تخيلوا معي السيناريو التالي: عندما كان آدم سميث منكبّاً على بَلورة "نظرية الاختيار العقلاني"، وصلته دعوة من أحد أصدقائه المسلمين لزيارة إحدى العواصم العربية الكبرى في شهر رمضان الكريم، فاغتنم آدم الفرصة ليروّح عن نفسه ولبّى الدعوة، وحجز أول تذكرة سفر متاحة من مطار غلاسكو، ثم وفي أثناء تحليق الطائرة، تبادر إلى ذهنه هذا التساؤل: "لمَ لا أغتنم الفرصة لملاحظة سلوك الأفراد في هذا المجتمع الغريب عني؟ ربما سيساعدني ذلك على إثراء نظريّتي ببعض الرؤى الجديدة".
بمجرد وصوله إلى المطار، اكتشف أن حقيبة سفره قد تعرضت للخدش وبعض التلف، فذهب لإيداع شكوى لدى المصلحة المختصة في المطار من أجل الحصول على تعويض، فوجد نفسه يتنقل من مكتب إلى آخر والكل يجيبه: "ليس هنا، اذهب إلى المكتب الفلاني"، فينصاع لأمرهم متسائلاً في قرارة نفسه: "أليس من المفترَض أن العمل يُقسم حسب التخصص؟"، إلى أن وصل إلى المسؤول وأجابه بعبارة لم يسمعها قط في حياته: "ننظُر في طلبك بعد العيد إن شاء الله"!
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً عندما كان في الطريق من المطار إلى بيت صديقه، فلاحظ شيئاً بدى له جيداً سألَ عنه سائقَ سيارة الأجرة والتفاؤل يعلو مُحيّاه: "ما هذا الهدوء الذي يعمّ الشوارع؟ يبدو أن الكل مختبئ يعمل داخل المصانع أو في الإدارات"، فتبسّم السائق ضاحكاً وأجابه بأن الناس نيام، فاستغرب آدم وقال: "لكن هذا سيؤدي إلى اختلال في التنمية الاقتصادية ما دام عنصر المُنتجين لا يؤدي وظيفته"، ليلاحظ بعد فترة وجيزة طابوراً طويلاً عريضاً أمام المخبز، ويشرح له السائق أن الأفراد هنا ينتظرون ساعات طويلة من أجل شراء منتجات غذائية سيهدرونها في الغالب؛ كأن يشتري ربّ عائلة مكوّنة من 5 أفراد خبزاً يكفي لإطعام سكان قرية اسكتلندية كاملة.
لكن آدم لم يصدقه وقال: "هذا مستحيل لأنه يتنافى مع نظريّتي التي تنص على أن قرارات الأفراد تُتخذ بناء على اعتبارات منطقية لتقييم الفوائد المحتملة دون التأثُر بالدوافع غير الواعية أو بالتقاليد أو بتأثيرات البيئة المحيطة، يعني أنه لتنفيذ أي عمل يجب أن تتفوق المكافأة على التكلفة"؛ لكنه سرعان ما أعاد النظر في "الاختيار العقلاني" بمجرد رؤية مائدة الإفطار التي أعدّها له مستضيفه، وأيقن أن نظريته ليست جاهزة بعد، وراح يستمتع بما لذ وطاب من ألوان الطعام. ثم ذكر ما قاله في كتابه الشهير ثروة الأمم: "الاستهلاك هو الغاية الوحيدة للإنتاج بأكمله، ويجب ألَّا يخدم المُنتِج مصالحه إلا بالقدر الضروري لتعزيز مصلحة المستهلك".
في أثناء تناول الحلوى سأل صديقَه: هل هذه الكنافة اللذيذة هي صنع منزلي؟ فأجابه مبتسماً "لا، اشتريناها من المطعم"، فأردف آدم "المطعم؟ كنت أعتقد أن المطاعم لا تفتح في رمضان"، فقاطعه صديقه "نعم لكن هذا المطعم يحوّل نشاطه في رمضان لإنتاج الحلوى"، فضحك آدم وقال "الحمد لله، وأخيراً فإنّ ما ذكرته في كتابي ثروة الأمم صحيح، إذ إننا لا نتوقع من الجزار أو الخباز أن يوفر لنا طعامنا على أساس رغبته في عمل الخير، وإنما على أساس اعتباراته المتعلقة بمصلحته الشخصية؛ وبذلك فإننا لا نتعامل مع إنسانيتهم، وإنما مع حب كلٍّ منهم لذاته، ولا نتحدث معهم أبداً عن احتياجاتنا الضرورية، وإنما عن المنافع التي تعود عليهم".