تُعتبر الثقة أمراً هاماً في بيئة العمل، حيث أنه قليل ما ينجح الناس في العمل دون امتلاك درجة من الثقة بالذات. وسواء كانوا شباناً يعملون لأول مرة أو أصحاب خبرة ومركز في المؤسسة جميعهم يمرون بلحظات أو أيام أو أشهر أو حتى سنوات يشعرون فيها بعدم الثقة للتغلب على التحديات. فلا أحد في مأمن من نوبات انعدام الثقة هذه في العمل، ولكن يجب ألا ندعها تصبح عائقاً.
ما يقوله الخبراء
يقول توني شوارتز رئيس شركة "ذي إنرجي بروجكت" (The Energy Project) ومؤلف كتاب "كن بارعاً في أي شيء: المفاتيح الأربعة لتحويل طريقة عملنا وحياتنا" (Be Excellent at Anything: The Four Keys to Transforming the Way We Work and Live): "الثقة تعني الأمان، الذي يعني المشاعر الإيجابية، التي تعني الأداء الأفضل". وكذلك يقول: "كلّ إنسان قابلته يصاب بوباء انعدام الثقة شعورياً أو لا شعورياً". يبدأ التغلب على حالة الشكّ بالنفس عن طريق التقييم الصريح لإمكانياتك ونقاط ضعفك، ومن ثم الاعتراف بها والشعور بالراحة الكافية لتطوير الإمكانات وتصحيح نقاط الضعف. هذا ما قالته ديبورا غروينفيلد الأستاذة في قسم موغادام فاميلي لمادة القيادة والسلوك في المؤسسات ومساعدة مدير البرنامج التنفيذي للقادة من النساء في جامعة ستانفورد للتجارة. وإليكم كيفية تطبيق ذلك والدخول إلى دائرة الرضا عن النفس التي وصفها شوارتز.
الاستعداد
كان معلم البيانو محقاً، يؤدي التدريب للإتقان فعلاً. يقول شوارتز: "أفضل طريقة لبناء ثقتك بنفسك في مجال ما هو استثمار الجهد فيه والعمل بجدّ عليه". يستسلم الكثيرون عند شعورهم بعدم قدرتهم على القيام بعمل ما أو مهمة معينة بصورة جيدة ظناً منهم أنّ جهودهم ستذهب أدراج الرياح. ولكن شوارتز لا يتفق مع ذلك ويقول: "يؤدي التدريب المدروس إلى رفع الكفاءة الطبيعية". وإذا كنت تشكّ بقدرتك على القيام بأمر ما، كالتحدث أمام جمهور عريض أو التفاوض مع زبون مهم، ابدأ باختبار مهاراتك في بيئة آمنة. تقول غروينفيلد: "يمكن أن يكون التدريب مفيداً جداً، ويُنصح به بشدّة لأنه يبني الثقة ويحسّن الجودة. لذلك، قم بتقديم عرضك الكبير فعلياً أكثر من مرة قبل الموعد المحدد. وفي مجال التجارة مثلاً افتتح متجرك تجريبياً قبل الافتتاح الحقيقي". لأنه حتى من يتمتعون بثقة في قدراتهم ستزيد ثقتهم مع الاستعداد بصورة أفضل.
حاول الخروج عن مسارك
يُعتبر الواثقون من أنفسهم مستعدين للتدرب دائماً، ولديهم الاستعداد للاعتراف بعدم معرفتهم لكل شيء، وعدم قدرتهم على معرفة كل شيء. تقول غروينفيلد: "من الأفضل إدراك أنك تحتاج للمساعدة. إذ يتوجب وجود درجة معينة من الثقة، وبالأخصّ الثقة بقدرتك على التعلّم، كي تكون مستعداً للاعتراف بحاجتك إلى الإرشاد والدعم".
وعلى الجانب الآخر، لا تدع الخجل يشكل عائقاً بالنسبة لك. فغالباً ما ينشغل الناس بنظرة الآخرين عن التركيز على ما يستطيعون تقديمه. ذلك ما تقوله كيتي أورينستاين، مؤسسة ومديرة "مشروع أوبد" (The OpEd Project) وهو مشروع غير حكومي يقوم بدعم النساء ليستطعن التأثير بالسياسة العامة عن طريق نشر مقالات رأي في الجرائد. وتقول موضّحة: "حين تدرك قيمتك بالنسبة للآخرين لن تكون الثقة بعد ذلك متعلقة بالترويج لنفسك. في الحقيقة، لن تكون الثقة هي الكلمة المناسبة حينها. بل ستكون متعلقة بالهدف". لذلك، عوضاً عن تعذيب نفسك برأي الآخرين فيك أو في عملك، ركّز على المنظور الفريد الذي تمثله.
اطلب التقييم عندما تحتاج إليه
يمكن أن يكون تأييد الآخرين فعالاً جداً في بناء الثقة، ولكن يجب عليك ألّا تعتمد بصورة كليّة على آراء الآخرين لتعزيز الثقة بنفسك. تقترح غروينفيلد أن تطلب رأي شخص يهمّه تطورك وجودة أدائك، وهنا تنبّه غروينفيلد إلى التوقف عن الوثوق بالتقييمات التي تكون إيجابية فقط. فيجب الحرص على اختيار أشخاص تكون تقييماتهم صادقة تماماً، ومن ثم اعتبار أي تعليق إيجابي صادق طريقة لإبقاء المعنويات مرتفعة وطريقة للمساعدة على الاستمرار.
وكذلك، تذكر أنّ البعض يحتاجون للدعم أكثر من غيرهم، لذلك لا تخجل من طلب الدعم عند الحاجة. مثلاً، تقول غروينفيلد: "كشفت نتائج مشروع البيت الأبيض (The White House Project) أنّ العديد من النساء يحتاجون لمن يشجعهم على التقدم لمنصب ما قبل أن يقرّرن الإقدام على ذلك. بينما لا يبدي الرجال هذا النمط من الحاجة لتأييد الآخرين أو تشجيعهم". وبالنتيجة، لا بأس إن كنت بحاجة لبعض الإطراء.
قم بالمجازفة
يُعتبر الاستمرار بالعمل ضمن مواضع قوتك خطة ذكية، ولكن لن تكون كذلك إذا كان السبب في هذا الأمر يعود للتردد في قبول تحديات جديدة. فالكثير منا لا يعرف إمكانياته إلى أن يختبرها فعلياً. تقول غروينفيلد: "جرب أشياء تعتقد أنك غير قادر على فعلها. فالفشل يكون مفيداً جداً في بناء الثقة بالنفس". بالطبع، التحدّث عن هذا الأمر أسهل بكثير من تطبيقه. يقول شوارتز: "من المزعج أن تجد أنك لا تجيد عملاً ما. ويزداد إيمانك بنفسك عندما تصبح أفضل في أي شيء". ولكن، لا تفترض أنك ستشعر دوماً بالرضا. في الحقيقة، الوسيلة الوحيدة للنمو تتمثل بالضغط على نفسك. وطلب المساعدة من الآخرين يجعل الأمر أسهل. إذ تنصح غروينفيلد بأن تطلب من مشرفيك السماح لك بخوض تجارب في مبادرات أو مهارات جديدة عندما تكون المجازفة فيها قليلة نسبياً، ومن ثم اطلب منهم دعمك وتشجيعك في التغلب على هذه التحديات.
مبادئ عليك تذكرها
ما عليك القيام به:
- كن صريحاً مع نفسك بشأن ما تعرفه وما تزال بحاجة لتعلمه.
- تدرّب على القيام بالأمور التي لست واثقاً من إجادتك لها.
- اغتنم الفرص الجديدة لإثبات أنك تستطيع القيام بأمور صعبة.
ما عليك عدم القيام به:
- المبالغة في التركيز على ما إن كنت تمتلك القدرة أم لا. بل عليك التفكير بالقيمة التي تقدمها.
- التردد في طلب تأييد الآخرين إن كنت تحتاجه.
- القلق بشأن ما يظنه الآخرون. بل ركز على نفسك لا على جمهور نظري يطلق الأحكام.
دراسة حالة رقم 1: اكتسب المعرفة واخرج عن مسارك المألوف
في عام 2010 قام المدير التنفيذي في مشفى للجراحات الخاصّة ضمن مدينة نيويورك بالطلب من مارك أنجيلو إنشاء برنامج لتطوير الجودة والفعالية وتطبيقه. كان مارك حينها حديث العمل في المؤسسة، إذ كان يعمل في العام السابق قبل أن يصبح مدير العمليات وخطوط الخدمات في المشفى كزميل عمل. وعلى الرغم من امتلاكه خلفية عن استراتيجيات العمليات تعود لفترة عمله كمستشار إداري، إلا أنه لم يكن على دراية كبيرة بمبادئ نظام تحسين الأداء "لين 6 سيغما" (Lean/Six Sigma) الذي سيحتاجه في مشروعه، ولم يشعر أنه مؤهل لبناء البرنامج من الصفر. إذ كان قلقاً جداً من عدم قدرته في الحصول على الدعم اللازم من أطباء المشفى وممرضيها، فماذا سيكون ظنهم بالإداري الشاب الذي لا يملك خبرة في عمل المشافي وهو يملي عليهم كيفية تحسين الجودة وزيادة الفعالية؟
صارع مارك لمدة خمسة أشهر من أجل وضع المشروع قيد التنفيذ وكانت ثقته بنفسه مزعزعة. وكان يعلم أنّ جزءاً من مخاوفه سببه قلة معرفته بنظام 6" سيغما". فقام بقراءة عدد من الكتب والمقالات عن الموضوع وتحدث إلى شركات استشارية متخصصة فيه، وتحدث مع مستشفيات كانت ناجحة في تطوير برامج مماثلة وتطبيقها. كلّ هذا كان مساعداً، ولكنه أدرك أنه مازال لا يعلم حول قدرته في الحصول على موافقة المعنيين على مشروعه. يقول مارك: "كنت قلقاً ومتوتراً لأنني لم يكن لدي أية فكرة عن الطريقة التي سأقوم فيها بتحويل المؤسسة. عرفت أنني لن أستطيع القيام بذلك وحدي. بل كان الأمر سيحتاج لمجهود جماعي يشمل فريق إدارتنا وجميع موظفينا".
تحدث مارك مع المدير التنفيذي الذي كان يدعمه منذ البداية، كما طلب من عائلته الدعم العاطفي. ومن خلال محادثاته هذه معهم، أدرك أنّ قلقه نشأ من رغبته بنيل إعجاب زملائه وبالتالي تفادي الخلافات. يقول: "بعد عدة حوارات مع مديري التنفيذي ومراقبة كيف تولّى أمر هذه المواقف، تعلّمت أنه من الأفضل العمل بجد لنيل الاحترام لا لنيل الإعجاب".
كانت هذه نقطة تحوّل لمارك، فبدلاً من القلق الكبير بشأن ما سيظنه الآخرون عنه، ركّز على فعل الأفضل للمرضى وللمؤسسة. وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول، قدم عرضاً للبرنامج أمام الكادر الطبي بأكمله. وكان يعلم أنها لحظة حاسمة على الرغم من شعوره بالتوتر حيال كيفية تقبلهم للعرض. يقول: "لقد استطعت الوقوف أمام إحدى أقوى الجهات لدينا وتقديم الرؤية التي عملنا على تطويرها في فترة الشهور الماضية". كان عرضه ناجحاً وتم الترحيب به، حيث يقول: "في النهاية، ارتفعت ثقتي بنفسي كثيراً واستطعنا تصميم برنامج تمّ تطبيقه بنجاح كبير في كامل المشفى. لقد استطعت التغلب على العقبات المعنوية ونقص المعارف التي كنت أعاني منها لبناء برنامج سيساعد على تحويل طريقتنا في تطوير الأداء والعناية بالمرضى."
دراسة حالة رقم 2: اعرف القيمة التي تقدمها
كانت جولي تعلم أنّ لديها ما تريد قوله، ولكن لم تعلم كيف ستتمكن من إيصال صوتها إلى الجهات المعنية. وبصفتها مديرة تصميم المنتج في شركة فيسبوك، استطاعت تطوير خبرات قيّمة في المنتجات التي عملت عليها. ولكنها بالرغم من ذلك كانت ما تزال تفتقد الثقة بنفسها لطرح أفكارها. اعتادت أن تكون واحدة من النساء القلائل في المكتب، وكانت كذلك باستمرار منذ أيام دراستها لعلوم الكمبيوتر في جامعة ستانفورد. ولذلك عرفت أنّ عليها بذل مجهود مركّز للنهوض والتكلم عن الأمر. ولكنها تقول: "لم يكن شعوري بعدم الثقة بسبب أني من فئة الأقلية فقط، إنما كنت أعاني كذلك مما يدعى "متلازمة المحتال" (imposter syndrome)"، أي الشعور بأنها لم تستحقّ وجودها في هذه الوظيفة، وأنها وصلت إليها بالصدفة وليس بعملها الجادّ.
شعرت جولي بحماس كبير عندما علمت من أحد موظفي الموارد البشرية بوجود ورشة عمل في جامعة ستانفورد يقيمها "مشروع أوبد" (Op-Ed Project). وبعد أن شاركت في ورشة العمل وحازت على تقييمات إيجابية لأفكارها هناك، جرّبت جولي فعل شيء لم يخطر لها القيام به من قبل، وهو كتابة مقالة رأي افتتاحية، حيث نشرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي مقالاً في جريدة نيويرك تايمز يتحدث عن مخاطر إخفاء الهوية في الحوارات التي تُقام على الإنترنت. تقول جولي: "كل ما كنت أحتاجه هو أن يقول لي أحد ما أنني أستطيع القيام بذلك. لم يخطر لي يوماً أنه يمكن نشر مقال لي، ولكن الأمر لم يكن صعباً أبداً".
عززت ردّة الفعل التي وجدتها جولي في ورشة العمل، والتي وجدتها بعد ذلك في شركة فيسبوك، ثقتها بنفسها. ومنذ ذاك الوقت، حصلت على دعم كبير من زملائها، ما أعطاها الجرأة للتكلم عما يدور في خلدها. تقول: "بالطبع مازال الأمر قيد العمل، ولكنني أصبحت الآن أكتب وأتحدث بثقة أكبر بكثير".