يتحمّل الأطباء أحياناً مسؤولية المشاكل التي يعاني منها نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الأميركية، لكن ما تبيّن لنا هو العكس من خلال مشروعنا البحثي الذي استمر 5 سنوات في الهند والولايات المتحدة. لقد كانت جميع مؤسسات الرعاية الصحية عالية الأداء التي شملتها دراستنا يرأسها طبيب متخصص (وهو أمر توصلت إليه كذلك البحوث الأكاديمية).
ما وجدناه في أثناء جمع الحالات الدراسية من أجل كتابنا "الابتكار المعاكس في الرعاية الصحية" (Reverse Innovation in Health Care) هو أن هؤلاء الأطباء ليسوا مجرد أطباء متخصصين بل يتحلون بخصال أخرى تجعلهم قادة قادرين على إحداث الكثير من التأثير. نطلق على هؤلاء الأفراد اسم "رواد العمل الطبي" (doctorpreneurs) ونعتقد أنهم يؤدون دوراً أساسياً في إصلاح المشاكل التي يعاني منها قطاع الرعاية الصحية.
يتحلى رواد العمل الطبي بخصال ثلاث مهمة هي:
1- التميز في مجال الطب: إن رواد العمل الطبي هم أولاً وقبل كل شيء أطباء ممتازون ممن حصلوا على أرقى مستوى في التعليم والتدريب. في المؤسسات المهنية مثل الشركات الاستشارية والجامعات وشركات المحاماة، لا يُقبل أن يتولى القيادة سوى شخص تدرب في المجال المهني نفسه، ومجال الرعاية الصحية ليس استثناء. يحظى رواد العمل الطبي بمصداقية لدى الأطباء والعاملين بالإدارات الصحية في المؤسسات، وهذا يسهّل تنفيذ الاستراتيجيات الجريئة أو المبتكرة. ولأنهم أطباء من الدرجة الأولى، فإنهم لا يساومون بتاتاً على الجودة. لكن العديد من المستشفيات، بما في ذلك المستشفيات ضعيفة الأداء، يديرها أطباء على درجة عالية من الكفاءة. وما يميز رواد العمل الطبي عن سواهم خصلتان أخريان يجلبانهما معهم إلى مكان العمل.
2- التعاطف: إن رواد العمل الطبي هم بشر يحدوهم شعور بالعطف والرحمة ومؤمنون بأن لديهم مسؤولية توظيف علمهم وتدريبهم المهني في خدمة أكبر عدد ممكن من الناس. وهذا يقودهم إلى القلق من المشاكل الأكبر في القطاع الصحي مثل تحسين حصول أولئك الذين يجري عادة إهمالهم أو تهميشهم - سواء كانوا من غير المؤمّن عليهم صحياً أو ليس لديهم تأمين كافٍ أو يعيشون بعيداً جداً عن مراكز الرعاية الصحية. إنهم ينظرون إلى الرعاية الصحية باعتبارها حقاً إنسانياً وهم يتعاطفون مع محنة المرضى.
هؤلاء القادة يسعون بهمّة ونشاط إلى خفض التكاليف لأنه، ومثلما أخبرنا أحد رواد العمل الطبي، "إذا تعذر توفير الحل بكلفة معقولة، فهو ليس حلاً". وبهذه الطريقة، فإن التعاطف يزكي الابتكار.
3- الانضباط في إدارة العمل: إن الخصلة الثالثة الأساسية لدى رواد العمل الطبي هي أنهم يولون اهتماماً وثيقاً للموارد وإنفاق رأس المال وعمليات الإدارة لأنهم يدركون أنه إذا لم تحقق مؤسستهم إنتاجية عالية فلن يُكتب لها البقاء ولن تحقق غرضها في خدمة أكبر عدد من الناس. فهم يدركون أن المؤسسة الخيرية ليست قابلة للتوسع والتطوير ولكن يمكن لمؤسسة منضبطة مالياً أن تتطور على نحو مستدام. وينطبق هذا على كل من المؤسسات الربحية وغير الربحية. يمقتُ بعض الأطباء الحديث عن إنقاذ الأرواح وتوفير المال في الوقت نفسه - ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لرواد العمل الطبي.
كان الدكتور جوفيندابا فينكاتاسوامي ( Govindappa Venkataswamy)، المعروف باسم "الدكتور ڤي"، من رواد العمل الطبي بامتياز في رأينا. كان في الثامنة والخمسين من عمره وقد تقاعد بعد مسار مهني مرموق في طب العيون عندما أسس مستشفى "أرافيند الخيري للعيون" (Aravind Eye Hospital) في عام 1976. لم يكن فقط ذا مؤهلات طبية ممتازة، بل إنسان متعاطف ورحيم. لقد استلهم تعاليم الفيلسوف الهندي العظيم سري أوروبيندو (Sri Aurobindo)، وتعهّد بإنهاء حالات العمى التي يمكن تفاديها في العالم. لقد جمع بين التعاطف اللامحدود والانضباط الصارم في إدارة مشروعه. بدأ "مستشفى أرافيند" بوضع 11 سريراً في منزله ثم وسّعه وطوره ليصبح أكبر مستشفى للعيون في العالم – حيث تُجرى بالمستشفى أكثر من ألف عملية جراحية يومياً أكثر من نصفها لمرضى دفعوا القليل من المال أو لم يدفعوا شيئاً.
المثال الآخر لرائد في العمل الطبي هو الطبيب البيطري أتول غواندي. لقد استعانت مؤخراً شركات "أمازون" و"بيركشاير هاثاواي" (Berkshire Hathaway) و"جيه بي مورغان" (J.P. Morgan) بغاوندي ليكون رئيساً تنفيذياً لمبادرتها الصحية المشتركة. وبصفته أستاذاً في الطب في جامعة "هارفارد"، فإن مؤهلاته الطبية لا تشوبها شائبة. ويعبّر التزامه بقضايا الصحة العامة في الولايات المتحدة والدول الفقيرة، وشغفه بالكتابة عن كبرى قضايا الرعاية الصحية، عن مدى تعاطفه مع المرضى. ويظهر اهتمامه بالعمليات التنظيمية والكفاءة - بما في ذلك مقالته الرائعة في "ذا نيويوركر" حول ما يمكن أن تتعلمه الرعاية الصحية من سلسلة مطاعم "تشيز كيك فاكتوري" (Cheesecake Factory) - أنه يتفهم الانضباط المطلوب في إدارة الأعمال لتوفير رعاية صحية عالية الجودة بتكلفة معقولة.
ليس من الصعب العثور على أطباء جيدين. ويمكن العثور على نسبة أقل من الأطباء الجيدين الذين يدفعهم شعورهم بالعطف إلى فعل شيء ما بشأن توسيع نطاق الحاصلين على الرعاية الصحية، حتى لو أن المثالية والنوايا النبيلة هي التي ربما قادتهم إلى كلية الطب في المقام الأول. لكن الأكثر ندرة هو الطبيب الرحيم الذي يتمتع بخبرة في مجال إدارة الأعمال. ولكننا بحاجة إلى مثل هؤلاء الرواد في العمل الطبي للمساعدة على تدشين عهد جديد من الرعاية الصحية في الولايات المتحدة.