حين قال نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس أنه لا يمكن أن يجلس ليتناول وجبة طعام مع امرأة ليست زوجته على انفراد، كان يثير حينها قاعدة قديمة معروفة لدى بيلي غراهام، القائد الإنجيلي المعروف صاحب الدعوة المشهورة للزعماء الرجال، والتي تقول بتجنب "أي موقف حتى وإن كان يوحي من قريب أو بعيد بالتنازل أو الشبهة". وتفسير هذه الموعظة بوضوح يأتي أنّ على الرجل تجنب تمضية الوقت بمفرده مع امرأة ليست زوجته. وكان معروفاً عن غراهام أنه لم يكن يكتفي فقط بتجنب تناول الطعام منفرداً مع امرأة أخرى، بل كان يتجنب أي تواجد منفرد مع امرأة سواء في السيارة أو حتى في المصعد. وكان غراهام يقوم بذلك خوفاً من أن تؤثر مثل هذه التصرفات على سمعته، إما عبر السقوط في فخ الإغواء أو الانخراط في محادثة ليست ملائمة.
ويبدو أن بينس وتجنبه للنساء لم يكن أمراً فريداً. ففي استبيان صدر مؤخراً عن ناشيونال جورنال (National Journal) ذكرت بعض الموظفات اللواتي يعملن ضمن كوادر الموظفين في الكونغرس الأمريكي (وأكد على ذلك أيضاً الزملاء الذكور) وجود سياسة متعارف عليها بأن الموظفين الذكور فقط يستطيعون الاجتماع بشكل ثنائي منفرد فيما بينهم أو البقاء معاً في أنشطة بعد وقت العمل. ونظراً لعدم انخراط الموظفات في الحوارات الرئيسية وشبكات التعارف وتدني فرصة تعرضهن لقدر أكبر من التجارب المهنية واللقاء وجهاً لوجه مع الأشخاص المؤثرين في العمل، فإنهن كما هو متوقع أقل حضوراً في المناصب القيادية، ولذلك ليس مستغرباً أنّ مرتباتهنّ السنوية تقل عن نظرائهنّ الذكور بنحو 6,000 دولار أمريكي.
ولكن وصية بيلي غراهام، ومن بعده مايك بنس اليوم، قاعدة خاطئة تماماً. فمع أن البعض يصف ذلك باعتباره "شهامة" من الرجل، إلا أنه ليس إلا استعادة لما كان سائداً في أمريكا في القرن العشرين من فصل بين الجنسين. فحين تكون المرأة فعلاً تحت حالة من الحجر، ومحرومة من اللقاءات بشكل فردي مع القادة الرجال، ولاسيما من يحتمل أن يكون من الرعاة، أو الداعمين، أو الشخصيات المرموقة في مجال ما، فإن خيارات المرأة في التطور، عداك عن التألق المهني، تتضاءل. وكلما ازداد حجر الرجال على المرأة، عبر استثنائها مثلاً من المشاركة في اللقاءات المهمة، والأنشطة الاجتماعية الخاصة بالتعارف بعد ساعات العمل، وفرص الإشراف والتدريب التي تجري على مستوى ثنائي شخصي، فهذا يؤدي إلى استمرار الرجل وحده في الوصول إلى أعلى المناصب. كما أن بقاء الرجل مسيطراً على المناصب القيادية واستثناء المرأة منها سيكون شائعاً ومستفحلاً كما لو أن وصية بيلي غراهام مطبقة فعلاً، ويبقى الرابح هو ذلك الرجل الذي لم يتجاوز بعد تلك العقلية الذكورية البائدة.
وسواء كان الأمر يتم بتعليمات رسمية أو عرفية، فإن السبب الحقيقي للحجر على المرأة هو الخوف. فجوهر هذه الممارسات التي تحاول الحد من التواصل بين الرجل والمرأة في العمل لا تفيد إلا في تعزيز الفكرة بأن المرأة "فتنة"، وأن غايتها هي إغواء الرجل صاحب السلطة أو الإيقاع به لاتهامه بالتحرش الجنسي. ووضع الأمور بهذا الإطار يجعل الرجل يسوغ قلقه من شعوره بالانجذاب نحو المرأة في العمل، بل وقد يسوغ له أيضاً تجاوز حدوده معها باعتبار أن الذنب ذنبها هي. كما أن فهم الأمر بهذه الطريقة يؤثر سلباً على مصداقية المرأة عند حديثها عن التحرش أو الاعتداء. صحيح أن الحدود المهنية المدروسة بعناية تخلق أساساً صلباً من الثقة والزمالة والعلاقة الوثيقة الأخوية التي تعد أساساً لأفضل العلاقات في بيئة العمل، أما تلك الحدود التي تكون قائمة على الخوف فهي أمر مختلف تماماً. فعند التقليل من التواصل الاجتماعي بين الجنسين أو منعه تماماً، فإن حالة الفصل هذه تحول دون تحقق اللقاء الذي يكون كفيلاً بحد ذاته للتخلص من الارتباك والحساسية بهذا الشأن وبناء الثقة بين جميع الأطراف.
ومن أجل بناء علاقات عمل أكثر متانة وبعيدة عن الحساسية والإرباك بين الجنسين، فإن الرجل الواعي سيجد مصلحة في التواصل بشكل أكبر مع الزميلات في العمل وليس العكس. ففي سلسلة معروفة من الدراسات اكتشف عالم النفس روبرت زاجونك أن التعرض المتكرر لمحفز (كمجموعة جندرية معينة مثلاً) كان فيما سبق يسبب عدم الارتياح أو التوتر، قد ساعد على الحد من ذلك، بل وزاد من احتمالية التواصل والتفاعل الإيجابي. ويطلق على هذه المبدأ في علم النفس الاجتماعي "تأثير التعرض المجرد"، وقد ساعد كثيراً في تغيير التوجهات السلبية بخصوص المجموعات التي كانت عرضة للتمييز ضدها في السابق. ولا شك في أن القادة المتميزين يبادرون بأنفسهم لخلق التواصل البناء بروح الزمالة مع الأنواع المختلفة من الموظفين بشكل مقصود ونزيه كلما أمكن ذلك.
ولعل أشد ما في وصية بيلي غراهام وغيرها من القواعد المتعلقة بالفصل بين الجنسين في العمل من مراوغة وخداع هو ما توحي به تلك الوصايا من الشرف أو الشهامة. فهذا التمييز "الشهم" تجاه المرأة يشتمل على نظرة لها قد تبدو إيجابية على صعيد شخصي، ولكنها ذات أثر خطير جداً على المساواة بين الجنسين. لقد اكتشف عالما النفس بيتر غليك وسوزان فيسكه في بحثهما الرائد في هذا الصدد أن المرأة عادة ما تقبل العديد من أشكال التمييز "الشهم" تجاهها (كفكرة أن المرأة تمثل الجنس الناعم وأنها بحاجة للحماية، أو أن الحد من التواصل الفردي بين الجنسين في مكان العمل يساعد على حماية سمعتها)، بالرغم من أن هذا التمييز تجاهها يحول دون تحقيق المساواة الحقيقية بين الجنسين. ولعل هذا ما يفسر إعجاب الكثير من النساء بموقف بينس الذي أشرنا إليه مطلع هذه المقالة لأنهن ينظرن إلى الأمر باعتباره دليلاً على استقامة الرجل ووفائه تجاه زوجته. ولكن التمييز بين الجنسين دوماً يؤثر سلباً على تطور المرأة ويضعف موقفها في العمل، حتى لو كان ذلك من قبيل التمييز "الشهم" كما أسلفنا، والذي لا يشي ظاهرياً بالعداء أو الإجحاف، ولكنه يؤدي إلى تفاوت في الرواتب وتمييز في فرص الترقية المهنية، بغض النظر عن عدد النساء اللاتي يؤيدن هذه السياسات أو يعارضنها.
وثمة أمر يخفق معظم الرجال في التنبه إليه عند اللجوء لحالة تقييد التواصل مع المرأة في العمل: فما هي الصورة التي ترتبط بعدم رغبتهم في التواجد بمفردهم مع المرأة في مكان العمل؟ وما الذي يقوله ذلك عنهم وعن الذكور بشكل عام؟ حين يرفض الرجل أن يكون وحده مع زميلة له في العمل في السيارة أو المطعم، خوفاً من تطور ذلك إلى أمر آخر، فإن علينا أن نطرح عليه هذا السؤال: يا عزيزي، هل منطقك المجرد يعمل بشكل سليم؟ إن الفصل بين الرجل والمرأة يعزز تلك الفكرة بأن الرجال ليسوا إلا كائنات مهووسة بالجنس، وأنهم نادراً ما يكونون قادرين على كبح، عداك عن ضبط، انجذابهم نحو تلك الكائنات الخصبة الأخرى من الجنس المقابل. إذ يوحي الفصل بين الجنسين بأن الرجل لا يمتلك القدرة على كبح جماح نزواته الرومانسية أو الجنسية إن انفرد بزميلة له. هذه الصورة النمطية عن الذكر "المهووس بالغريزة" تتعزز في طريقة التواصل الاجتماعي بين الذكور، وهناك العديد من الرجال، الذين يصرون على تأكيد هذه التوقعات والصور ويخشون مخالفتها، بمستوى أو بآخر. وفي مثل هذه الحالة نكون في أمسّ الحاجة لبعض الشجاعة الأخلاقية لمواجهة ذلك. ثم إن الحقيقة على كل حال هي أن كثيراً من الرجال يختارون عدم الرضوخ لضغوط هذه الصورة النمطية الذكورية، والكثير منهم لديهم علاقات وثيقة متبادلة تتسم بروح الزمالة الحقيقية مع زميلاتهم في مكان العمل، ولا يتجاوزون تحت أي ظرف الحدود المفترضة في هذه العلاقة.
لا شك أن قاعدة بيلي غراهام والجهود الأخرى التي تصر على الحجر على المرأة تصطدم بعدد من المغالطات المنطقية. فعلى سبيل المثال، هنالك مشكلة في الفعالية، حيث أثبتت الجهود المتواصلة للحد من التواصل بين الجنسين في مكان العمل عدم فعاليتها. فحتى في أشد المذاهب الدينية محافظة نجد الكثير من التجاوزات بين أتباعها أو حتى من يدعو لها. كما أن هذه السياسات التي تؤيد الفصل بين الجنسين في واقع الأمر تنطوي على ثنائية قاصرة جداً في التفكير وهي: إما أن أتعامل مع المرأة في العمل وأغامر بتجاوز الحدود بشكل يهدد سمعتي ووظيفتي، أو أن أتجنب تماماً أي خلوة مع أي زميلة في العمل، وهذا الافتراض ثنائي الوجهين ليس صحيحاً بالضرورة.
ولكن ما الذي يجدر بالقائد الرجل المتطور فعله؟ بعبارة بسيطة جداً يمكن القول أنه على الرجل أن يصبح ما ندعوه "رجل الكهف الواعي". فالرجل السليم الناضج والواعي بذاته يفهم تماماً طبيعته وتكوينه العصبي كإنسان ذكر ويتعايش مع ذلك ويتقبله. كما أنه من ناحية أخرى يلتزم بما يمليه عليه منطقه وعقله ليكون على الدوام رصيناً وحكيماً في علاقاته وتواصله مع الآخرين، سواء كانوا رجالاً أم نساء.
وأخيراً نود أن نشير إلى سبب آخر، يجعل الأشخاص الأكثر محافظة وتديناً مثل مايك بنس وبيلي غراهام يراجعون رأيهم فيما يتعلق بالحجر على المرأة واقصائها في العمل، وهو أن جميع الأديان أتت لتعزيز كرامة المرأة وحفظ قيمتها والحرص على إظهار اللطف والكرم معها.