برز شعار "تجنّب النقد" كأحد الشعارات الأكثر شيوعاً في مجال الإبداع. إذ أن هناك اعتقاداً يشير إلى أن النقد يقتل تدفق الأفكار الإبداعية، ويقضي على حماس أعضاء الفريق. وانتشر ذلك النفور من النقد، على نطاق واسع، خلال السنوات العشرين الأخيرة، ولاسيما من خلال دعاة التفكير التصميمي. ففي عام 1999، وصم مقطع فيديو بثته قناة "أيه بي سي" (ABC) الفضائية في برنامج "نايتلاين" بعنوان الغوص في الأعماق (The deep Dive)، والذي أشعل حركة التفكير التصميمي، النقد باعتباره سلبياً. وستجد حتى في منصة التعليم عبر الإنترنت التابعة لشركة "آيديو" (IDEO)، أن القاعدة الأولى للعصف الذهني تنص على إرجاء الحكم. ولكي تصبح هذه القاعدة أكثر عملية وأكثر وضوحاً، صاغها الآخرون بقولهم: "عندما يقترح أحدهم فكرة معينة، لا تقل: (نعم، لكن...) لتشير إلى العيوب في الفكرة، ولكن بدلاً من ذلك، قل: (نعم، و...)". إذ تهدف العبارة الأخيرة إلى حث الناس على الإضافة إلى الفكرة الأصلية.
ولكن نحن، هنا، نتحدى هذا النهج. حيث نرى أنه يشجع التصميم عن طريق اللجان المصغرة، ويبث شعوراً سطحياً بالتعاون، والذي يؤدي بدوره إلى تقديم التنازلات وإضعاف الأفكار. ووجهة نظرنا، والتي هي نِتاج سنوات من الدراسة والمشاركة في مشاريع الابتكار، هي أن الفرق الفاعلة لا تؤجل التفكير الناقد، وإنما تبدع من خلاله.
لذلك، نقترح نهجاً بديلاً، وتنص قاعدته على قول: "نعم، لكنْ. و". ولكي نشرح آلية عمل هذه القاعدة، فلنناقش بدايةً لماذا قاعدة النقد وحدها "نعم، لكن..." وقاعدة إضافة الأفكار وحدها "نعم، و..." غير مجديتان.
قاعدة "نعم، ولكن.." المشكلة في هذه القاعدة، أنه حتى إذا كانت الأفكار المطروحة استثنائية حقاً، فإن هذه العبارة غالباً ما ستحمل عيوباً كبيرة في الفكرة. وسينطبق هذا خصوصاً على الأفكار الأكثر إبداعاً، نظراً لأنها تغوص في أعماق مجالات غير مطروحة. وإذا استغل شخص ما وجود عيب معين في هذه الفكرة الإبداعية ليقتلها، فربما نخسر ابتكاراً عظيماً.
قاعدة "نعم، و.." أما في هذه القاعدة، قد يبدو مفهوم البناء على فكرة، بدلاً من انتقادها، للحفاظ على تدفق الأفكار الإبداعي، أمراً جيداً. ومع ذلك، سيكون من الصعب عليك كصاحب الفكرة أن تفهم سبب عدم نجاح فكرتك الأصلية دون وجود ردود فعل نقدية عليها. فقد ترى هذه الإضافة الجديدة بمثابة تحويل غير ذي صلة أو حتى وجهة نظر مناقضة ومختلفة. وهنا سيفوّت الفريق فرصة الغوص في أعماق الفكرة الأصلية. إذ سيكون الأمر أشبه بالتحرك إلى الأمام دون أي تقدم.
قاعدة "نعم، ولكن، و.." أما هذه القاعدة، فنقترح، من خلالها، الجمع بين أفضل مزايا النقد وأفضل مزايا إضافة الأفكار. وعلى سبيل المثال، عندما تقترح الفكرة (أ)، يعالج أحد الزملاء ما يعتقده خللاً فيها، مقدماً ملاحظاته البناءة (وهذا جزء "لكن")، ومن ثم يقترح طريقة ممكنة للتغلب على هذا العيب أو تجنبه، مما يؤدي للفكرة (ب) (وهذا جزء "و"). ثم تفعل أنت الشيء نفسه: حيث تُقر بالفكرة (ب) والتي طوّرها زميلك، وتقدم نقداً بنّاءً حولها لمعالجة الخلل الذي تراه فيها، وتعمل على تطوير نتيجة جديدة أكثر جودةً. وخلال هذه العملية، يمكن للآخرين أن يشاركوا بانتقاداتهم ومقترحاتهم أيضاً. ويشجع هذا النوع من التفاعل البنّاء على انطلاق سلسلة من الحوارات النقدية الهامة التي يمكن أن تقود إلى فكرة متماسكة واستثنائية حقاً.
لاحظ أن جزء "لكن" الذي يسبق جزء "و" ضروري. فإذا أراد زميلك البناء على فكرتك، فإنه لا يضيف اقتراحاً محسناً جديداً وحسب، وإنما، يقدم نقداً أولاً، يمكنك من خلاله الحصول على معلومات قيّمة ومحددة، ورؤية نقاط الضعف في فكرتك غير الناضجة والتي لا يمكنك اكتشافها بنفسك، وبالتالي ستتعلمها. وبعد ذلك ستكون أنت والفريق بأكمله جاهزين للغوص أكثر عمقاً في الأفكار بالإعادة الثانية. إن الجمع بين قاعدتي "نعم، ولكن" و"نعم، و" هو الذي يخلق تقدماً ملموساً، ويمكّن الفريق من رؤية كل من العناصر الإيجابية والسلبية، ويسمح له في كل عملية إعادة بالتعمق أكثر فأكثر في التحليل، للوصول إلى فكرة عميقة ورائعة.
لذلك إذا أردت الوصول إلى ذلك النوع من الأفكار، فمن الضروري الاستفادة من التناقضات التي تأتي من النقد بدلاً من الهروب منها. فأظهرت، تشارلان نيميث، في بحثها الذي يدور حول قوة المعارضة، أن النقاش والنقد لا يحولان دون تدفق الأفكار، وإنما يعملان على تحفيزها. حيث يتطلب التقدم تصادماً ودمجاً بين وجهات النظر المختلفة، وليس مساومةً أو تأجيلاً.
وبدورها، تؤكد، فرانشيسكا جينو، أن النقد الحقيقي لا يعمل بشكل إيجابي إلا عندما يقود إلى تحسين فكرة معينة وتعزيزها. فالاستماع المتسم بالاحترام وتقدير مواهب وقدرات الزملاء هما عنصران ضروريان لنجاح هذه العملية. وعلى العكس، عندما تصبح "لكن" هجوماً على الفكرة المطروحة (أو ما هو أسوأ من ذلك، هجوماً على الشخص الذي يطرحها)، فستكون النتائج غير مرغوب بها. وهنا يأتي دور إضافة "و" إلى "لكنْ"، حيث تعزز من النقد البنّاء والإيجابي، وتحيله من عبارة تقتل الأفكار إلى وسيلة لزيادة تدفق الأفكار الإبداعية بدلاً من إيقافه.
النقد، والإبداع، وحب الاستطلاع
وإذا أردت تطبيق قاعدة "نعم، ولكن، و" بنجاح، فلابد أن تطبقها بعناية وجرعة كبيرة من الانضباط، وإليك بعض الإرشادات البسيطة:
أولاً، عندما تنتقد أفكار الآخرين، فإنك تحتاج إلى أن تستفيد من تفكيرك الإبداعي بأعمق ما يمكن.
- عندما ترى نقطة ضعف ما في الفكرة. لا يجدر بك أن تقول ببساطة: "هذا لا يجدي". ولكن بدلاً من ذلك، اشرح المشكلة أولاً، ثم اقترح تحسيناً يجعلها مجدية.
- عندما لا تفهم المشكلة، لا تقل ببساطة: "هذا غير واضح بالنسبة لي". وبدلاً من ذلك، أشر أولاً إلى النقطة المحددة غير الواضحة، ثم اقترح توضيحات بديلة ممكنة مثل: "هل تقصد س أم ع؟"، فيساعد ذلك جميع المشاركين على رؤية خيارات أكثر تفصيلاً.
- أما في حالة راقت لك الفكرة، لا تأخذها كما هي. ولكن بدلاً من ذلك، ابحث عن التحسينات الممكنة، ثم كرر ذلك لجعلها أفضل.
ثانياً، عندما تستمع إلى شخص ما ينتقد فكرتك، يجدر بك محاولة أن تتعلم من انتقاده. وتَظهر هنا إحدى الطرق العملية لفعل ذلك، وهي استمع بعناية إلى النقد، وكن فضولياً، وتساءل: "لماذا يقترح زميلي وجهة النظر المعارضة التي لا تتفق مع ما أراه؟ ربما تكون هناك فكرة أكثر قوة مخبأة وراء وجهتَي نظرنا". وهكذا، مع تركيز الفريق على التغلب على نقاط الضعف وتعزيز الفكرة الأصلية، يصبح النقد قوة إيجابية.
يكمن سر تأثير النقد في الإبداع، بشكل إيجابي، في خلق مناخ من التفاعل والتواصل بين المشاركين. إذ ينبغي على الأشخاص الذين يتقدمون بنقدهم أن يؤطروا أفكارهم ضمن أطر إيجابية ومفيدة. أما الأشخاص الذين يتعرضون للانتقاد ينبغي أن يتعلموا من هذه الانتقادات ويطوروا من أفكارهم. وعندما تتسم عملية توجيه النقد بالاحترام وحب الاستطلاع، يصبح النقد حينها أكثر أشكال الإبداع تقدماً. وهنا يمكن أن يكون النقد جذّاباً، ومثيراً، ومُرْضياً، وملهماً على الدوام. إذاً، فلنجمع بين قاعدة "نعم، و" وقاعدة "نعم، لكن" لخلق قاعدة "نعم، ولكن، و" التي تتسم بالإيجابية البنّاءة.