كان سليم حمدان يجيد أداء مهام وظيفته، وكان فريقه يحقق النتائج المطلوبة، ولكنه كان يرغب في تعلم شيء جديد. كان سليم يدير منصة سحابية داخل قسم التكنولوجيا في شركة "جانيت" (Gannett) وكان يؤمن أنه لو استطاع وضع نفسه في بيئة جديدة فسوف تتمكن المؤسسة من التعلم والتطور معه.
يستطيع سليم البحث عن فرصة جديدة خارج شركة "جانيت" كما فعل العديد من الموظفين، ولكنه كان يحب الشركة التي أمضى فيها أكثر من عشر سنوات، وتربطه علاقات متينة مع مختلف العاملين بها. لذا قرر التواصل مع جلال جابر، النائب الأول لرئيس الشركة للمنتجات الاستهلاكية، واقترح دمج فرقهم الهندسية.
تقبل جلال الفكرة، وساعد سليم على شغل منصب جديد كأحد مرؤوسيه المباشرين. استطاع سليم تقديم خبراته الغزيرة في دورة تطوير البرمجيات وتعلم كيفية تطبيقها في المنتجات. وكما قال سليم "دائماً ما كنت أبحث عن التصدي لتحدي مواكبة التطورات التكنولوجية بغرض دعم الرؤية الخاصة بأحد المنتجات. ومما لا شك فيه أن القدرة على إحداث تأثير أكبر على مقدرات عملنا دفعتني أنا وفريقي إلى الشعور بالإثارة والشغف اللذين يصاحبان أي وظيفة جديدة، ولكن دون التخلي عن حالة الزخم والخبرة".
وقد استفادت المؤسسة أيضاً. إذ قال لي جلال "أدت المهارات وعقلية الابتكار التي غرسها سليم في فريق المنتجات إلى تحسين التصميمات، وإدارة التكلفة/ والانضباط التشغيلي، والاستجابة للحوادث، ومراقبة الجودة، والمسارات المهنية لمطوري البرمجيات".
تُعتبر تجربة سليم خير مثال على علاقة التعلم التكافلي بين الموظف والمؤسسة، وفيها نجد أن الأفراد الذين يتطلعون إلى النمو، ويرغبون في تعلم كل ما هو جديد، يساهمون في نمو مؤسساتهم وجعلها أكثر ذكاء، ولكنهم لا يستطيعون الاضطلاع بهذه المهمة وحدهم. فهم بحاجة إلى مساندة مدرائهم ومبادلتهم الاهتمام بالنمو الفردي، وإنشاء منظومة تعليمية تدعم هذا التوجه.
على غرار أي منظومة بيولوجية، فإن المؤسسات إما أن تنمو أو تموت. وتستطيع المؤسسات تحقيق النمو عندما يتعلم موظفوها. لذلك إن أردت مؤسسة تحقق نمواً مطرداً، فيجب عليك إنشاء منظومة تعليمية تدعم الأفراد الذين يتطلعون إلى النمو، عبر إتاحة فرص جديدة ومثيرة للتحدي قبل أن يصيبهم الملل من أدوارهم القديمة.
ربما يبقى الموظف في مكان واحد إلى ما لا نهاية، ولكنه لن يستطيع حينها مواصلة النمو إلى الأبد وهو في موقعه هذا. وعندما يفقد شغفه وحماسه تجاه عمله تتضاءل فائدته للمؤسسة. في تلك المرحلة ربما يُترك الموظف حتى تفتر همته أو يُجبَر على الرحيل. وتخسر المؤسسة خبراته المتراكمة ومهاراته المكتسبة جراء ذلك. والأسوأ من ذلك، ربما ينقل الموظف ما تعلمه إلى شركة منافسة، ما يؤدي إلى خسارة مضاعفة.
اقرأ أيضا: ما هي أهمية التعلم مدى الحياة؟
يجب على الشركات إدراك أن الموظف الذي يتمتع بإمكانات عالية للنمو ويحب التعلم يمثل أصلاً لا يُقدر بثمن. وبإعادة هيكلة دوره على منحنى جديد للتعلم داخل المؤسسة يمكن الاستفادة من خبراته وتمكينه من المشاركة والبناء، ما يؤدي إلى تحقيق مكاسب مضاعفة.
ثمة مفهوم في النظم البيولوجية يُطلق عليه القدرة الاستيعابية، ويُقصد به عدد أفراد الجنس البشري، وغيره من الكائنات الحية و/أو المحاصيل التي تستطيع بيئة معينة استيعابها دون حدوث تدهور بيئي. ويتواصل النمو حتى تنضب الموارد.
يستطيع الموظفون النمو والتطور في مكان العمل حتى تنضب الموارد اللازمة لتعلم كل ما هو جديد. في بداية منحنى التعلم الذي يتخذ شكل حرف S أو في نهايته، هناك مساحة كبيرة للنمو، ولكننا بعدما نتقن أدوارنا ونصل في النهاية إلى قمة منحنى التعلم، يتحول المنحنى إلى خط مستقيم. وعند وصولنا إلى القدرة الاستيعابية على هذا المنحنى يقل "الماء والغذاء" اللذان يصلان إلى عقولنا. حينئذ يتباطأ النمو ثم يتوقف، حتى نشعر بالضجر والملل. وإذا شاع هذا في المؤسسة وانتشر فسوف يبدأ المنحنى في التحول إلى خط مستقيم أيضاً.
هذا لا يعني أنه يجب على كل الموظفين البقاء، لأنهم لن يبقوا جميعاً بطبيعة الحال. ولكن الأمر يستحق محاولة الحفاظ على الموظفين الواعدين المحبين للاستطلاع، من خلال السماح لهم بتقلد أدوار جديدة عندما تبدأ همتهم في الفتور. مثلما فعل مدير سليم عندما وجده يتطلع إلى فرصة جديدة.
يستطيع المدراء أيضاً تنظيم عملية تعليمية جديدة عن طريق تشجيع الموظفين، حتى المترددين منهم، على اتخاذ منحنيات جديدة للتعلم. أدركت إيلين شلوس، رئيس قسم الموارد البشرية، خلال فترة توليها المنصب في شركة "روفي" (Rovi) المتخصصة في برمجيات وسائل الإعلام الرقمية، والتي يعمل بها 2,500 موظف، أن اثنين من فرق الموارد البشرية دخلا في صراع مع أحدهما الآخر. قالت شلوس "كان الشركاء يشكون من عجز قسم الموارد البشرية عن شغل الوظائف الخالية بالسرعة الكافية". "وأبدى الموظفون أصحاب المواهب تذمرهم من أن الشركاء لا يفصحون بوضوح عن اشتراطات المناصب المطلوب شغلها".
طلبت شلوس من قائدي الفريقين تبادل المواقع. وقالت "أدى هذا التغيير الإجباري في الرؤى إلى صنع فارق كبير، في البداية لم يكن أيٌ منهما يمتلك الخبرة المطلوبة لأداء مهام الوظيفة الجديدة، ولكنهما كانا يمتلكان القدر الكافي من المعرفة اللازمة لتسيير شؤون العمل بصفة عامة، ويعمل تحت رئاستهما موظفون على دراية تامة بالتفاصيل". "أسفر هذا التغيير الهادف عن تحسين فهم كل منهما لوظيفة الآخر، إضافة إلى إمكاناته وقدراته".
لقد أدت الزعزعة المقصودة للموظفّين الذين كانا يتقنان دوريهما ولكنهما لا يعرفان سوى القليل عن مسؤوليات زملائهما، إلى فهم أعمق للأداء العام لقسم الموارد البشرية وسبل تطويره.
وما تبادل الوظائف إلا إحدى استراتيجيات وضع الموظفين على منحنيات جديدة للتعلم، ومساعدتهم على تحطيم الأسوار التي تعزلهم عن المحيط الخارجي، وتعظيم سبل التعلم المؤسسي المشترك. وثمة أمثلة أخرى تتجسد في التدريب المستمر، والفرص التعليمية، والمشاركة الوظيفية، وبرامج الإرشاد والتوعية. يمكِنك الابتكار في المزج بين مختلف الأدوار، ونقل الأفراد هنا وهناك، وإتاحة فرص جديدة أمام الموظفين.
تستطيع المؤسسة بناء قدراتها والتفوق على منافسيها من خلال إنشاء منظومة تدعم التعلم المستمر. إذ تشير البحوث إلى أن الشركات التي تستمر في الأسواق وتحقق الازدهار هي تلك التي تنجح في تطوير قدراتها، من مهارات تخصصية جديدة ومجالات خبرة وقدرة على التكيف وطرق تعزيز الذاكرة المؤسسية، قبل احتياجها إليها. وتضعف قدرات المؤسسة عندما يغادرها الكثير من الموظفين المتميزين بحثاً عن مَرَاعٍ أكثر خصوبة.
تُسهم المنظومة الحيوية في تطوير أداء الموظفين وتجديد قدراتهم وتشجيعهم على الاستمرار في الازدهار، إذ تتفاعل فيها مختلف العناصر مع بعضها البعض. في مستهل القرن العشرين كتب الباحث توماس تروارد "تستمر الحياة في الدوران سواء داخل الجسد المادي للفرد أو على مستوى المجموعة الشمسية بأكملها. الدوران يعني التدفق المستمر، ولا تختلف روح الوفرة عن هذه الآلية... فإذا خنقنا المخارج والمداخل، سوف يتباطأ التيار، ولن نحصل على تدفق كامل وحر إلا إذا أبقينا المنافذ مفتوحة".
وإذا كف الأفراد عن التعلم، فسوف تتوقف المؤسسة عن التعلم أيضاً، وتتحول إلى ما يشبه المياه الراكدة مع سد المنافذ، إذ تتزايد الطحالب وتطفو النفايات على السطح في حالة سكون المياه، بعكس حركة النهر المتدفق، أو موجات البحر المتلاطمة. عندما نتيح سبل التعلم، بل ونحث الأفراد عليه، فإننا نصنع قدرة استيعابية جديدة للنمو على مختلف الأصعدة في المنظومة المؤسسية. وإن لم نفعل ذلك... حسناً، تتوقف حياتنا أو موتنا على نمو موظفينا.