تحتوي معظم نماذج المبيعات على قُمع التحويل، وهو الطريقة التي يحاول مندوب المبيعات من خلالها تحويل أحد المتابعين، الذين جذبهم التسويق، إلى زبون محتمل ثم بعد ذلك إلى زبون مشترٍ، وذلك من خلال مجموعة من الخطوات المتتابعة. يُتوقع من مسؤولي المبيعات في هذا النموذج أن ينقلوا المشتري المحتمل خلال مراحل هذه العملية بأكبر قدر من السلاسة، وأن يتموا الصفقة باستخدام عبارات وأساليب معينة من أجل "التغلب على الاعتراضات". تُروّج الكتب والندوات لوجهة النظر تلك، لكن الأبحاث تشير إلى أن تلك الخطوات ليست هي الطريقة التي يشتري بها الناس ما يريدون.
أشار سيسبيدس Cespedes في مقالته المعنونة "ما يحتاج مسؤولو المبيعات معرفته عن المشهد الجديد للتبادل بين الأعمال" (What Salespeople Need to Know About the New B2B Landscape) (هارفارد بزنس ريفيو، أغسطس 2015)، إلى أن المشترين يشقون طريقهم عبر ممرات متوازية (لا عبر قمع) إذ يقومون بالاستكشاف والتقييم ويدرسون قرارات الشراء من خلال مواقع الإنترنت، والملفات التعريفية للمنتجات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والتواصل كذلك مع غيرهم من المشترين من خلال مواقع مثل ماركيتو (Marketo).
لذلك تعد المرحلة الأخيرة في عملية البيع أسوأ توقيت للتعامل مع الاعتراضات التي يطرحها الزبائن المحتملون - لأنهم في العادة يكونون قد فكروا في تلك الاعتراضات قبل "إتمام الصفقة" بوقت طويل، ولتجنُّب الصدام فإنهم يذكرون في الغالب سبباً مقبولاً اجتماعياً، كالسعر مثلاً، وهو ما قد لا يكون الحاجز الحقيقي الذي يمنعهم من الشراء. وللتعامل مع هذا الواقع بشكل أفضل، ينبغي على الباعة أن يطلبوا من الزبائن المحتملين تقديم التزامات تدريجية طوال عملية البيع.
أظهرت الأبحاث أن طريقة الالتزامات التدريجية مفيدة في عدة مجالات علاوة على تحسين نتائج المبيعات، حيث يمكن أن تزيد التبرعات الخيرية، وتزيد أعداد المشاركين في حملات التبرع بالدم، إضافة إلى الحد من التدخين. في دراسة مبتكرة، قام فريق يقدم نفسه على أنه من المتطوعين بنشاط في إحدى الضواحي، حيث طلبوا من السكان وضع لافتة كبيرة أمام منازلهم مكتوب عليها "قد سيارتك بحذر". رفض أكثر من 80% من السكان القيام بذلك، ويرجع السبب الرئيس لذلك إلى أن اللافتات ستعوق الرؤية أمام منازلهم. لكن الحظ حالف الباحثين بدرجة أكبر في حي مجاور، حيث طلبوا من السكان في البداية أن يضعوا لافتة صغيرة، بحجم ثلاث بوصات، مكتوب عليها "قد سيارتك بأمان". وافق الجميع تقريباً على هذا الطلب. وعندما عاد الباحثون بعد أسبوعين وطلبوا من تلك المجموعة الثانية من أصحاب المنازل وضع اللافتة الكبيرة المكتوب عليها "قد سيارتك بحذر" في فنائهم الأمامي، وافق 76% على فعل ذلك.
هناك عدة منافع للأسلوب التدريجي في المبيعات. فهو يُمكّن مندوبي المبيعات من تحصيل معلومات أكثر من الزبائن المحتملين وقياس التزامهم بدلاً من مجرد قياس فهمهم - وهذا فارق حيوي في الحديث مع الزبون. يُدرب مندوبو المبيعات في العادة على التقاط عبارات من الزبائن المحتملين مثل "هذا معقول" أو "تلك نقطة صحيحة"، أو إشاراتٍ غير لفظية، مثل إيماءات الرأس. لكن تلك الإشارات أو العبارات تعني فقط أن الزبون المحتمل يفهم ما نقول. وهي في ذلك تشبه كلمة "si" في الأسبانية وفي العديد من اللغات الأخرى، والتي تعني "أنا أسمعك" وليس "أنا أتفق معك".
وعلى عكس ذلك، يتطلب الالتزام اتخاذ خطوات عملية. فعلى سبيل المثال، لو طلبت من حين لآخر من الزبائن المحتملين أن يؤكدوا على موافقتهم على البيانات أو الأهداف التي نقلتها لهم، ثم بعد ذلك سألتهم إن كانوا مستعدين للتصرف بناءً على هذه الموافقة من خلال القيام ببعض الخطوات البسيطة، فعندها سوف تتلقى رداً أكثر وضوحاً. فإذا التزم الزبون المحتمل، يمكنك الانتقال إلى الخطوة التالية، وإلا فينبغي عليك تحديد سبب الاعتراض أو العائق والتعامل معه.
بما أن الالتزامات التدريجية حيوية للغاية، فينبغي أن تبذل جهدك في الحصول عليها. وفي العموم، كلما بكَّرت بالتعرف على الاعتراضات، زاد احتمال إتمام البيع. ويمكن لأسلوب الالتزامات التدريجية كذلك أن يُقنع الزبائن المحتملين بالتغيير، وهو ما يعد أمراً حيوياً في بيع المنتجات والخدمات الجديدة. ذلك أنه إذا لم ترجح الفوائد المرجوة للمنتج الجديد على الخسائر المرافقة للتغيير بفارق كبير، فإن الزبائن المحتملين سيميلون للالتزام بما اعتادوا عليه، وهي ظاهرة تعرف باسم "تأثير التملك". فأسلوب الالتزام التدريجي يمكن أن يساعد في التغلب على العطالة المرتبطة بالوضع القائم.
لننظر إلى شركة باكار (PACCAR)، وهي شركة تعمل في تصميم وتصنيع الشاحنات الفاخرة، واستحدثت باستمرار منتجات جديدة مع الحفاظ على فرق سعر يتراوح بين 10% إلى 20% فوق سعر منافسيها. ومن أسباب نجاح باكار موقعها التفاعلي على الإنترنت الذي يوضح للزبائن المحتملين التكاليف التي تُنفق طوال عمر امتلاك الشاحنة. يمكنك أن تُدخل تكاليف الوقود، والمعامِلات الخاصة بالإطارات ووزن المركبة من أجل تحديد مزايا شاحنات باكار مقارنة بشاحنات المنافسين. وبالمثل يمكن فعل ذلك بالنسبة لقيمة إعادة البيع والصيانة واستبقاء السائقين (وهي بيانات مفيدة إذا كنت تدير أسطول شاحنات)، إضافة إلى تكاليف التمويل.
يُسهل الموقع التفاعلي على الزبائن المحتملين فهم الجوانب الاقتصادية المؤثرة ويسمح لهم بتقديم التزامات صغيرة لكنها ذات مغزى خلال عملية البحث والبيع، مما يقلل من مخاوفهم. لا يعد ذلك إنجازاً بسيطاً نظراً لأن سائقي الشاحنات، مثل سائقي هارلي-ديفيدسون، لديهم في الغالب ولاء شديد تجاه علامة تجارية معينة، حتى إنهم في بعض الأحيان ينقشون شعارها وشماً على أجسادهم. تُحسِّن تلك العملية كذلك إنتاجية المبيعات والبحث عن الزبائن المحتملين، وذلك لأنها تسمح لمندوبي المبيعات بقياس مدى استعداد الزبائن للالتزام قبل أن تكرس باكار موارد مكلفة لإتمام الصفقة.
ثمة شركات أخرى حققت نجاحاً مماثلاً. فإحدى الشركات، التي تبيع خدمات فنية معقدة لشركات الاتصالات، كانت تقضي ما بين 9 إلى 12 شهراً من دورة مبيعاتها التي تتكون من 24 إلى 30 شهراً في إثبات المبدأ (proof of concept) من خلال اجتماعات مع مجموعات متعددة في الشركة - وهي تكلفة مُهدرة كبيرة في حال عدم إتمام الصفقة. لكن الشركة تمكنت، من خلال إدراج عروض توضيحية في أجزاء مختلفة من رحلة المشترين، من زيادة دورة مبيعاتها بمعدل 6 إلى 12 شهراً، كما زادت كذلك معدل إتمام الصفقات وأتاحت وقتاً أكبر للبيع لزبائن محتملين آخرين.
علاوة على ذلك، فإن العديد من الشركات تستخدم حملات التسويق بالمحتوى لاكتشاف الاعتراضات المحتملة، وتوليد الالتزامات الأولية لجوانب متتالية من عروض القيمة التي تقدمها، وكذلك في اكتشاف زبائن محتملين وواعدين بدرجة أكبر. ويعد ذلك مثمراً من الاعتماد على الملفات التعريفية المتاحة للتحميل أو على المدونات، والتي تصل عادة إلى تشكيلة واسعة من المتابعين لكنها تشكيلة غير مثمرة في العادة.
تتيح أدوات تمكين المبيعات الجديدة جعل الالتزامات التدريجية نشاطاً قابلاً للقياس في مسار البيع. فتطبيق شوباد Showpad وغيره من الخدمات تتيح لمندوبي المبيعات إرسال مواد العرض إلى الزبائن المحتملين وملاحظة كيفية تفاعلهم (أو عدمه) مع محتواها. هل اطلع الزبون المحتمل على قائمة السعر؟ هل حول المستند إلى آخرين في قسم المبيعات؟ ما المكونات المرافقة أو العروض التجريبية التي تدفع أو لا تدفع الزبون إلى اتخاذ خطوات عملية؟ هذا التحليل يساعد على تحديد المرحلة الأنسب لاستخدام الالتزامات التدريجية.
إن تسهيل عملية البيع ليس مسؤولية الزبون، بل هو مهمة البائع التي تتمثل في المواءمة بين أنشطة المبيعات وبين سلوك الشراء الفعلي. لذلك لا تتعامل مع إبرام الصفقة على أنه الخطوة الأخيرة في عملية خطية تسلسلية. بل يجب أن تجعل الإبرام يحدث- دائماً وأبداً- من خلال الالتزام التدريجي، على امتداد عملية البيع.