إذا قدمت لي خدمة، فسأردها إليك بكل تأكيد، لكن هل يمكنني خدمة شخص آخر إذا قدمت لي خدمة؟
يعرف معظمنا معنى المعاملة بالمثل، وهي مقابلة من يبادر بعمل الخير معك بخير مماثل. لكنه قد يكون من الصعب قياس المقابلة الأشمل: "أنت تساعدني وبدوري أنا أساعد شخصاً آخر". إلا أن البحوث الجديدة تشير إلى أن الشركات قد تستطيع تشجيع هذا النوع من العطاء بين الموظفين.
ويركز كل من واين بيكر، الأستاذ في "كلية روس لإدارة الأعمال" بـ "جامعة ميشيغان"، وناثانيال بلاكلي، من شركة "إنوفيشن بليسز" (Innovation Places)، على نوعين شائعين من المقابلة الأشمل، وهما: "الوفاء بالعطاء" (Pay it forward)، و"السمعة المفيدة" (Rewarding reputation).
ويعني الوفاء بالعطاء بحسب الباحثَين، أن الناس يحفزهم التأثير الإيجابي: "أنت تساعدني، فأشعر أنا بالامتنان، وأوفيك حقك بتقديم المساعدة لطرف ثالث". أما السمعة المفيدة، فهي أقل بريقاً وشاعرية، حيث تعني "أن مساعدة الغير مبنية على خطوات استراتيجية ورغبة في بناء سمعة".
ويشير عدد من الأبحاث حول السمعة المفيدة إلى أن هذا المبدأ قد يكون قوة تحفيزية أكثر ديمومة من الوفاء بالعطاء. ففي شركة "آيديو" (IDEO)، على سبيل المثال، يشير الباحثان بيكر وبلاكلي (استناداً إلى دراسة أجراها أندرو هارغادون، وروبرت سوتون) إلى "أن الموظفين الذين قدموا المساعدة للآخرين تزيد فرص حصولهم على مساعدة مقابلة، إذا ما تمت مقارنتهم بأولئك الذين لم يقدموا المساعدة للآخرين"، مؤكدين بأن الموظفين كانوا "يبنون سمعتهم بطريقة استراتيجية واضعين نصب أعينهم مصلحتهم الشخصية".
لذلك، وضع كل من بيكر وبلاكلي اختباراً لطلاب في مرحلة ماجستير إدارة الأعمال ألزمهم نشر 5 أسئلة على لوحة رسائل جماعية، وبالإجابة عن 15 سؤالاً نشرهم طلاب آخرون. وجد الباحثان أنه كلما زاد مجموع الإجابات المنشورة على اللوحة، زاد احتمال أن يجيب أحد الطلاب على الأسئلة الجديدة التي تنشر على اللوحة. هذه النتيجة تؤيد الفرضية القائلة إنه كلما زادت المساعدة التي يتلقاها شخص ما من الآخرين، زادت أرجحية أن يمدّ هذا الشخص يد العون إلى أحد آخر. وثانياً، كلما زادت إجابات شخص ما خلال الأسبوع الذي يسبق تقديمه لسؤاله الخاص، زادت أرجحية إجابة الآخرين عن سؤاله. وتؤيد هذه النتيجة، فكرة أن مساعدة الآخرين ستزيد أرجحية الحصول على المساعدة في المقابل، ليتبين أن "السمعة المفيدة" كان لها التأثير.
ويسلّط الكاتبان الضوء على وجود بعض الأسباب وراء ذلك. أولاً، وجد الباحثان أن "السمعة المفيدة" لم تكتسب أهمية إلا إذا كانت حديثة. "تلاشت الآثار الإيجابية لتلك السمعة وتحولت إلى سلبية لأنها أصبحت سمعة سابقة". لم يتوقع الباحثان هذه النتيجة، ولكنهما يطرحان أنه غالباً ما يُنظر إلى "المواطن الجيد" على أنه شخص يساعد الآخرين بانتظام، وأن السمعة السابقة التي تجعل الشخص مستعداً للمساعدة لا تفيد أحداً. هذا هو ما يسميه كل منهما بمشكلة "ماذا فعلت من أجلي مؤخراً؟".
يُعتبر "الوفاء بالعطاء" سهل الفهم، على الأقل بالمقارنة مع تذكر سمعة الآخرين. ويتابع الباحثان "أن الشرط الوحيد للإيفاء بالتقديم هو أن يكون المشارك واعياً لتجربته الخاصة، وهو أمر أسهل وأهم من مراقبة الآخرين وقياس ما يفعلونه". وبالفعل، يتمتع قلة من الناس بالقدرة العقلية على مواكبة تسجيل النقاط، الأمر الذي تتطلبه "السمعة المفيدة".
ومع ذلك لا يقلل كل من بيكر وبلاكلي من شأن "السمعة المفيدة"، بل يعتبران أن نوعي المعاملة بالمثل متكاملان للغاية، على الرغم من التقدم البسيط لمبدأ "الوفاء بالعطاء". وفي الواقع، لمس الباحثان جولات من استخدام "السمعة المفيدة" و"الوفاء بالعطاء"، ما يشير إلى "أنه مع الوقت، يحتمل أن يكون المبدآن قد استحدثا دوائر من التناغم الفعال". ويتابع الباحثان أن استمرار 9 من أصل 10 مشاركين باستخدام النظام (بعد بلوغ الأعداد المحددة)، يدل على وصول ممكن إلى "نقطة تحول". أما في حال حدوث العكس، فكان من المحتمل أن تبرز دوائر مفرغة، وينخفض التعاون.
لكن الأمور لم تسر على هذا النحو. ولم يتغلب الاهتمام بالسمعة المفيدة على الوفاء بالعطاء. إذ تمكنت الآليتان من التفاعل بكل تناغم، ودام الإيفاء بالتقديم فترة أطول مع الوقت.
فكيف إذاً للمؤسسات استغلال ذلك؟ يفيد الباحثان أن اجتماعات العصف الذهني المنتظمة التي تعقدها شركة "آيديو" تفرض معايير لطلب المساعدة وتقديمها. ولا بد من عقد هكذا اجتماعات بانتظام بسبب المعضلة التي سبق ذكرها: "ماذا فعلت من أجلي مؤخراً؟". كما يشجع الباحثان اعتبار الامتنان وسيلة، تماماً كما تفعل "ساوث ويست أيرلاينز" (Southwest Airlines)، من خلال جائزة "أفضل موظف للشهر" للموظفين الذين ساعدوا غيرهم على إنجاز أعمال مهمة. ويضيفان أن "شركة جوجل" تستخدم نظام علاوات بين الأقران يمكّن الموظفين من التعبير عن امتنانهم ومكافأة السلوك المساعد بواسطة دفعات نقدية رمزية. وتنطوي هذه السياسة الذكية على آلية ضمنية للإيفاء بالتقديم لأن "المستفيد من علاوة من أحد أقرانه يحصل على أموال إضافية يمكن دفعها فقط لمكافأة موظف ثالث.
وماذا إذا كانت شركتك مبعثرة في أنحاء مختلفة من العالم؟ لتأخذ عبرة من شركة "كونوكو فيليبس" (ConocoPhillips)، التي تملك مجموعات لتقاسم المعلومات على الشبكة، حيث يطرح أعضاؤها مشاكل ذات الصلة بالأعمال ويقدم آخرون حلولاً لها. في هذا السياق، يؤكد الباحثان أنه منذ العام 2004، تمكنت الشركة من ادخار أكثر من 100 مليون دولار عبر استخدام هذا النظام، الذي بُني بكل بساطة على الفكرة التي تقول إن الناس يرغبون حقاً بمساعدة الآخرين في المواقف الصحيحة ومن دون أي تعبير علني للمشاعر.