل رأى مفارقة تاريخية يائسة تتمثل في شخص يقول تلك العبارات حسرة على عصر قد أفل. ويتابع جوردان قائلاً، "كانت تعليقاته نصف الساخرة ونصف الجدية حول تعليمي بمثابة حشرجة الموت لثقافته. عندما رأى أنني كنت أصنع حياة لنفسي من شأنها أن تجعلني رجلاً، كان يشعر بعدم الراحة".
كانت قسوة مادوكس بوتقة جوردان، حيث ساهمت بزيادة معرفته. فبدل رد الهجوم أو الإصابة بالعجز بسبب الكراهية، رأى جوردان سقوط العنصرية البالية في الجنوب الأميركي وتخيل مستقبله المتحرر من القيود التاريخية للعنصرية. لقد أدت قدرته على استخلاص معنى من أزمة محتملة إلى تعرضه إلى بوتقة شكّلت قيادته.
الانتصار على الظلام
تضيء بعض تجارب البوتقة منطقة خفية ومكبوتة من الروح، وتكون هذه التجارب بدورها الأقسى وتكون ناتجة عن التعرض لمرض أو عنف. ففي حالة سيدني ريتنبرغ، والذي يبلغ من العمر الآن 79 عاماً، تمثلت البوتقة التي تعرض لها في الحبس الانفرادي الظالم الذي تلقاه لمدة 16 عاماً في الصين الشيوعية. ففي عام 1949، سُجن ريتنبرج في البداية بلا أي تفسيرات على يد أصدقاء سابقين له في حكومة الرئيس ماو تسي تونغ ليقضي عامه الأول في ظلام مدقع بين عمليات الاستجواب. (علم ريتنبرغ لاحقاً أن اعتقاله جاء بناء على طلب من مسؤولي الحزب الشيوعي في موسكو، الذين ذكروا خطأً أنه عميل لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية). سُجن ريتنبرغ في زنزانة صغيرة مظلمة جداً، لكنه لم يُصب بالاضطراب أو الذعر، بل تذكر بدلاً من ذلك، وفي غضون دقائق، أبيات من قصيدة عرفها عندما كان طفلاً تقول:
لقد رسموا دائرة استبعدتني،
في إهانة سيئة لي،
لكن يجب علينا أنا والحب أن ننتصر،
لذا رسمنا دائرة ودعوناهم إليها!
كانت هذه الأبيات (والمقتبسة من قصيدة "أوتويتد" لإدوين ماركهام) مفتاح نجاة ريتنبرغ والذي قال لنفسه "يا إلهي. سيشكّل هذا استراتيجيتي". ودعا حراس السجن إلى دائرته، حيث طور علاقات من شأنها مساعدته على التكيف مع السجن. وكان يجيد اللغة الصينية، وأقنع الحراس بتسليمه كتباً، وفي النهاية شمعة لكي يتمكن من القراءة. وقرر أيضاً، بعد عامه الأول، أن يكرس نفسه لتحسين فكره ليكون أكثر علمية ونقاء وتكريساً للاشتراكية. لقد اعتقد أنه إذا زاد من وعيه، سيفهمه خاطفوه بشكل أفضل. وكلما جاءته نوبة تفكير سلبية بسبب السنوات التي قضاها في ظلام السجن، يعود ليتذكر القصص الخيالية وقصص الطفولة مثل "ذا ليتل إنجين ذات كود" والتي قدمت له الراحة من رسائلها البسيطة.
وعلى النقيض من ذلك، كان باقي المعتقلين مع ريتنبرغ في السجن إما غاضبين أو منعزلين، حيث يقول عن ذلك، "لقد كانوا يميلون إلى محاولة مناطحة الجدار، ولم ينجحوا. أعتقد أن السبب يعود إلى أنهم لم يفهموا أن السعادة ليست نابعة من ظروفك؛ بل نابعة من نظرتك إلى الحياة".
استمر التزام ريتنبرغ بمثله العليا حتى إطلاق سراحه، إذ فُتح باب زنزانته فجأة في عام 1955 بعد فترة سجنه الأولى التي استمرت ست سنوات. ويضيف، "ظهر أمامي ممثل للحكومة المركزية يخبرني أنه جرى اتهامي بشكل خاطئ، وأن الحكومة تقدم اعتذارها الرسمي لي، وأنهم سيبذلون كل ما في وسعهم لتعويضي". عندما عرض آسروه عليه المال لبدء حياة جديدة في الولايات المتحدة أو أوروبا، رفض ريتنبرغ مفضلاً بدلاً من ذلك البقاء في الصين ومواصلة عمله للحزب الشيوعي.
وحتى بعد الاعتقال الثاني، والذي وضعه في الحبس الانفرادي لمدة عشر سنوات أخرى كرد على دعمه للانفتاح على الديمقراطية خلال الثورة الثقافية، لم يُوهن ذلك من عزيمة ريتنبرغ، حيث قام بدلاً من ذلك باستغلال وقته في السجن كفرصة للتشكيك في نظام معتقداته - وخاصةً التزامه بالماركسية والرئيس ماو، ويقول، "بالنظر لهذا، كان السجن يحررني".
درس ريتنبرغ وقرأ وكَتَب وفكّر وتعلم شيئاً عن نفسه في هذه العملية والتي يقول عنها: "أدركت أنني كنت خائفاً للغاية من أن أكون خائناً لحزبي. هذا الخوف كان قوياً لدرجة أنه منعني حتى من النظر إلى [افتراضاتي]، إذ إنه حتى التساؤل حول هذا يعتبر خيانة. بعد خروجي سقطت المقاييس من عيني وفهمت أن المبدأ الأساسي للوصول إلى الديمقراطية من خلال الديكتاتورية كان خطأً".
وإضافة إلى ما سبق، خرج ريتنبرغ من السجن مؤكداً أنه لا يوجد شيء على الإطلاق في حياته المهنية يمكن أن يكسره، وأنشأ مع زوجته شركة ريتنبرغ أسوشيتس وهي شركة استشارية متخصصة في تطوير العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. واليوم، يلتزم ريتنبرغ بمثله العليا ورأيه بشأن أفضل الطرق للوصول إلى هناك، كما كان قبل 50 عاماً عندما تم اختباره بشدة.
تلبية التوقعات الكبرى
لا تعتبر كل تجارب البوتقات مؤلمة لحسن الحظ. وفي الواقع، يمكنها أن تنطوي على تجربة إيجابية، وإن كانت مثيرة للتحدي، مثل تعرض المرء لمدرب أو لمعلم متطلب. فعلى سبيل المثال، يعزو القاضي ناثانيل جونز من محكمة الاستئناف الأميركية للدائرة السادسة الكثير من نجاحه إلى تفاعله مع معلمه الرائع، ماينارد ديكرسون، المحامي الناجح وأول مدع عام أسود البشرة في الولايات المتحدة ورئيس تحرير جريدة أميركية-إفريقية محلية.
كان تأثير ديكرسون على جونز متعدد المستويات، حيث قام الرجل الأكبر سناً على سبيل المثال بأخذ جونز وراء الكواليس ليشهد بأم عينه النضال العظيم للحقوق المدنية في الخمسينيات، كما دعاه لمشاطرة الطاولة والمحادثات مع نشطاء مثل ثورجود مارشال ووالتر وايت وروي ويلكنز وروبرت ويفر. يقول جونز، "لقد صدمني تصميمهم، وروح دعابتهم وعزمهم على عدم السماح للظروف بتغييرهم، حيث عملوا على تغيير الواقع بدل من الشعور بالانهزام". لقد ألقت التجربة بلا شك بظلالها على العديد من الآراء الهامة التي كتبها القاضي جونز فيما يتعلق بالحقوق المدنية.
كان ديكرسون قدوة ومدرباً في آن معاً، حيث غطت دروسه كل جانب من جوانب نمو جونز الفكري ورؤيته لذاته، بما في ذلك تعليمه ما نسميه الآن "الذكاء العاطفي". وضع ديكرسون أمام جونز أعلى المعايير الممكنة، لاسيما في مجال مهارات الاتصال والتي نراها بدورنا ضرورية للقيادة. قام ديكرسون بإجراء عمليات تحرير لمحاولات جونز المبكرة لكتابة عمود رياضي بقسوة هادئة مستخدماً قلماً لونه أحمر، كما يتذكر جونز حتى يومنا هذا، مضيفاً أن النسخة المنقحة كانت تبدو وكأنها "ساحة حرب مضرجة بالدماء" كما يضيف. كما كان يشرح له بالتفصيل كل خطأ ولماذا يُرى كذلك.
وكان مرشده أيضاً يتوقع من جونز، المراهق وقتها، التحدث بشكل صحيح في جميع الأوقات وكان يهمس في أذنه ليعيد صياغة ما يقول إذا تلعثم. وتمثل التوقعات الكبيرة دليلاً على الاحترام الكبير، ومع تعلم جونز كل الدروس المعقدة، والتي غالباً ما كانت خفية حول كيفية النجاح، فقد كان متحمساً إلى حد كبير لرغبته في عدم تخييب أمل الرجل الذي ما زال يدعوه "السيد ديكرسون". لقد أعطى ديكرسون جونز نوعاً من التوجيه المكثف الذي كان بمثابة تحضير لنوع من الخلافة المهنية والأخلاقية، حيث أصبح جونز بالفعل أداةً للتغيير الاجتماعي العميق الذي حارب ديكرسون من أجله بشجاعة أيضاً، كما وجد جونز معنىً مختلفاً جذرياً في الاهتمام الذي أولاه له ديكرسون والذي غذته قناعة تقول أن له دور مهم يلعبه في المجتمع وقدرٌ مهم وذلك على الرغم من أنه كان وقتها مراهقاً فحسب.
ولدينا قصة أخرى عن مرشد قوي يقدمها لنا مايكل كلاين، الشاب الذي حقق الملايين من تجارة العقارات في جنوب كاليفورنيا خلال سنين مراهقته ليخسرها لاحقاً مع بلوغه العشرين ويزاول بعدها أعمالاً أخرى. وكان معلمه هو جده ماكس كلاين، الذي ابتكر بدعة "التلوين بحسب الأرقام" التي اجتاحت الولايات المتحدة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. كان عمر كلاين وقتها 4 أو 5 سنوات عندما اتصل به جده وعرض عليه مشاركة خبرته معه في عمله. وعلى مر السنين، علمه جده التعلم والتعامل مع التغيير، وتحدث الاثنان عبر الهاتف لمدة ساعة كل يوم حتى وقت قصير من وفاة ماكس كلاين.
أساسيات القيادة
سمعنا في المقابلات التي أجريناها العديد من القصص الأخرى عن التجارب القاسية. لننظر إلى جاك كولمان، الرئيس السابق لكلية هافرفورد والبالغ من العمر 78 عاماً. يقيم كولمان حالياً في ولاية بنسلفانيا وأخبرنا عن حادثة حصلت له أثناء حرب فيتنام، إذ إنه عندما سمع عن تخطيط مجموعة من الطلاب لإنزال العلم الأميركي وحرقه، ووجود أعضاء سابقين في فريق كرة القدم الأميركية في سنوات دراستهم السابقة جاهزين لمنعهم بأي ثمن، حاول كولمان استباق العنف الذي كان سيحصل من خلال اقتراحه قيام الطلاب المحتجين بإنزال العلم وغسله ثم إعادة رفعه. وكانت تلك لحظة بوتقة تثير حتى الآن مشاعر هائلة في كولمان كما يصف وقتها.
وهناك أيضاً مؤسس كومن كوز جون غاردنر، والذي توفي في وقت سابق من عام 2002 عن عمر يناهز 89 عاماً، إذ قال أن تدريبه الشاق، كأحد جنود المارينز خلال الحرب العالمية الثانية، كان البوتقة التي ظهرت فيها قدراته القيادية. وتحدث المهندس المعماري فرانك غيري عن التحيزات التي عانى منها في الكلية، في حين أخبرنا جيف ويلك، المدير العام في شركة تصنيع كبرى، عن اليوم الذي علم فيه بمقتل أحد العمال في مصنعه - وهي تجربة علمته أن القيادة هي أكثر بكثير من مجرد تحقيق نتائج فصلية.
بالتالي، ما الذي سمح لهؤلاء الناس بالتعامل مع هذه المواقف الصعبة والتعلم منها أيضاً؟ نعتقد أن لدى القادة العظماء أربع مهارات أساسية، وفوجئنا بمعرفة أنها المهارات نفسها التي تسمح للشخص بالبحث عن معنى في التجربة المنهكة التي قد يتعرض لها. المهارة الأولى هي القدرة على إشراك الآخرين في معنىً مشترك، ولننظر هنا إلى سيدني هارمان، الذي غرق في بيئة عمل فوضوية محاولاً تعبئة الموظفين حول نهج جديد تماماً للإدارة. أما الثاني فهو امتلاك صوت مميز ومقنع، ولننظر هنا إلى قدرة جاك كولمان على نزع فتيل حالة عنف محتملة بكلماته فقط. أما الثالث فهو الشعور بالنزاهة (وأيضاً بمجموعة قوية من القيم). وهنا، نشير مرة أخرى إلى كولمان، الذي سادت قيمه حتى خلال الصدام المشحون عاطفياً بين متظاهرين للسلام وأعضاء فريق كرة قدم سابقين وغاضبين (وأقوياء).
إلا أن المهارة المهمة جداً بين تلك الأربعة هي ما ندعوه "القدرة على التكيف"، والتي في جوهرها تطبيق الإبداع. بمعنى آخر، القدرة السحرية تقريباً على تجاوز الشدائد، مع كل ما يصاحبها من ضغوط، والظهور أقوى من قبل. وتتكون تلك المهارة من أمرين أساسيين هما القدرة على فهم السياق والصلابة. وتتضمن القدرة على فهم السياق قابلية تقييم مجموعة كبيرة من العوامل، بدءاً من كيف يختلف تأويل الأشخاص لنفس الإيماءة وصولاً إلى القدرة على وضع منظور معين لموقف ما والذي يعتبر مفيداً للقادة لأنه يجعلهم على معرفة بكيفية تفكير أتباعهم ومرؤوسيهم. وقد أظهر دوغلاس إيفستر، الذي خلف روبرتو غويزويتا في شركة كوكاكولا، عجزاً محزناً عن فهم السياق، حيث استمر مدة 28 شهراً فقط في وظيفته، إذ قام، من بين جملة أمور، بتخفيض مرتبة موظف أميركي من أصل أفريقي من أفضل موظفيه وذلك حتى مع خسارة الشركة لدعوى قضائية بقيمة 200 مليون دولار رفعها ضدها موظفوها ذوي البشرة السوداء في أتلانتا، المدينة ذات أغلبية أميركية أفريقية قوية. أما فرنون جوردان، وعلى النقيض من إيفستر، فقد أدرك أن وقت رئيسه قد انتهى، ليس فقط وقته في السلطة، ولكن الحقبة التي ينتمي إليها. وهكذا تمكن جوردان من رؤية ما وراء الإهانات ليدرك أنها ناتجة عن المرارة التي وصل إليها رب عمله ليعبّر عنها بانتقاد محبَط.
أما الصلابة فهي تماماً كما تُعرّف: المثابرة ومواجهة الشدائد والتي تجعل الناس قادرين على الخروج من ظروف مدمرة من دون فقدان الأمل. ولننظر إلى مايكل كلاين، الذي عانى من الفشل لكنه لم يدع ذلك يهزمه، إذ وجد نفسه مع شركة واحدة هي شركة برمجيات صغيرة استحوذ عليها ليحولها إلى ترانسوفت نتوركس والتي استحوذت عليها لاحقاً هيوليت-باكارد (آتش بي) في عام 1999. ولنتأمل أيضاً، ميكي سيبرت، التي استخدمت روح الفكاهة لديها للحد من المحادثات الهجومية. أو قوة سيدني ريتنبرغ أثناء سجنه حيث استند إلى ذكرياته الشخصية وقوته الداخلية ليخرج من فترة سجنه المطولة دون مرارة.
يسمح مزيج الصلابة والقدرة على فهم السياق للشخص، قبل كل شيء، بالنجاة من المحنة، وأيضاً التعلم منها ليظهر أقوى وأكثر انخراطاً وأكثر التزاماً من أي وقت مضى. وتتيح هذه الصفات للقادة النمو والانطلاق من بوتقاتهم، بدلاً من إصابتهم بالهزيمة، ويعملون على إيجاد فرصة منها قد لا يجدها الآخرون. وهذا بالفعل من صفات القيادة الحقيقية.